صفحات سوريةطارق عزيزة

تركيا والشمال السوري: أهداف ثابتة وتفاهمات متغيّـرة/ طارق عزيزة

 

 

لم تغب تركيا عن المشهد السوري طيلة سبع سنوات عجاف، وإن كانت المواقع والأدوار التي شغلتها فيه متغيّرة في شكل مستمر، نتيجة التقلّبات في بورصة الاحتمالات والسيناريوات المتعددة التي خيّمت عليه، بمعطيات عصيّة على الانتظام في أنساق قابلة لتحليل منطقي جدير بكشف مآلاتها. فكانت إيقاعات الصراع المركّب في سورية وعليها، لا تنفكّ تضطرب أو تنضبط متفاعلةً من حيث التأثير والتأثّر بالتطورات الميدانية. ولم يكن ذلك كلّه ببعيد من تفاهمات أو خلافات واختلافات الفاعلين الإقليميين والدوليين المنخرطين في المقتلة السورية على مرّ حلقات مسلسلها الدامي الذي لم تحن نهايته بعد. ضمن الديناميات ذاتها وما تنتجه من «تفاهمات»، تعود تركيا إلى صدارة المشهد عبر دور جديد، مع بدء عملية نشر جنودها في محافظة إدلب السورية.

السبب الرسمي المعلن للانتشار التركي الأخير يندرج ضمن ترتيبات ضمّ إدلب إلى مناطق «خفض التوتر»، وفقاً لمخرجات اجتماعات آستانة في نسختها السادسة، فضلاً عمّا يفترض أن يكون من دعم تركي لعمليات تنفّذها فصائل من «الجيش الحرّ» بغطاء جوي روسي، ضدّ تنظيم «القاعدة» في سورية، وآخر أسمائه «هيئة تحرير الشام»، ما يعني أنّ تركيا ستشارك في «الحرب على الإرهاب» في سورية، وهي التي رفضت من قبل المشاركة في التحالف الدولي الذي شكّلته الولايات المتحدة ضدّ تنظيم «داعش»، حتى أنّها لم تسمح لطيران التحالف باستعمال قواعدها الجوية لتنفيذ عملياته ضدّ التنظيم الإرهابي. فما الذي تغيّر؟

واقع الحال يشي بأنّ هذا التدخّل مرتبط مباشرةً بالأكراد وسيطرتهم على مناطق واسعة من شمالي سورية، ومعلومٌ أنّ الشأن الكردي لطالما كان محدّداً أساسياً في رسم سياسات الحكومات التركية، داخلياً وخارجياً. الآن، تحرص تركيا كل الحرص على منع المقاتلين الأكراد من استكمال السيطرة على المنطقة الحدودية شمالي سورية، لا سيما الحيلولة دون تمكّنهم من الوصول إلى منفذ على البحر المتوسط، الأمر الذي لا يمكن أن يتم من دون تغلغلهم في مناطق من أرياف حلب وإدلب. هكذا يصبح مفهوماً كيف أنّ انتشار القوات التركية، ونقاط المراقبة التي أقامتها في محافظة إدلب، تتموضع في مواقع متاخمة لمناطق السيطرة الكردية. اللافت ما تناقلته بعض وسائل الإعلام، نقلاً عن مصادر ميدانية مطّلعة، من أنّ مقاتلي «هيئة تحرير الشام» ذاتها – أي «القاعدة»- رافقوا القوات التركية وأمّنوا لها الحماية حتى وصولها إلى حيث تقرر نشرها، مع العلم أنّ «الهيئة» تعارض مخرجات آستانة، والتي أرسلت تركيا قواتها بموجبها، وسبقت الإشارة إلى أنّه يُفترض بالأخيرة دعم عمليّة «الجيش الحرّ» ضدّ «الهيئة»!

من جهة ثانية، يبدو أن الأكراد يشكّلون اليوم سبباً رئيسياً لتجميد خلافات أنقرة وطهران، حيث باتت الأولوية لديهما العمل معاً في مواجهة «الخطر» الذي قد يشكّله استقلال كردستان العراق وتداعياته المحتملة عليهما في ضوء الاستفتاء الكردي الأخير. فمشاركة إيران في وضع ترتيبات ضم إدلب إلى مناطق خفض التوتر، وتالياً قبولها الدور التركي المستجدّ هناك، يعكسان توافقاً بين الجانبين، الإيراني والتركي، سيحلّ إلى حين محلّ تنافسهما المزمن في سورية.

ما من شكّ في أن اعتبارات «الأمن القومي» لتركيا تفسّر جانباً رئيسيّاً من سياساتها السوريّة، لكنّه ليس العامل الوحيد، فهي تسعى الى أن تكون القوة المهيمنة سياسياً واقتصادياً في الشمال السوري، بخاصّة مناطق غرب نهر الفرات، ابتداءً من جرابلس شمالاً وحتى إدلب وريفها الذي يكتسي أهمّية خاصّة نظراً لتداخله الجغرافي مع ريفي اللاذقية وحماه، وهذا ما يضمن لتركيا إمكان التأثير في تلك المناطق مستقبلاً. ولم تعد الأطماع التركية خافيةً على أحد، فما تقوم به حكومة أردوغان من إجراءات على الأرض تهدف إلى تثبيت أمر واقع من السيطرة الناعمة في العديد من مناطق شمالي سورية يؤكّد ذلك، ودخول الجيش التركي إلى إدلب سيعزّز من تلك الإجراءات ويفتح المجال أمام التوسّع فيها.

ها هي مؤسسة البريد التركية، وهي مؤسسة حكومية، تفتتح فرعاً رسمياً لها في مدينة جرابلس السورية، بالتزامن مع العملية العسكرية التركية الأخيرة، علماً أنها ليست أول مرّة تظهر فيها لافتات رسمية على مرافق تدل على التبعية للحكومة التركية. فبعد دخول الجيش التركي إلى جرابلس قبل نحو عامين، أقامت وزارة الصحة التركية مستشفى سُمّي باسم المدينة، ورُفعت عليه لوحة تحمل شعار وزارة الصحة التركية والعلم التركي وعبارة «الجمهورية التركية – وزارة الصحة – مشفى جرابلس». ولعلّه من المفيد التذكير أيضاً بحادثة أخرى وقعت في المدينة ذاتها، تكشف جانباً من طبيعة ما تقوم به تركيا هناك. ففي مطلع العام الحالي، انتشر على مواقع التواصل مقطع فيديو مصوّر لعناصر شرطة «سورية الحرة» التي أشرفت تركيا على تدريبهم ونشرهم في جرابلس، ظهر فيه قائد الشرطة يهتف لأردوغان وتركيا ومئات العناصر يردّدون خلفه تلك الشعارات. حينذاك، راق الأمر للإعلام التركي، فقامت مختلف محطات التلفزة والمواقع الإلكترونية التركية ببثّه.

يظهر أنّ التطوّرات الأخيرة منحت أردوغان فرصة لإحياء طموحاته الرامية إلى تكريس دور إقليمي ودولي محوري لتركيا عبر البوابة السورية، إذ جاء تحرّكه هذه المرة ثمرةً لاجتماعات آستانة، حيث تُطبخ على نار روسيّة هادئة وقائع يُراد لها أن تكون أساساً تقوم عليه «التسوية» المرتقبة. فموسكو، من خلال مسار آستانة التفاوضي، تسعى إلى أداء الدور الحاسم في ضبط التوازنات، وإدارة صراع النفوذ والمصالح الإقليمية على الأرض السورية، ولتكريس هذا الدور تعقد اتفاقات «خفض التوتّر» وتعمل على إدراج أكبر قدر ممكن من «المعارضة المسلّحة» ورعاتها الإقليميين ضمن ترتيباتها، يساعدها في ذلك غياب أيّ فاعلية أميركية جدّية في الشأن السوري حتّى اللحظة.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى