النقد الأدبي: ألِيسْ في بلاد المعارف/ محمود عبد الغني
“على النقاد نزع الأقنعة” (رولان جاكار)
“النقد سهل والفن صعب” (ديستوش)
“من الصعب أن نرى في النقد شيئاً أكثر من كونه فرعاً بريئاً من فروع الدراسة. إن مصادره تبدو عفوية ووجوده يبدو طبيعياً” (تيري إيغلتون)
من كتاب إلى كتاب. من قراءة إلى أخرى، يريد الناقد امتلاك شجاعة ثقافية يضعها رهن إشارة الكاتب، لمساعدته، وليتحدّث عن كتابه، وعمله الأدبي، كما لو أنه هو من كتبه. هذا هو معنى أن تكون ناقداً أدبياً. ومعناه أيضاً، أن تحكي تلك المغامرات الروحية على تخوم الأعمال الأدبية الكبرى. إن الناقد هو سيد الاختفاء بين الأعمال الكبرى. من هذه الناحية، فتشديد حاتم الصكر في مقالته (الناقد الأدبي، والناقد المتفلسف، ضفة ثالثة، 18 مايو)، ونبيل سليمان (2 يونيو، حول النقد والفلسفة: وصال أم انفصال)، على أن النقد هو ممارسة أدبية، يجعله في منأى عن أن يصبح غريباً عن النص، أو في أحسن الحالات، في غنى عن أن يجتاز طريقاً طويلاً، وشاقّاً نحو النص البعيد. هذا النص الذي نعرف جميعاً أنه مسكون بعوالم، بل ومحيطات، تسيل من حبر قلم المؤلف (الأديب). ورهان هذا الأديب، كما أثبتت علوم النفس والاجتماع واللسان، هو أن يكون مقروءاً الآن (في الحاضر)، ويخترق تخوم الزمن نحو أزمنة أخرى.
“نص”، “منهج”، تلك هي قضية النقد الأدبي منذ بداية القرن العشرين. لذلك على كل ناقد أن يشعر بالأسى حين لا تطالعه الصحف والمجلات الأدبية المتخصصة عن الـ 100، أو الـ 1000 عمل نقدي في القرن العشرين، مثلما يحدث في الرواية أو الشعر مثلا. عمل إحصائي مثل هذا، يسهر عليه متخصصون، سينجم عنه إفراز نقاش سيتخذ وجوهاً عديدة، لكن أهمها وجهان بارزان، حاضران في كل الأزمان وفي كل الحقول التي تتداخل فيها الأفكار بالفن: “نقد الأساتذة”، ونقد الفنانين”، حسب تصنيف ألبير تيبودي. لكنه تصنيف، في كل الحالات، يصدق على مجمل أنواع الخطابات.
إن ما نظن أنه معارف وأفكار ينطوي عليها العمل الأدبي، أو الفني، ويجب على الناقد أن يتسلّح بمثل تلك المعارف حتى يخترق العمل ويخرج ما في أعماقه، يشبه التضليل الثقافي الذي يلجأ إليه النقاد الذين أشار إليهم الصكر. والنجاعة الفعالة هي الوعي بأن “الأفكار الموجودة في أعماق العمل”، والتي تتطلب قراءة جديدة، واقتساماً للعمل بين العلوم، هي تصنع نفسها مع الزمن. إنها ترجمة ينجزها الزمن. ولن تنتهي أو تكفّ عن التوالد في زمن ما. وبالتالي على الناقد أن يمتلك نفس النظرة اللامنتهية، شريطة أن تكون موزعة على الأزمنة. وإذا ما حدث وتناسلت في لحظة واحدة، فإنها اغتيال غير متوقّع للعمل الأدبي. وهذا ما قصده الصكر بـ”التفلسف”.
إننا نرى عبر مراحل مختلفة طبعات متتالية، وتفاوتاً زمنيا للأعمال الكبرى. وهي طبعات لا تنتمي للناشر، بل لمعدّ الطبعة الذي غالبا ما يكون ناقداً ودارساً متخصصاً، يجعله الناشر شريكاً معاصراً لعمل أدبي ينتمي إلى أزمنة ماضية، من أجل إضاءته من جديد، على ضوء العلوم والمراحل التاريخية والاجتماعية. الناقد هنا يمتلك العمل الأدبي “الكلاسيكي”، ويسلط عليه ضوءه. هكذا تمت إعادة نشر أعمال كلاسيكية، وسُميت الطبعة باسم الناقد او المتخصص الذي وضع دراسة جديدة لتلك الأعمال، هنا نماذج من محيط شاسع من الأعمال: “الأب غوريو” لبلزاك، طبعة “فيليسيان مارسو”- “أزهار الشر” لبودلير، طبعة “كلود بيشوا”- “رسائل فارسية” لمونتسكيو، طبعة “جان ستاروبينسكي”- رسائل ستاندال “إلى الأرواح الحساسة، 1800-1842″، طبعة مارييلا دي مايو”- “بيل-آمي” لموباسان، طبعة “جان-لويس بوري”- رواية فيرجينيا وول “السنين”، طبعة “كريستين جورديس”- رواية كافكا “التحول”، طبعة “كلود دفيد”- وروايته “القضية” طبعة نفس الدارس الفرنسي المتخصص في أدب كافكا. هنا الناقد هو صاحب الطبعة، والسبب هو القيمة المضافة التي يضيفها للعمل الكلاسيكي بفضل دراسته التي تتصدر العمل. ويستطيع قارئ تلك المقدمات (الدراسات) أن يفهم العمل من جديد على أضواء جديدة. بل وأن يستوعب دينامية النقاش الذي يفتحه الدارس مع العمل الكلاسيكي المنبعث من جديد. والدافع من وراء تكليف الناشر أحد المتخصصين لكتابة دراسة جديدة، تُضاف إلى آلاف الدراسات التي كتبت عن العمل الكلاسيكي، هو أن “هناك أدباً، ولذا –ولأننا نرغب في فهمه- فإن هناك نقداً أيضا” (ت. إيغلتون).
هناك استعارة جميلة لـ”رولان جاكار”: “الأدب، يشبه دائما البندقية: لنفتح أعيننا على سعتها، ولنسدّ أنوفنا”. إنها الحواس في حالة القبول أو الرفض. وعلينا أن نتخيل كم من زائر للبندقية في اليوم الواحد. إنه زمن النقد الأدبي، مثلما كان القرن التاسع عشر زمن التاريخ. لكن حين نقرأ تلك الأحكام النقدية المنحرفة، ونرى تأثير تلك الأحكام على قارئها، وربما على المؤلفين أنفسهم، تخطر إلى الذهن لفظة “اندحار”. فحين يتفلسف الناقد، فإنه يعود إلى الماضي. إنه يرمي بقوة النقد إلى الوراء. لنتذكر أننا لو تحدثنا أمام شخص إغريقي عن الشاعر، والمسرحي، والفيلسوف، فإنه سيستغرب، بل وسيقوم بحركات زائر البندقية. لم يكن الإغريق الأوائل يفرقون بين الأديب والفيلسوف. لقد كانوا قلّة، وعليهم القيام بكل الوظائف: التفكير وإنتاج الفن. لكن الدخول إلى نظام قيم جديد ومرتب، هو خروج من الكلاسيكية إلى الحداثة. وحتى إن استمرّت الكلاسيكية، فعلينا القيام بالعديد من التدابير لتحديثها، هنا نموذج البلاغة يقف ساطعاً ومفيداً. مثلما هو مفيد نموذج “بوالو” وفولتير عند حديثهما عن النصوص الجيدة أو الرديئة، في احترام تام، أو خرق، للذوق، والقواعد، والطبيعة. يشير “روبير أندر” إلى أن آراء فولتير في المسرح سيطرت طيلة قرن كامل. النقد، إذن، إمبراطورية، وقد ازدادت شساعتها وسيادتها اليوم، في هذا الزمن الذي أصبح فيه الأديب يعرف الشيء الكثير عن عمله، ولا ينتظر من الناقد أن يلعب دور المرشد، أو الحكم. لم يعد أي مكان لـ “سانت بوف” الذي يشلّ حركة بلزاك، ويتجاهل بودلير (ر. أندري). مقابل ذلك سيأتي “تيوفيل غوتيي” ويكرّس دراستين عميقتين للأخير. هنا سأقول مع حاتم الصكر، لا مجال للتفلسف، وسأضيف: لا مجال للإيديولوجيات أيضاً. إننا نعرف عنها الشيء القليل والكثير في نفس الآن. لذلك ملاذ النقد الأدبي الأخير، أن يبقى نشاطاً أدبياً. والأديب يفضّل هذا النشاط، لأنه سيمكنه من خلط ما يعرفه بما أضافه الناقد الذي يعلم جيداً حدود كل جنس أدبي، وقوانينه، ومتغيراته. فيما الفيلسوف لا يؤمن بحدود الجنس الأدبي. إن الدخول في عصر خلط القوانين الداخلية للعمل الأدبي، هو نزوع فلسفي. وهذا ما جعل قطاعاً واسعاً من النقاد يتغاضى عن عمل أدب كبير، سينتظر لحظة إشراقه الخاصة في زمن لاحق. عندها سيزيد هذا العمل، المنسي، من شساعة الحقل الأدبي، ومن سماكة مفاهيمه.
إن ما كتبه حاتم الصكر له أهمية خاصة في هذه المرحلة الغامضة من الثقافة العربية، حيث يسود صمت “النقاد الأساتذة” و”النقاد الفنانون”، ولم نعد نرى سوى حركات أفواه “النقاد المتفلسفون”، الذين ينبغي أن نوجه إليهم كلام جان كوكتو، الذي سبق واستشهد به “فرانسوا نوريسيي”: “ما ننتقده فيكم هو أنتم، تذكروا ذلك”.
النقد شريك طيفي للأدب. وإذا كان عكس ذلك فإنه قد قُبض عليه في وضعية تناقض، حسب تعبير إيغلتون.