صفحات الثقافة

المشهد الثقافي الكُردي في سورية

 

 

 (1-2): بحث عن هوية

عماد الدين موسى

تشهد المناطق ذات الكثافة الكرديّة في سورية – في السنوات الأخيرة – حراكاً ثقافيّاً جليّاً، مقارنةً بما كان عليه الحال في السابق. بدأت المؤسسات الثقافية والمجلات المختصة بالظهور، وحركة الترجمة عن وإلى اللغة الكردية من مختلف اللغات بدأت تنشط، أغلب النشاطات الثقافية التي كانت حكراً على جماعات “شلليَّة” تم إلغاؤها والتركيز على العمل الجماعي ومحاولة مأسسة العمل الثقافي عوضاً عن حالة الإقصاء والمزاجيَّة التي كانت موجودة في زمن مؤسسات النظام السوري، وما كان يفعله الأخير في سبيل تدمير اللغة الكردية وتدمير التوجّه الكردي نحو ثقافته وإلباسه على الدوام لبوس الانفصاليَّة وحمل السلاح وخلق الفوضى.

خلال هذا التحقيق سنتعرّف من خلال كتّاب وشعراء كرد يعملون في الداخل السوري منذ بدء الحراك الشعبي في عموم سورية، على أبرز الآراء والنظرات إلى حال الثقافة في وضع “الحرب” السورية وبالتحديد العمل الثقافي في المناطق الكرديَّة، هل حقاً هناك نشاطات ثقافيَّة؟ أو ربما من الأفضل التساؤل: كيف هو الوضع الثقافي الكردي في زمن الحرب؟ وما هي الأولويات التي من الممكن أن نسلّط الضوء عليها بالنسبة لشعب حُرِم من لغته ويكافح الآن لغةً لإعادة وجوده، ما هي نقاط الضعف والقوّة التي من الممكن الاستناد إليها في تكوين صورة حقيقية وصحيحة عن الوضع هناك، في المنطقة التي حُرِم أهلوها من كلّ شيء في فترات زمنيَّة طويلة، الثقافة التي كانت ممنوعة سوى بلغةٍ واحدة وطريقةٍ واحدة، ولكن ما هو الجديد بعد كلّ ذاك الألم؟

عباس علي موسى: الهوية الثقافية

لا شكّ أنّ اللغة الكردية هي أكثر اللغات غبناً في سورية، وهو أمر ينسحب على الكتابة بهذه اللغة أيضاً، فقد كانت سنوات الحرمان الطويلة لهذه اللغة – تعليماً وتداولاً – كافية لخلق هوّة بين الحالة الثقافية الكردية المفترضة والكتابة بلغة هذه الثقافة والتي هي الكردية. إنّ الحديث عن الكتابة باللغة الكردية وانبعاثها، ونشاطها، وما إلى ذلك من تفاصيل متعلّقة بالحالة الثقافية ينسحب بطبيعة الحال على مسألة الهوية الثقافية الكردية، لأنّ البوصلة في تحديد هذه الهوية لا شكّ هي الكتابة بهذه اللغة، لكنّ ظروف الحرمان الطويلة خلقت فصاماً في الحالة الثقافية الكردية، فهناك كتّاب من أصول كردية يكتبون بالعربية كلغة ثقافة وأدب وفكر، فهل نتاج هؤلاء يصنّف ضمن النتاج الكردي؟ هذا السؤال شغل المثقفين طيلة عقود ولا يزال.

إنّ ظروف الحرب أفسحت المجال لكتّاب الكردية المتخفّين بحروفهم للظهور على الملأ، وصارت اللغة التي كان يمكن الاعتقال على خلفية تعليمها أو تداولها مدعاة للفخر والاعتزاز، فسنيّ الحرب في سورية أفسحت مجالا لانبعاث اللغة الكردية، كما أفسحت مجالات الشأن العام الأخرى، وصارت اللغة الكردية لغة الإعلام، وتسابقت المواقع إلى افتتاح أقسام خاصة في مواقعها بالكردية، وتهافتت المكاتب السياسية والمراكز المدنية والثقافية إلى افتتاح دورات اللغة الكردية، بهدف إنعاشها، وساعد ذلك على توسيع قاعدة القرّاء بالكردية، كما أنّ صدور بعض الصحف والمجلات بالكردية إلى جانب العربية كان له دور في تفعيل هذه اللغة.

إنّ المشروعات التي عُنيت بالثقافة والكتابة الكردية هي قليلة أو معدومة في جو كان من الممكن أن تبدي فيه هذه اللغة الكثير من النشاط بما يليق بتاريخها العريق ومدوّنتها الشفاهية الأدبية الضخمة، كما أنّ إرداف الكردية إلى جانب العربية وبالمقاييس ذاتها يشكل غبنا للغة الكردية، فاللغة العربية لغة متسيّدة بفعل سنوات طويلة من فرضها لغة رسمية دون غيرها، فهي بطبيعة الحال تأخذ الدور من الكردية، التي ينبغي الاهتمام بها أكثر من العربية لمحاولة الارتقاء بالحالة الثقافية.

مشروع سورمَي (وهي مجلة فكرية ثقافية ثنائية اللغة “الكردية والعربية”) كان جديا في هذا الاتجاه، فقد جعل القسم الكردي مستقلاً عن العربي مع الاشتراك في محاور الملفات المطروحة، كما قامت المجلة بترجمة القصة العالمية “بياض الثلج” عن الإنكليزية إلى الكردية، وأصدرت بحثا عن الواقع الثقافي بالكردية، العربية والإنكليزية، فاللغة الكردية في مشروع المجلة ليس زركشة لغوية وإنما بنية للثقافة الكردية، وهنا أيضا يمكن الإشارة والإشادة بمشروع هنار الثقافي الذي جعل من اللغة الكردية عمادا لمشروعه، والاهتمام بشكل جاد بالترجمات من اللغات العالمية إلى الكردية.

يبقى القول إنّ الثقافة والكتابة الكردية تحتاج إلى جهود أكبر من المثقفين والكتّاب كونها خسرت الكثير بسبب الإهمال حينا والكبت السياسي أكثر الأحيان.

ثمة بالتأكيد مشاريع ومبادرات في اتجاه الارتقاء بهذه الثقافة وخلق أجواء ثقافية، إلا أنّ المأمول أكبر من الواقع لجهة العمل بجدّ أكثر وربط الموضوع هوياتيا بالاختلاف لغة وثقافة، والائتلاف مع اللغات الأخرى كالعربية والسريانية.

جوان نبي: دور المواقع الإلكترونية

لا يخفى على أحد حجم الإقصاء الذي كان يمارسه النظام السوري، بأجهزته الأمنية على الثقافة والكتابة باللغة الكردية. أن تحمل كتاباً كردياً مثلاً كان جريمة، تستوجب اعتقالك، رغم ذلك لم تتوقف الكتابة باللغة الكردية والحالة الثقافية الكردية كانت في أوج جمالها، ولا سيما بعد ظهور المواقع الإلكترونية التي منحت الكاتب الكردي فسحة أكبر للكتابة والتعبير، لكن أن تعيش بحرية في الحالة الثقافية الكردية، أن تكون كاتباً كردياً، دون أن تخشى الاعتقال والسجن، ذلك ما بقي حلماً جميلاً، يراودنا جميعاً. الحلم تحقق مع بداية الاحتجاجات الشعبية في سورية وتخفيف قبضة الأجهزة الأمنية، حيثُ بدأت الأنشطة الثقافية الكردية تقام دون خشية ورقابة وكذلك عملية النشر.

الآن هناك أنشطة ثقافية كردية كثيرة تقام وتأسس أكثر من اتحاد للكتاب الكرد وأكثر من مؤسسة ثقافية ودار نشر، أمسيات شعرية دائماً، محاضرات عن التاريخ والتراث الكردي، لكن ما يؤخذ على ما سبق هو أنها لم تعد باللغة الكردية كما كانت سابقاً وخلف ذلك أسباب كثيرة لا يسع الوقت هنا لسردها، ربما خشية الكاتب الكردي من غياب القارئ الكردي تأتي في المقدمة، ولا سيما سيطرة مواقع التواصل الاجتماعي وظهور القارئ المستعجل، الذي يجيد اللغة العربية بطلاقة مقارنة مع اللغة الكردية، التي تتعبه قراءتها نتيجة حرمانه من ممارستها، حتى لا أنسى: اتحادات الكتاب الكرد أيضاً فشلت في خلق الحالة الثقافية الكردية، التي نسعى إليها وذلك نتيجة عدم استقلالها وخضوعها للحالة السياسية الكردية والتي يدرك الجميع حجم الخلاف والهوة بين أحزابها وما يسعون إليه.

ربما لن يعجب الكثيرين ما أقوله، تستطيع حذف ذلك إذا أردت، لكني لا أرى أي انبعاث للكتابة باللغة الكردية، على العكس من ذلك ثمة تراجع مخيف في الأمر مقارنة مع ما سبق من الزمن رغم المساحة الكبيرة من الحرية التي تتوفر الآن، ثمة تأخر مقلق لظهور جيل جديد يكتب باللغة الكردية ويفكر بها.

حكيم أحمد: تصدع جدار الخوف

في كلّ شهرٍ تظهر أسماء جديدة في مدينة قامشلو، اتحاداتٌ وجمعيّات، مهرجانات ومعارض ودور نشر، والأكثر جدّةً في الأمر أنّ معظمها رفع عن نفسه غطاء السياسة الفاقع – على الأقلّ أمام العيان – بعد أن تصدّع جدار الخوف من الرقابة الأمنيّة، غير أنّ الحضور الجماهيريّ الذي اشتعل في السنوات السابقة إبّان الثورة بدأ ينحسر تدريجيّاً ليقتصر على المهتمّين فقط، وفي بعض الحالات لا يتجاوز عدد الحاضرين عدد المشاركين إلا قليلاً.

لم يعد مهرجان الشعر الكرديّ الذي كان ينعقد في مخابئ منزوية على أطراف المدن والقرى وفي أقبية وزرائب أحياناً الواجهة الوحيدة والأكبر للثقافة الكرديّة، الآن يمكن لكلّ جهة أن تقيم مهرجاناً أدبيّاً أو تقيم نشاطاً لتوقيع كتب أو عرضها في معرض، إضافةً للأمسيات والمحاضرات التي خرجت من الغرف الضيّقة إلى قاعات ومراكز واسعة وعلنيّة.

أظنّ أنّه من المبكّر الحديث عن نتائج إبداعيّة لمرحلة الإعلام والنشر والتعليم باللغة الكرديّة، لكنّ الكتابة بالكرديّة خرجت من القمقم لتظهر بعدها نماذج عديدة، معظمها قديم لكنّ الجديد هو ظهورها للعلن واعتلاؤها لمنابر كانت تحرّم اللغة الكرديّة حتّى في حصّة التعبير بالمدرسة.

توجد فئة ما زالت تحت تأثير قمع اللغة وكمّ الأفواه، يكفيها بوح بكلمات من الطفولة وأنينٌ بأدوات لغتها أو صيحة باسم مدينة كرديّة أو قائد كرديّ حتّى تهدأ ثورة نصوصها، والنص في معظم تلك الكتابات يبدو أشلاء غير متناسقة ألصقت عنوةً تحت مسمّىً واحد، وفئة أخرى حملت اللغة الكردية كصخرةٍ ثقيلة وعياً بالواجب القوميّ أو مجاراةً للعصر الجديد أو حتّى ضمانةً لمكانة مستقبليّة، هذه الفئة تنتج النصّ مترجماً، لا أعلم إن كان هذا الجنس موجوداً في لغات أخرى، فكاتب النصّ يخرجه مترجماً منذ ولادته الأولى، ربّما ضاع الأصل في عمق ذاتٍ منهوبة وروحٍ لغويّة قمعت طويلاً. الأوفر حظاً برأيي هم العشرينيّون والثلاثينيّون عمراً، أولئك الذين بدأوا الكتابة بالكرديّة قبل الثورة وما زالوا في طور نموّهم الإبداعي فجاءت الظروف مواتية لنضج نماذج مشرقة.

والفئة الأولى التي لم نذكرها للنهاية هي أجيالٌ سابقة غُمر جهدها دائماً لأنّ أفرادها اختاروا الكتابة بلغتهم، البعض منهم في أوج عطائه والبعض يتطلّع لتقاعدٍ ربّما حان وقته لكنّ الظروف غير مواتية للتقاعدات والتكريمات، وقد تجد مَن كان يزهو بتفرّده في حمل همّ الكتابة بلغته ويتفاجأ الآن بعدد من يدّعون الإبداع ولسان حاله يسأل: من أنتم؟

مريم تمر: الكتابة بالكردية

في ظل الأزمة السورية وهامش الحرية الذي تمتعت به منطقتنا، أصبحت تقام نشاطات ثقافية متعددة، من أمسيات شعرية ومحاضرات ثقافية ومعارض فنيّة/ تشكيلية، بالإضافة إلى صدور العديد من الصحف والمجلات في المنطقة، وكذلك إقامة مهرجانات فنية وأدبية وأخيراً معرض للكتاب.

وكان هناك للغة الكردية الظهور الأميز وحسن الاهتمام، سواء في المدارس أو من خلال إقامة الدورات التعليمة، إذ بقيت هذه اللغة مهمشة لسنوات في مجال طبع الكتب للذين يكتبون بالكردية فحسب.

الآن هناك اهتمام وتشجيع للكاتب الذي يكتب بالكردية، وما شجع على ذلك انتشار وسائل إعلامية ناطقة بالكردية من إذاعات وصحف ومجلات بعضها باللغة الكردية وأخرى ثنائية اللغة (كردية وعربية).

الكثير من الكتاب الذين يكتبون بالعربية منذ سنوات يتوجهون حالياً للكتابة بالكردية، وهناك من يكتب بالكردية منذ سنين يرى نتاجهم النور من خلال طبعها في مؤسسات مختصة.

إنّ المناطق (البلدان) التي تعيش حالة الحرب وتعاني ما تعاني من ويلاتها، تكون هذه النشاطات برغم بساطتها أحياناً، دليلاً جليّاً على أن شعبها شعبٌ يعشق الحياة والجمال.

