“الممرات الإنسانية” السورية … خط أحمر أم أزرق؟
يوسف معوض وفريدريكا ايفرت
الحالة السورية المتمخضة بين الأخذ والرد أشبه بمختبر تمتحن فيه مفاهيم القانون الدولي العام، فتشكل مادة دسمة للتبحر العلمي والعملي، مع التذكير بأن القواعد التي ترعى الحرب الاهلية هي ذاتها التي تحكم الحرب بين دولتين.
قاعاً صفصفاً كان تدمير حيّ بابا عمرو! نحن في حمص على ضفاف العاصي، وقد نالت هذه العاصمة ما نالته من حمى النظام وسخطه قبل أن يزورها الرئيس السوري للاطمئنان. اندلعت فيها المعارك بين الوحدات النظامية وبين المتمردين أو المنشقين (لم يعد من الممكن تسميتهم إرهابيين أو مخلّين بالأمن أو خارجين على القانون، وقد نالوا الاعتراف وإن بشكل ضمني من أكثر من طرف دولي).
على مدى أسابيع، استعملت في استعادة الموقع الحمصي المتمرد على الحكم كل آليات الحصار ناهيك عن المدفعية الثقيلة التي دكّت أحياء آهلة بالسكان. ألا يشكّل هذا الافراط في القمع خروجاً على قاعدة النسبية في استعمال القدرة التدميرية؟ ما هي مواصفات جرائم الحرب بالمفهوم الدقيق؟ ألا تشّكل الأحداث في سوريا من الآن فصاعداً حرباً أهلية بالمعنى القانوني؟
الحالة السورية المتمخّضة بين الأخذ والردّ أشبه بمختبر تمتحن فيه مفاهيم القانون الدولي العام، فتشكل مادة دسمة للتبحّر العلمي والعملي، مع التذكير بأن القواعد التي ترعى الحرب الأهلية هي ذاتها التي تحكم الحرب بين دولتين.
وقصارى القول أن الاقتتال في المدن حيث الكثافة السكانية، يكون المدنيون أول ضحاياه ومصيرهم الذعر والقتل والتهجير! فكيف بتأمين مخرج للجرحى والأبرياء من عجزة وأطفال؟ والا صاروا دروعاً بشريّة في حين رأينا المنايا خبط عشواء؟!
السابقة في البوسنة…
جرائم ضد الانسانية ارتكبت في بلاد الشام وما زالت ترتكب وقريباً يمكن توصيفها بجرائم حرب، في حين أن المجتمع الدولي الممثل بالأمم المتحدة لن يتدخل طالما أن روسيا والصين تقفان سداً منيعاً في وجه أي قرار صادر عن مجلس الأمن يشرع لحملة عسكرية. من قال إذاً أن لا سربرنيتشا Srebrenica ثانية بعد الآن (تموز 1995) أي بعد حروب البوسنة، عندما صمت العالم “المتحضر” على الفظائع ولم يتدخل إلا بعد ارتكاب مجازر بشكل منهجي، فسقط ضحية التقاعس أناس أبرياء وعزّل؟
ألسنا نستعيد المشهد نفسه في سوريا والدول الأوروبية الأكثر مطالبة بعزل بشار الأسد ليست في وارد زج قواتها في أتون سوريا لمنع الاقتصاص من الشعب، حتى وان كان ذلك بغطاء دولي أو مباركة عربية. السيناريو الليبي لن يتكرر وطائرات حلف شمال الأطلسي لن تخرق أجواء حلب أو درعا للحد من التمادي في الغطرسة والخيلاء. وبالتالي فإن سيادة سوريا ستحترم لمصلحة النظام ولسوء حظ المنتفضين. لم يبق في الأفق الإنساني سوى الحل التركي المتمثل بالتالي:
1 – اما إقامة منطقة عازلة على الحدود التركية، وهذا يؤدي بالطبع إلى الانتقاص من سيادة الدولة السورية على أرضها. وقد يعتبر تدخلاً لأسباب إنسانية.
2 – واما إقامة ممرات إنسانية للتخفيف من معاناة المدنيين الأبرياء، وهذا أقل الإيمان!
يظهر أن تركيا ستعتمد حلاً يجمع بين الخطتين. فأنقرة تميل إلى إقامة مناطق آمنة داخل الأراضي السورية بواسطة قواتها العسكرية، وذلك في حال تدفق اللاجئين إليها، أو في حال ارتكاب إبادة جماعية في مدينة حلب. وهذه الخطة المعدّة سراً على يد أركان الجيش ستؤمن ممرّاً انسانياً لانسحاب المدنيين إلى المنطقة الآمنة ولنقل المساعدات إلى حيث تدعو الحاجة. وتأكيداً لهذه الشائعات صرّح رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان ان بلاده ستتخذ خطوات عسكرية وديبلوماسية لمواجهة تدفق اللاجئين، كما أعلن نائب وزير الخارجية التركي ناجي كورو: “يبدو جلياً ان خطة عنان لن تطبق… ستبدأ مرحلة جديدة اعتباراً من العاشر من نيسان”.
خافوا على العار أن يمحى…
بعد نكسة حزيران عقدت الدول العربية مؤتمراً في الرباط، وجاءت مقرراته دون المستوى المرجو. قامت قائمة الشاعر عمر أبو ريشة وكانت قصيدته الشهيرة في كانون الثاني 1969 يسخر فيها من الزعماء العرب ومنها البيت المأثور:
“خافوا على العار أن يمحى فكان لهم
على الرباط لدعم العار مؤتمر”
أليس من حق المنكوبين في القطر السوري أن يرموا بالعار المؤتمر الثاني لمجموعة أصدقاء الشعب السوري الذي عقد في اسطنبول في أوائل شهر نيسان الماضي؟ ليتنا نتوقف عند بعض مقررات هذا المؤتمر الذي ضمّ ممثّلي حوالى 80 دولة من الأصدقاء والأخوة (؟) العرب والمسلمين، فنفهم:
أن لا تدخل عسكرياً لوقف المجازر المستمرة. لقد صرّح رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي ان دعم المعارضة بالمال والسلاح من شأنه تصعيد الصراع. الكلام نفسه صدر في أكثر من مناسبة عن حلف شمال الأطلسي الذي ما برح يُحذّر من تسليح المعارضة السورية. ما الفرق اذاً من الناحية العمليّة بين هذه المواقف الرافضة لتدخل حاسم والموقف الذي أعلن عنه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الذي وافق على خطة كوفي أنان، انما رفض تضمينها أي مهل أو إنذارات للنظام البعثي!
لم يعترف المؤتمر بأن المجلس الوطني السوري هو الممثّل الحصري للمعارضة ممّا يعني ان لا توحيد للكلمة وأن هذا المجلس لن يشكّل حكومة في المنفى! فإن كان ثمة مفاوضات، فمن سيجلس باسم المعارضة في وجه ممثّلي النظام؟
دهليز الرحمة
ومع انفضاض “مؤتمر الأصدقاء”، لم يبقَ لبرهان غليون رئيس المجلس الوطني السوري سوى المطالبة بممر إنساني، ذاك الممر الذي كان يهدس به ومنذ بعض الوقت وزير الخارجية الفرنسي بعدما اقتنع أن لا حل سوى الحل الإنساني! خلافاً للمنطقة العازلة فإن الممر لا يشكل انتقاصاً من سيادة الدولة كما ذكرنا، وهذا ما أقرّته محكمة العدل الدوليّة في قضية سابقة حول الصراع الذي دار بين الهند وباكستان. إذاً تبقى الدولة السورية سيّدة الموقف حتى ولو سمحت بإقامة دهليز آمن لأنها ستمارس الرقابة على حق المرور ويمكنها تحديد نوع المعدات وهوية الأشخاص الذين يسلكون الممر.
نشأت فكرة إقامة ممرات إنسانية، ومنها دهليز الرحمة corridor de la pitié تحديداً، عام 1968 نزولاً عند إلحاح منظمة “أطباء بلا حدود” في حرب بيافرا، تلك المقاطعة التي حاولت الانفصال عن دولة نيجيريا. وافقت في حينه حكومة لاغوس المركزية وسمحت لطائرات الإغاثة بتأمين الطعام والأدوية للمدنيين المحاصرين. ونذكر في ما نذكر أن طائرة تعود للصليب الأحمر أسقطت بنيران طائرة نيجيرية في حزيران من السنة نفسها، مما جاء ليؤكد في الواقع المرير هيمنة الدولة عمليّاً على الممر.
ومع الوقت وتعاظم المطالب الإنسانية وتبلور الفكرة تم التمييز بين ثلاثة أنواع من الممرات: الممرات لتأمين المساعدات والأدوية وحتى التلقيح droit de passage sanitaire والممرات لتأمين انسحاب الأشخاص المهدّدين وأخيراً الممرات لتأمين عودة المهجرين إلى ديارهم. وكلها أنشئت رأفةً بالناس وضناً بالمغلوبين على أمرهم.
فشل أنان المرتقب
في حالتنا الراهنة راحت الأطراف الدولية تنعى خطة كوفي أنان في حين تدفّق على الأراضي السورية حوالى 250 مراقباً، قدموا إلى الشام للسهر على وقف النار وللتأكد من انسحاب الجيش من المدن. لماذا لا يتحوّل دورهم بقرار ما أو بقدرة قادر الى مراقبين لممرّات زرق يستجديها الضمير الانساني من نظام نجح بمناوراته في كسب الوقت والافلات من العقاب؟
فسيادة نظام البعث خط أحمر يتخطّى كل الاعتبارات الانسانية لأن البديل ليس جاهزاً في الأروقة الدولية. لا حسم عسكرياً بعد في الأفق ولا حل سياسياً بل قتال دون أفق واستنزاف لفريقي الصراع حتى تضع الحرب الأهلية أوزارها.