ملاديتش والأسد: مصادفات التاريخ العشوائية/ صبحي حديدي
مصادفات التاريخ عشوائية غالباً، رغم أنّ الفرصة متاحة على الدوام لإقامة الروابط بينها، على أساس من مفارقات التاريخ ذاته، ودروسه الماضية. وهكذا، في ظهيرة اليوم الذي شهد الحكم بالسجن المؤبد على مجرم الحرب الصربي راتكو ملاديتش، في لاهاي حيث تنعقد جلسات المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة؛ كان الرؤساء الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان والإيراني حسن روحاني، يشاركون في إصدار حكم لا يغسل يدَي بشار الأسد من جرائم الحرب والإبادة الجماعية واستخدام الأسلحة المحرّمة دولياً، بما فيها الكيميائية، فحسب؛ بل كانوا يحثون السوريين على إعادة توليف الأسد، وغسله وتنظيفه وتنصيبه، لخمس سنوات أخرى، على الأقلّ!
ملاديتش لقي بعض جزائه، وليس كامل ما يستحق حسب سجلات التاريخ التي باتت حقائق ثابتة، بسبب مسؤوليته عن مقتل 8.000 بوسني مسلم خلال مجزرة سربرنيتشا، في تموز (يوليو) 1995، وحصار سراييفو حيث قتل أكثر من 11 ألف مدني على مدى 43 شهراً. الأسد مسؤول عن مقتل 350 ألف مواطن سوري، وتشريد الملايين، وتخريب سوريا طولاً وعرضاً؛ ولكن قمّة سوشي تعيد تثبيته في الموقع ذاته الذي يمكنه من حصد أرواح آلاف جدد، وتدمير المزيد من المدن والبلدات والقرى، وتسليم ما تبقى من البلد رهينة أمام جحافل الميليشيات الغريبة والاحتلالات الأجنبية. وليس عجيباً، بالطبع، أن يكون رعاة توليف مجرم الحرب هذا، هم أنفسهم دعاة «السلم» و«الاستقرار» و«المصالحة الوطنية» و«إعادة الإعمار» في سوريا!
يبقى أنّ الحكم على ملاديتش يرسل إلى أمثاله من الناجين، وخاصة أولئك الخاضعين منهم لعمليات التجميل والتأهيل وغسل الأيدي المضرجة بالدماء، رسالة صريحة تفيد بأنّ حساب التاريخ آت لا محالة، طال الزمان عليه أم قصر. هذا ما قاله الكثيرون اليوم، تعليقاً على قرار قضاة لاهاي، ممّن ذكروا الأسد بالاسم أولاً؛ ثم ذهب بعضهم أبعد، حين ذكّر بأن طلقاء على غرار رئيس الوزراء البريطاني توني بلير والرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن، يستحقون الوقوف في قصف الاتهام، كتفاً إلى كتف مع ملاديتش.
والحكم، من جانب آخر، يرسل رسالة أخرى ذات طراز مختلف، حول مدى قدرة محاكم مثل هذه على بلوغ الحدود الكافية، وليس تلك الدنيا فقط، من واجب إنصاف الضحية. ففي قرار سابق، اعتبرت محكمة العدل الدولية أنّ ذبح آلاف المسلمين البوسنيين في بلدة سربرنيتشا كان إبادة جماعية منظمة، من جانب أوّل؛ وأنّ حكومة صربيا تتحمل مسؤولية الفشل في منع وقوع المجزرة، من جانب ثان. وذاك قرار استحق الترحيب لاعتبارات إنسانية وقانونية وسياسية عديدة، لكنه ظلّ إشكالياً وناقصاً وقاصراً في آن معاً؛ لأنه ببساطة حصر صفة الإبادة الجماعية في مجزرة سربرنيتشا وحدها، وتجاهل أنّ هذه لم تكن سوى مجزرة واحدة ضمن «مشروع صربي متكامل لتدمير المجتمع الصربي المسلم، اعتُمدت في تنفيذه أعمال القتل والاغتصاب والتهجير الوحشي»، كما كتب الأكاديمي البريطاني مارتن شو، صاحب كتاب «ما هي الإبادة الجماعية؟».
كذلك كان مدهشاً أن تقرّ المحكمة الدولية بمسؤولية الحكومة الصربية، وتلك كانت مسؤولية جسيمة لأنها تخصّ جرائم حرب وجرائم بحقّ الإنسانية، بدليل نصّ القرار ذاته (الذي يقول بالحرف إنّ السلطات الصربية وقفت متفرجة حين كان يجري ذبح 8.000 رجل من مسلمي البوسنة)؛ وأن تمتنع، في الآن ذاته، عن إدانة الحكومة الصربية بجريمة الإبادة الجماعية، رغم أنّ هذا بالضبط هو جوهر الدعوى المرفوعة إلى قضاة لاهاي. ما أدهش أكثر أنّ قرار المحكمة الدولية أقرّ، صراحة وبوضوح أقصى، أنّ صربيا انتهكت بنود «ميثاق منع وعقاب جرائم الإبادة»، الذي صدر سنة 1948 للبتّ في قضايا الهولوكوست وإبادة اليهود، ووقّعت عليه يوغوسلافيا في حينه؛ ليس بصدد منع وقوع مذبحة سربرنيتشا، فحسب، بل الفشل في القبض على ملاديتش، المدان غيابياً بتهمة تنفيذ المذبحة، وتسليمه إلى القضاء. وما أدهش، ثالثاً، أنّ المحكمة تجاهلت الدور الأممي إزاء ما جرى، أي مسؤولية قوّات السلام التابعة للأمم المتحدة، وتحديداً القوّات الهولندية دون سواها، في عدم بذل أيّ جهد لوقف المذبحة على الأقلّ، وليس الحيلولة دون وقوعها.