عبد المجيد خلف: الثقافة والسياسة

تشهد المناطق الكردية في سورية حركة ثقافية محمومة، وانطلاقة واسعة، أما عن الكيفية التي تتم بها هذه الحركة، فهناك تفاؤل كبير في بعض الجوانب، وضعف في جوانب أخرى، وهذا بدوره يرجع إلى العقلية التي ما زالت سائدة لدى الكرد من تبعات الأوضاع السياسية السابقة، وتراكماتها، والتي تؤثر بشكل سلبي في هذه الحركة، إضافة إلى تأثر الحركة الثقافية نوعاً ما بالحركة السياسية، وتكون في بعض الأحيان، ولدى البعض، جزءاً لا يتجزّأ منها؛ فهي لسان حال الحزب، وأفكاره، وهناك كمٌّ كبير في التأليف، الكتابة والتدوين، أما الكيف فمختلف تماماً، وينصبّ هذا الكم كله في مجال الشعر تقريباً، أما الرواية، القصة القصيرة، المسرح والدراسات، فتكاد لا توجد، أو ميتة على الأغلب، والسبب يعود في ذلك إلى استسهال عملية الكتابة في كافة المجالات، وخاصة في مجال الشعر، من دون التقييد بالضوابط، والقواعد الرئيسة له، وتمارس الحركة الثقافية نشاطات مختلفة، منها تاريخية، وخاصة من قبل جمعية (سوبارتو للتاريخ والفلكور والتراث الكردي)، وتقوم بإقامة المعارض، الندوات، وإجراء الحوارات المفتوحة في كافة المجالات، وتولي اهتماماً كبيراً باللغة الكردية، سواء من قبل الإدارة الذاتية خاصة، أم من قبل المنظمات، والجمعيات، التي تفتح دورات تعليمية لها؛ من أجل تعلّمها، والكتابة بها، ويقوم الكثير من الكتّاب في هذه الفترة بالإقبال عليها، وتعلّمها، حتى أنه (الكاتب)، يشعر بالحرج من عدم إتقانها، وخاصة عندما تجرى معه مقابلة من قبل إحدى وسائل الإعلام. بالنسبة للجيل الجديد فهو يتعلم اللغة الكردية، ويتقنها، أكثر من الكبار أحياناً، ويقبل على الثقافة نوعاً ما، وإن كان دون المستوى المطلوب، وهذا يعود بدوره إلى عدم اهتمام القائمين على الحركة بإعداد الكوادر الشابة من أجل ذلك، ويتم التشجيع على الثقافة بكافة الأشكال، ومن ذلك إقامة معرض للكتاب، وتأسيس دور النشر، التي تركز في أغلب منشوراتها على الدراسات والأبحاث، وإقامة مهرجانات للقصة والمسرح، والموسيقى والغناء، والدبكات الشعبية، إلا أنها، وفي كل ذلك تحتاج إلى تنظيم أقوى، واهتمام أكثر، لتكون أكثر تأثيراً في المجتمع، وقادرة على القيام بدروها على أكمل وجه…

المشهد الثقافي في المناطق الكردية 2 -2

إبراهيم خليل:

شكل انطلاق الثورة السورية نقطة انطلاق لنهضة ثقافية أدبية غير مسبوقة في المنطقة الكردية تجسدت على أرضية أجواء الحرية التي خلفها انسحاب النظام بأجهزته القامعة، وأصبح التحرك على الصعيدين الثقافي والسياسي أكثر سهولة وأقل كلفة وخطورة، ما سمح بالتأسيس لبنية تحتية وفوقية ثقافية يمكن أن نعقد عليها الآمال وإن كانت لا تزال في طور النمو وتعاني من نواقص كثيرة.

في “روجافا” اليوم حركة ثقافية نشطة ومتسارعة ويمكن لأي مراقب أن يلاحظ حجم الازدياد الواضح في أرقام الكتب والمطبوعات الكردية بشكل خاص بالإضافة إلى الأمسيات والمهرجانات وحفلات توقيع الكتب الصادرة حديثاً، ناهيك عن الصحف والمجلات الدورية.

ثمة حركة انبعاث للغة الكردية فهي اليوم لغة رسمية في الإدارة والتعليم والأدب وتسير بخطوات واسعة نحو المعيارية والاستقرار بفضل الدعم الرسمي وتعدد دور النشر والطباعة ووسائل الإعلام والاتصال التي تتعامل بها وتتخذها لغة رسمية وحيدة أو مشتركة مع العربية.

لقد أفرزت الحرب السورية جيلاً جديداً سرعان ما تأقلم مع الواقع غير الطبيعي الذي تعيشه البلاد بشكل عام وعوض النقص الذي أصابه نتيجة انهيار النظام التعليمي في البلاد بلجوئه إلى الدورات المهنية والتخصصية واتجاه الغالبية العظمى منهم بعد ذلك نحو أجهزة الإعلام والمنظمات الإغاثية الدولية لأسباب تعود إلى ضيق ذات اليد والمرتبات المجزية التي تقدمها تلك الجهات قياساً إلى غيرها.

للأسف ثمة نقص واضح في الجوانب الأدبية خصوصاً والثقافية عموماً، فرغم الأحداث الكبيرة والمتسارعة التي تمر بها المنطقة لم تظهر شخصيات أدبية أو ثقافية يعتد بها ولا حتى أعمال ذات قيمة فنية يمكن اعتبارها ممثلة لواقع الحال، ومعظم ما أنتج وصدر أقرب ما يكون إلى نتاج مرحلة سابقة ليس من السهولة الانسلاخ عنها.

خوشمان قادو:

الحديث عن المشهد الثقافي في سورية، لاسيما في عهد حزب البعث، أشبه بالحديث عن حوار بين السجين والسجّان. ربما هذه الصورة المشوّهة، من قِبل سجّاني الثقافة في دولةٍ للاستخبارات يدٌ طولى في كل شيء، توضّح كيف كان التعامل مع هذا المفهوم الذي تطوّر في لغات الشعوب ليأخذ اصطلاحا واضحا بعيدا عن معنى المفردة نفسها.

أما بالنسبة للحديث عن المشهد الثقافي الكردي في سورية، فهو أشبه بالحديث عن النظرية الداروينية أو نظرية غاليليو في العصور الوسطى. الثقافة الكردية كانت محظورة في شتى المجالات، لذا بقيت ملحقا لنشاطات الأحزاب الكردية السرّية. من خلال هذه النقطة الثقافة الكردية غدت أسيرة الفكر الحزبي الأيديولوجي ولم تستطع مواكبة الحدث الثقافي المزدهر في العالم. من جهة، الحظر المفروض على اللغة الكردية لم يتح المجال أمام أن يكون الكرد لسان حالهم وثقافتهم، عدا محاولة بعض الكتّاب الكرد، ومن جهة أخرى غرّد العديد من الكتّاب الكرد خارج سرب لغتهم والتجأوا إلى لغة التعليم لديهم (العربية) ليعبّروا عن أنفسهم ولكن بلسان من حظر عليهم لغتهم. ما أدى ذلك إلى خلق نوع من التناقض في الهوية الثقافية ذاتها. فكيف تكون كرديا ولا تكتب ولا تتكلم ولا تدرس بلغتك، وكيف تكون كرديا ولا تساهم في ازدهار ثقافتك ومن ثم نقلها للآخر. كل هذا أدى إلى تقزيم خزينة الثقافة الكردية تمهيدا لإبادتها على يد النظام الحاكم، كما تم اختزالها في مجال المظلومية الكردية على يد المثقفين الكرد.

الوضع الآن مختلف تماما، مع رد الاعتبار للشخصية الكردية، التي كانت دوماً محل اتهام واستهزاء، وإصرار الكرد في مناطق تواجدهم، والمُدارة من قبلهم هم وشركائهم، في سورية، بعد الانتصارات التي حقّقوها، بدأ جيل جديد من المثقفين الكرد العمل على رسم ملامح جديدة لثقافتهم من خلال مشاريع اختصاصية، وبجهود فردية تسعى إلى المأسسة كركيزة لمرحلة مقبلة، قادرة على النهوض بثقافة شعبٍ يا ما حُرّفت وزُيّفت.

شيرو هندي:

الكمّ والنوع في النشاطات الثقافية التي تشهدها المنطقة الكردية سوف نعرفها مقارنة مع ما قبل مرحلة الأزمة السوريَّة، كم التغيير الحاصل هو تغيير جذري في النشاط الثقافي الكردي السوري، بالمحصلة إن رغبنا الإقرار بهذا التغيير الجذري سوف نستحضر حالتين إيجابيتين، ففي البداية اللغة الكردية كانت ممنوعة بشكل أو بآخر رسمياً وكان العمل فيها من ناحية النحت والبلاغة قليلا بالنسبة للأشخاص الذين عملوا فيها، بالمحصلة كنا نتأتى على نصوص هزيلة وأشخاص معينين يحتكرون حالة الكتابة وهؤلاء الأشخاص كانوا مسيسين ولهم علاقات مع أحزاب معينة، لم يكن هناك حالة ثقافية بالمعنى الحقيقي الصرف.

الأمر الثاني: بكل الأحوال كان هناك كتّاب خجولو الطرح، منشورات نادرة، وهذا أثّر في علاقة الكاتب بمنجزه الأدبي الخاص وبالتالي علاقة المادة المنجزة بالمتلقي. في النهاية حصلنا على كتاب ذاتيين منغلقين يعيشون في صومعات أو مجموعات صومعية غريبة عن المجتمع وليست موائمة للوسط الثقافي السوري العام، والاهتمام الزائد رسمياً بالشيء الكردي في الوقت الرّاهن هو شيء كمّي، ولكن في المحصلة بمقدورنا أن نحصي المواد القَّمة أكثر من أي وقت مضى، الكم يفرز النوع حتماً.

التواصل مع الثقافة الكردية في الوسائل الإعلامية العربيَّة على أنها مادة سياسية صرفة أو على أساس سياسي كان أمراً خاطئاً، على الرغم من احتواء المادة المنجزة بشكل أو بآخر على سياسة.

في المجال السينمائي، العمل الكثيف الذي ينجز سينمائيَّاً في المنطقة له أسباب متعددة، المادة الكتابية كانت باللغة الكردية وكان من السهل إنجازها ولا تحتاج إلى معدّات تقنيَّة أو مادية على الأقلّ، على العكس من السينما التي تحتاج إلى عدد هائل ضمن إنجاز فيلم واحد، كما أن حالة القمع التي كانت موجودة حتى على صعيد التقاط صورة فوتوغرافيَّة قبل الأزمة السورية منع من بناء حالة سينمائية وفي المحصلة البدء من نقطة الصفر وهذا أمر مكلف ويحتاج إلى صبر طويل.

هذا الأمر– ومن خلال تجربتي الشخصيَّة– استرعى أن نبدأ بالتدريب وعرض الأفلام السينمائية للحصول أولاً على متلقّ يفهم السينما وصيرورتها، من هنا كان لا بدّ من تأسيس معاهد السينما ومؤسسات سينمائيَّة، أي مأسسة هذا الفن لتقوم على قائمة معيَّنة، رغم الحرب والحصار.

جوان تتر:

الفوضى هي المتسيّدة الآن، وربمّا المبالغة في تلك الفوضى أيضاً أدّت إلى التشويه! لا يمكن إنكار الجهد العظيم الذي يبذله البعض الآن، وفي هذا الوقت الهامّ بالذات، غير أن العشوائية تسبّبت في عدم إمكان القبض على التفاصيل التي من الممكن تطويرها أو العمل على إنضاجها، ربما يجدر القول: ضاعت التفاصيل المهمَّة أمام سيل الكمّ الذي أغرق كل شيء، الجيّد والرديء معاً، شيء ما يشبه الحرق الكليّ!

اللغة الكردية أو الأدب الكردي الآن (بمعزل عن ثراء الماضي) في حالة الكمّ، النوع موجود حتماً، لكن الكمّ الهائل الذي أتاحته وسائل التواصل الاجتماعي جعل من الفوضى سيدة الحالة، وبالتالي ضياع النوع.

كما أن انعدام فكرة (مأسسة الأدب والترجمة) جعل من أمر التطور رهاناً ضخماً ومدعاة للتفكير في ما سيؤول إليه الحال فيما بعد هذه الفوضى. أعني هل هناك فعلاً من يدوِّن؟

لا يمكن أيضاً في السياق إنكار النشاطات الثقافيَّة التي تُعلَن في المنطقة الكردية بحكم الحريَّة الحاليَّة، وفي سياق هذه الحالة أيضاً، ثمّة من يصرّ على الكلاسيكيَّة أو الهوس بمرض (لأولّ مرّة)! أعني لا وجود لأفكار مجدِّدة كالتي رافقت الثورات في البلدان الأوروبية وبعض البلدان العربيَّة، أغلب النشاطات متمحورة حول (اتحادات ثقافيَّة) أرنو إليها وكأنها مشلولة تماماً، العقل الأدبي أو اجتراح الجديد للدلالة على التطور والخروج من عباءة الماضي غير متوفّر إلّا بالنذر اليسير، سيقول أحدهم إنّ السبب هو في الأوضاع الأمنيَّة وانقطاع السبل مع العالم بريَّاً وجويَّاً ما تسبّب في حالة الفوضى وعدم الاطلاع على منجز الآخر، لكن من الممكن القول أيضاً أنّ الشيء ينطلق من المحليَّة نحو العالميَّة، هذا دأب الجميع في أرجاء المعمورة قاطبةً، في اللغة الكرديَّة والموروث الثقافي الكردي ما يمكن (من خلال المعالجة الصحيحة البعيدة عن أي عداء) أن ينافِس العالم، وينافس كل ما هو مدرج عالمياً في قائمة التراث الإنساني، شعب يغنّي حتّى وهو يدفن الشهداء (حالة شعريَّة من الممكن تنظيم أفكار عظيمة عنها)، ومن ثم يبكي كل شخص بمفرده وداخل قلبه، يغنّي وهو يقاتل قوى الظلام، كل هذه التفاصيل ضاعت في خضمّ الصراعات السياسيَّة، التفاصيل التي من الممكن الكتابة عنها وتنقيتها وتقديمها على أنها كتابة في مرحلة الحرب، كتابة في مرحلة تحديد الوجود وتقرير المصير وبالتالي خلق نوع أدبي خاصّ من الممكن أن يُقرأ في أي زمنِ قادم.

إدريس علي: موجة حداثية جديدة

لوحظ في الفترة الأخيرة نشاط متميّز في الحركة الثقافية الكردية في المناطق الكردية استحوذت مدينة القامشلي على الجزء الأكبر من هذا النشاط، من خلال انتشار مراكز ومنتديات ثقافية، ودور نشر اهتمّت بالأدب الكردي والأدباء الكرد، وبجميع الأجناس الأدبية التي تناولت معظمها الأزمة الراهنة ومفرزاتها.

لكن هذا التميّز في النشاط الثقافي ـ للأسف ـ كان في الكمّ وليس في النوع، فظهرت أسماء كثيرة في مختلف الفنون الأدبية دون المستوى المطلوب، إذ دخلت الانتماءات السياسية والولاءات الحزبية في فرز الأسماء وترقيعها، إلى جانب غياب النقد الحقيقي لمجمل نتاجات الأدباء في المنطقة، فظهرت المجاملة والمحاباة في معظم القراءات التحليلية والنقدية للكتب والنتاجات الأدبية، وأغلبها خلا من عناصر النقد والتحليل العميقين. فالأدب الحقيقي يستمدّ قوّته من النقد، لأنه يمهّد الطريق أمامه و يطوّره، وبه تنشط الحركة الأدبية وتصبح أكثر غنىً.

لذا لا نستغرب بروز أسماء لا تستحق نتاجاتهم الذكر والشهرة المزيّفة التي رافقتهم خلال مسيرتهم الأدبية القصيرة.

ولكي نكون منصفين، حافظ عدد من الأدباء الكرد على رونق كتاباتهم، كما دخلت الساحة الأدبية أسماء جديدة كموجة حداثية جديدة في الثقافة والأدب الكُردي المعاصر، توضحت ملامحها البكر في الأعوام الستة الماضية، ورغم غياب بيان أدبي جامع، إلا أنها استطاعت مزاحمة كبار الأدباء بما قدّموه من جمال.

أما بخصوص انبعاث الكتابة باللغة الكردية، وعلى الرغم من سنوات الحرمان إلا أنّ هناك محاولات للنهوض بالأدب المكتوب كرديا، لكن تبقى دون فاعلية ناجعة إذا بقيت رهينة الانتماءات والولاءات السياسية والتي من شأنها أن تسهم في تدهور الكتابة باللغة الكردية بدل إحيائها وتدفقها نحو التنامي والسمو، كما أن لتلك الخلافات أثرا كبيرا في غياب مبدعين عن المراكز الثقافية والنشاطات المقامة فيها، إذ إنّ الكثيرين من هؤلاء يفضّلون الغياب عن الساحة الثقافية الموبوءة بالسياسة، وبالتالي خسارة الساحة لهم ولإبداعاتهم ولخبراتهم.

ضفة ثالثة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى