..حكايتنا “الشعب السوري ما بينذل”..
فخر الدين فياض
وصفها الصحفي البريطاني روبيرت فيسك بعد زيارة لها في الثمانينيات بمملكة الخوف.. في حين قال عنها رياض ترك “مانديلا سوريا”: إنها مملكة الصمت.
بلاد يحكمها قانون غير مرئي، ارتبط بالأب القائد وحضوره الطاغي، واستمر مع الابن القائد أيضاً.. فتحولت دمشق معهما إلى خليط من بيونغ يانغ وموسكو وكوبا.. وتشيلي أيام الديكتاتور.
تسير بها الحياة اليومية منذ أربعة عقود، بثبات وتوازن غريبين على العين الخارجية.. وعاديين في نظر “ابن البلد”.. وربما هكذا تبدو!!
بلاد كل شيء مسموح بها لمن يملك مفاتيح السلطة والمال.. وكل شيء ممنوع لمن لا يملك مفتاحاً..
إنها سوريا التي يستعصي الأمر بها على من يريد فتح كشك بيع سجائر لسد الرمق، وربما يحتاج إلى “معجزة”.. ويمكن للورقة الأمنية أيضاً أن تمنع زواج رجل بامرأة استوفيا جميع شروط المجتمع والشرع!!
لكنها سوريا أيضاً التي تغير دستورها بربع ساعة ليناسب عمر الشاب الذي ورث شيئاً غريباً في بلد جمهوري، ورث بلاداً وعباداً..
كذلك يمكنها رفع الحصانة عن نائب في برلمانها خلال ربع ساعة واقتياده مخفوراً إلى أحد مراكز الاعتقال ليعامل كما اللص والقاتل..
وكذلك يمكن أن يمضي المرء عشرين عاماً سجيناً فيها دون محاكمة..
إنها سوريا.. لأربعة عقود: مملكة صمت وخوف معاً!!
فجأة تتحطم جدران الخوف السميكة، وجدران الصمت العالية.. يملأ السوريون شوارع المدن والبلدات يهتفون للحرية.. ومع أول صرخة يستعيدون كرامتهم، ويكتشفون أنهم مازالوا على قيد الحرية… والحياة.
مفاجأة؟!!
رغم ثورة تونس العظيمة، وثورة مصر الاستثنائية عبر التاريخ، وثورة ليبيا واليمن وباقي الاحتجاجات في إيران والجزائر والمغرب والبحرين.. إلا أن النظام صدمه شعار البلاد والعباد:
“حرية حرية.. سلمية سلمية”
وربما صدم من أول حالة غضب في شارع الحريقة: “الشعب السوري ما بينذل”..
وأعتقد أنه صدم من هول مفاجأة بدت أكثر دهشة في نظره.. لقد اكتشف شعباً مازال يقيم في سوريا!!
حقاً في الأمر مفاجأة مذهلة لكل من كان يرى سوريا في أواخر 2010، ويراها اليوم في شهر ثورتها الثالث: من شعب يسير “الحيط الحيط” إلى شعب يقترب من الأساطير في بطولاته..
ينهض الشهيد القتيل ليدافع عن الشهيد الحي..
ينسكب الرصاص على صدور المدنيين فيهتفون: “ليش خايفين.. مو خايفين”
لم يشهد التاريخ حنجرة تقاوم قذيفة دبابة، ويعلو صوت الجموع مخاطباً الجموع، أمام جنازيرها العاتية وقذائفها: لا تهرررررربوا!!
لم يشهد التاريخ مظاهرات تبدو معارك جبهات بين فريقين: أحدهما أعزل والآخر ماكينة قتل باردة..
ولم يشهد التاريخ متظاهراً يقرأ الفاتحة ويتشَّهد قبل خروجه من منزله.. ويحدث نفسه بواقعية وهو يسير خطواته الأولى نحو الشارع:
“اليوم سأتلقى رصاصتي..”
المتظاهرون في سوريا فدائيون من طراز خاص، لم يعرفه الفيتكونغ ولا البلاشفة.. فدائيون يهاجمون البنادق والقذائف بصدور عارية وأصوات ترتفع نحو السماء: “سلمية.. سلمية”..
هل عرف التاريخ شعباً قدم هذا العدد الهائل من الفدائيين الذين نراهم جمعة إثر أخرى.. بدءا من جمعة الكرامة.. وصولاً إلى جمعة “آزادي”؟!
حكايتنا بسيطة..
خمسة عشر طفلاً حاكوا ثورتي تونس ومصر وكتبوا على الجدران “الشعب يريد إسقاط النظام”.. اعتقلوا في أمكنة لا يتخيلها الكثيرون في العالم، ولا يعرف حقيقتها الكثيرون داخل البلد.. إنها أقبية المخابرات التي ترتجف رُكب الرجال لمجرد سماعهم بها..
اعترفوا بكل شيء قبل الحديث معهم..
خُوفوا وعُذبوا وأعادوا اعترافهم مرات ومرات..
انتزعت أظافرهم وأعادوا اعترافهم للمرة الألف..
ولم يفرج عنهم..
الأمهات والآباء توسلوا بعد رجاء وبكاء.. قبّلوا أيادٍ جيدة وأخرى سيئة على أمل استعادة أطفالهم.. لكن حقداً بالغ السواد واجههم في وجوه أصحاب القرار والسلطة..
“فزعة يا حوران.. فزعة من أجل هؤلاء الأطفال”
فزع البعض.. واعتصموا في مسجد يناشدون معتقلي الأطفال إعادة أطفالهم.. أعطوهم وعداً وعهداً بإعادة أطفالهم يومذاك، لكنهم هبطوا عليهم من السماء بحوامات سفحت دماء حوران، بريئة كما هي فزعتهم.. وحارّة كما هي عروقهم تغلي بالكرامة والحرية.. ارتفع الدم عن الرصيف على هيئة شعب وهتف:
“فزعة يا حوران.. فزعة يا حوران”
فزعت حوران.. مارداً عملاقاً.. تبعتها مدن سوريا وبلداتها، الواحدة تلو الأخرى تؤازر العملاق الحوراني..
“الموت.. ولا المذلة”
هتاف يرتد صداه عبر كامل الفضاء السوري: من درعا إلى القامشلي..
“الشعب يريد إسقاط النظام”
حكاية عظيمة لشعب بسيط..
حكاية تحاكي الأساطير ببساطتها رغم أن فصولها لم تنته بعد..
حكاية تهز ضمير الإنسانية جمعاء.. بكل ما تحمله من قيم وأخلاق ومدني