وكالة الصحافة الفرنسية لم تغفل الإشارة إلى صُور فوتوغرافية وأشرطة سينمائية تبرهن على وقوف الهولنديين مكتوفي الأيدي أمام فصول المجزرة، إذا لم يتحدّث المرء (كما يفعل كثيرون من مسلمي البوسنة في الواقع) عن «أعمال تواطؤ على التصفية العرقية» شاركت فيها الوحدات الهولندية. وفي كلّ حال، لا يسع المرء ذاته ـ في قضية بالغة الخطورة، والحساسية، مثل هذه ـ إلا أن يتعامل بجدّية، وبالكثير من المرارة واليقين، مع نتائج تحقيق أجرته الشرطة العسكرية الهولندية في العام 1999، ونشرته تحت ضغط الرأي العام وأحزاب المعارضة؛ يقول بوضوح إنّ «القبعات الزرق كانت لديهم أحكام سلبية ضدّ المسلمين، بينما حملوا آراء إيجابية جداً حول صرب البوسنة».
وسوى ذلك كيف نفسّر تلك الصورة الشهيرة التي تظهر ضابطاً هولندياً، هو العقيد توم كاريمانس، يمازح الجنرال ملاديتش ويتبادل معه الأنخاب والضحكات المجلجلة، في تلك الفترة السوداء الدامية تحديداً؟ وكيف يمكن إغفال أقوال ضابط هولندي ثانٍ، رون روتن، أقرّ بأقصى الوضوح الممكن أنّ عناصر الوحدة الهولندية العاملة تحت راية الأمم المتحدة ساعدوا جنود صرب البوسنة على «جمع المسلمين في مجموعات من 60 إلى 70 شخصاً، وتكديسهم في آليات تحت أنظار الصرب الساخرين»؟ وكيف لا تُضاف إلى بند التواطؤ تلك التقارير التي تحدثت عن وجود أفلام أخرى، بمثابة أدلة دامغة على صمت الهولنديين أو تقصيره أو تواطئهم؛ وأنها «تعرّضت للتلف أثناء التظهير»، ليس في أي مكان آخر سوى معامل وزارة الدفاع الهولندية ذاتها؟
وفي صيف 2001، حين جرى تسليم الزعيم الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش إلى محكمة جرائم الحرب الخاصة بيوغوسلافيا السابقة، كانت الفضيلة الكبرى لذلك الإجراء تتمثل في أنّ هيئة دولية واحدة على الأقل ارتأت التمييز بين الحاكم والمحكوم في تصنيف سلّم المسؤولية، وفصلت المقال الحقوقي بين الصرب كشعب وأمّة، وبين ميلوسيفيتش كحاكم وفرد. وكانت تلك خطوة إلى الأمام، دون ريب، بيد أنها ظلت جزءاً من مسيرة تحكمها القاعدة العتيقة: خطوة إلى الأمام، خطوتان إلى الوراء. وليس أدلّ على ذلك من حقيقة أن ساسة الحلف الأطلسي واصلوا التفاوض مع ميلوسيفيتش، الحاكم والفرد، طيلة سنوات بعد قرار إحالته إلى المحكمة. وليست دبلوماسية صائبة، إذا لم تكن دبلوماسية خرقاء سيئة النيّة، تلك التي تتفاوض مع خصم بعد تجريمه، كما عبّر آنذاك وزير الداخلية الفرنسي الأسبق جان بيير شوفنمان.
على الوتيرة ذاتها، ولكي تتقاطع مصادفات التاريخ العشوائية، كان الرئيس الروسي يطري جنرالات جيشه من آمري آلاف طلعات القصف التي ألحقت الخراب في طول سوريا وعرضها؛ وفي الآن ذاته يبلغ نظيريه، التركي والإيراني، أنّ الأسد ملتزم «بمبادئ الحل السلمي للأزمة السياسية، والاستعداد لتنفيذ الإصلاح الدستوري، وإجراء انتخابات حرّة برعاية الأمم المتحدة». كان القضاة في لاهاي يصدرون الحكم على مجرم حرب، ظنّ أنه نجا من ملاحقة أشباح الماضي وعذابات ضحاياه؛ وكان الساسة في سوتشي يستبقون أي حكم عن طريق استصدار صكّ براءة بحقّ مجرم حرب، ظناً منهم أنّ إعادة إنتاجه هنا، سوف تنجيه من حساب الضحية هناك.
ظناً، أيضاً، أنّ مصادفات التاريخ ليست مثقلات حبالى، يلدن كلّ عجيب!
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي