صفحات العالم

معضلات التدخل الخارجي في سوريا


سمير كرم

ليس من المتصور أبداً أن يجد المرء نفسه، بعد اكثر من خمسين عاماً قضاها في مهنة التحليل السياسي من موضع الانحياز للثورة، مجبراً على ان يتخذ موقف الانحياز للتدخل الخارجي لجانب الثورة المضادة.

هذه هي حالة المحنة الشخصية التي نتجت عن الاستمرار لأكثر من عام كامل في الاستماع الى لفظ الثورة يُستخدم لوصف الثورة المضادة في سوريا. وللحقيقة فإن الثورة المضادة لم تقنع أبداً بأن توصف بأنها ثورة مضادة، خاصة في العامين الاخيرين في أرجاء الوطن العربي حيث شاع تعبير «ربيع الثورات العربية». لكن الإصرار غير المسبوق على تسمية الثورة المضادة بالثورة يتضح في سوريا اكثر مما كان واضحاً في اي قطر عربي آخر اجتاحه هذا الربيع العربي.

حتى وإرهاصات التدخل الخارجي تلوح ويصر عليها الديبلوماسيون والمسؤولون الرسميون من دول مثل المملكة العربية السعودية ومملكة البحرين وقطر والامارات العربية المتحدة وليبيا واليمن وحتى مصر الرسمية، مرددين ما تدعو اليه الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وهولندا وإسرائيل، يبدو اصرار هؤلاء جميعاً على حتمية تأييد ودعم الثورة في سوريا. هكذا يبدو كأن العالم قد شهد انقلاباً واسعاً بعرض الكرة الارضية تحولت فيه الدول الامبريالية والاستعمارية السابقة فجأة الى دول ثورية تدعم الثورة والتحرر، بينما تحولت الحكومات التي تناهض نفوذ الامبريالية وأحلافها العسكرية الى نظم قديمة تقاوم الثورة وتتمسك بالحكم.

بالطبع فإن شيئاً من هذا لم يحدث، إنما الذي حدث هو ان القوى والاحلاف الامبريالية الاميركية ـ الاوروبية بذلت جهدا لم تبذله من قبل لاستعادة دورها المهيمن في منطقة الوطن العربي، تؤيدها في ذلك ممالك وإمارات النفط العربية، وتؤيدها «الدول الثورية» الجديدة التي ظهرت في افق السياسة الاقليمية بعد تدخل حاسم عسكري، او بعد تدخل لم تكن به حاجة الى جيوش او اساطيل جوية او بحرية، فكان كافياً فيه الاستماع الى تعليمات ونصائح كبار القادة العسكريين الاميركيين والاوروبيين في زيارات متعاقبة علنية بعض الوقت وسرية في معظمه.

يجري هذا كله بينما يُقتل البشر من ابناء هذا الوطن الكبير، وبينما تبقى بعيدة عن الخطر قوى التدخل المباشر وغير المباشر. وبينما يُقال كل يوم، بل ربما كل ساعة من ساعات اليوم، ان سوريا مهددة بحرب اهلية اذا لم تترك قوى الثورة المضادة تحقق النصر الذي سبقتها اليه قوى مماثلة في دول الربيع العربي، فإن من الواضح، لمن لم يتخل عنه شعور الوطنية والقومية والثورة الحقيقية، ان سوريا هي بالفعل في حالة حرب اهلية. وعلى الرغم من ان سوريا تبدو حالة مستعصية لا تنتصر فيها الثورة المضادة الا ان الحرب الاهلية تستمر باستمرار تدفق الاسلحة والاموال من الخارج ـ من ممالك وإمارات النفط العربية ومن الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا وغيرها ـ لدعم هذا التواصل العنيف ولتغذية المذابح التي يروح ضحيتها السوريون دون غيرهم. ومع ذلك فإن الحديث مستمر عن ضرورة التدخل الخارجي وكأنه لا يجري بالفعل وان ضحاياه يسقطون مضرجين بدمائهم كل يوم وكل ساعة.

بطبيعة الحال فإن الولايات المتحدة تقود التدخل الخارجي غير المباشر وتقود في الوقت نفسه الدعوة الى التدخل الخارجي المباشر. ولكن ما لا يبدو طبيعياً هو ارتكان الولايات المتحدة في دعوة التدخل الخارجي المباشر في سوريا الى الزعم بأنه اذا تركت سوريا على هذه الحال فإن المنطقة بأسرها تصبح مهددة بالمزيد من أعمال العنف. هكذا تحدثت وزيرة الخارجية الاميركية هيلاري كلينتون اكثر من مرة. كانت اوضح هذه المرات في خطاب لها في الدنمارك (30/5/2012) نددت فيه بموقف روسيا والصين الرافض للتدخل الخارجي، سواء من خلال الامم المتحدة او من دون قرار منها. ويبدو جلياً في تصريحات الوزيرة الاميركية ان النموذج الذي تسعى الولايات المتحدة الى تكراره في سوريا هو نموذج ليبيا، حيث قام الحلف الاطلسي بدوره، الى جانب اميركا وبريطانيا وفرنسا والسعودية وقطر والامارات، في إقامة نظام «ثوري» جديد. ولم يلبث هذا النظام ان حصل على اعتراف وتأييد الأشقاء والاوروبيين وغيرهم بلا إبطاء أو تحفظ من اي نوع. لقد كان هذا نزولاً عند مطالب القادة العسكريين وقادة اجهزة الاستخبارات الاميركية الذين جابوا المنطقة يوزعون تعليماتهم من القاهرة الى الرياض وطرابلس الغرب والرباط… الى آخر المنظومة التي تمثلها الجامعة العربية، بالإضافة الى انقرة التي تبدي حماساً يبدو حتى الآن مثيراً للدهشة للتدخل في سوريا عسكرياً وبصفة مباشرة.

أكدت الوزيرة الاميركية كلينتون، بصراحة غير مألوفة، ان الحكومة الاميركية تعد بنشاط لتدخل مسلح في سوريا، ولكنها حرصت في الوقت نفسه على التحذير من ان الوضع في سوريا اصعب مما كان في ليبيا، وعزت ذلك الى ان حجم سوريا جغرافياً وسكانياً اكبر والظروف اعقد، فضلاً عن ان استعداد النظام الحاكم في سوريا هو من الناحية العسكرية اكبر. وقالت كلينتون: «نفكر في هذه الامور كلها. ان كافة انواع التخطيط المدني والانساني والعسكري جارية الآن». وبطبيعة الحال لم يفت الوزيرة الاميركية ان تذكر ان «حضور إيران متجسد بعمق في سوريا»، وأن التحذيرات الروسية من أن التدخل الخارجي يمكن ان يثير حرباً إقليمية ولهذا فإننا نعي أن الأخطار التي نواجهها رهيبة…إننا نعرف ان الوضع يمكن ان يصبح أكثر سوءا مما هو الآن».

كذلك فإن سوزان رايس، السفيرة الاميركية لدى الامم المتحدة التي تعد في المرتبة الثانية ديبلوماسيا بعد الوزيرة كلنتون، ادلت بدلوها بعد ان افشلت روسيا والصين محاولة استصدار امر من مجلس الامن للتدخل في سوريا. قالت رايس إن «أكثر السيناريوهات احتمالا في سوريا هي ان يتصاعد العنف وأن ينتشر الصراع ويزداد حدة، مما يفضي الى صراع متعدد الاطراف حيث الاسلحة تتدفق من كافة النواحي. سيشمل بلداناً في المنطقة، ويتخذ الصراع اشكالا طائفية متزايدة، لتصبح لدينا ازمة ليس فقط في سوريا ولكن في المنطقة. ويصبح أعضاء هذا المجلس (مجلس الأمن) وأعضاء المجتمع الدولي متروكين لخيار واحد هو ان يفكروا فيما اذا كانوا مستعدين للقيام بعمل خارج خطة (المبعوث الدولي والعربي) أنان وخارج سلطة هذا المجلس».

تكمل تصريحات السفيرة رايس تصريحات كلينتون من حيث انها تحمل إنذاراً الى دول المنطقة بأن عليها ان تستعد لامتداد الصراع من داخل سوريا اليها. كما تحمل إنذاراً بأن التدخل في سوريا لن ينتظر قراراً من مجلس الامن. بل ان المعلق الاميركي باتريك مارتن وصف تصريحات رايس بانها استعادة لسياسة الرئيس الاميركي السابق جورج بوش الابن عن «ائتلاف الارادات، وهي الصيغة التي برر بها بوش الحرب على العراق. وهي الصيغة التي يمكن ان تنضم فيها الى اميركا كل من بريطانيا وفرنسا ودول اطلسية وغير اطلسية اخرى لديها الاستعداد للمساهمة بقواتها او طائراتها لتجنب المعارضة في مجلس الامن لحرب عدوانية اخرى تقودها اميركا في الشرق الاوسط».

لكن اغرب ما كشفت عنه تصريحات السفيرة الاميركية كانت تلك المتعلقة بضعف معرفة الولايات المتحدة ومعلوماتها عن جماعات المعارضة السورية. فهي كثيرة ومنقسمة ومتناحرة. ومعلومات اميركا عن المعارضة السورية اقل كثيراً مما كانت تعلمه عن المعارضة الليبية. «إنها سلسلة من جماعات متباينة في مدن مختلفة. ولا توجد لها قيادة موحدة. ومن الواضح ان هناك عناصر شديدة التطرف تحاول اختراقها».

لم تبد تصريحات الديبلوماسية رايس اقل عسكرية من تصريحات الجنرال الاميركي مارتن ديمبسي الذي قال في تصريحات لفضائية «فوكس» الاخبارية الاميركية «طبعا هناك دائما خيار عسكري، قد يأتي عند نقطة معينة الى سوريا بسبب المذابح». وكان الجنرال يعقب على انباء مذبحة الحولة التي استغلت بأكثر من اي احتمال لكي تبدو من صنع الحكومة لا من صنع المعارضة المسلحة، الامر الذي فقد صدقيته مع الوقت حتى بين المعلقين الاميركيين.

اما كيف يمكن اعتبار الموقف الاسرائيلي المؤيد للتدخل الخارجي في سوريا دليلاً على تواري اسرائيل عن الانظار في ما يتعلق باحداث سوريا، فإن التصريحات التي ادلى بها نائب رئيس الوزراء الاسرائيلي شاؤول موفاز بعد ايام من انضمامه الى حكومة بنيامين نتنياهو أظهرت مدى اهتمام اسرائيل بأن تتجه الاحداث نحو التدخل الخارجي في سوريا. لقد قال بلا مواربة «ان التدخل الخارجي في سوريا هو الآن أمر لا يمكن تجنبه. ويتعين على الغرب ان يتدخل سواء بطريقة مباشرة او غير مباشرة. وعلينا نحن ايضاً ان نفكر بشأن الطرق التي يمكننا ان نساعد بها، فالأمر يستحق الاستعداد على الأقل لموقف نستطيع فيه ان نساعد وأن نكون منفتحين وأن نفتح ممراً للمعونة». ولم ينه موفاز تصريحاته الخطيرة (31 أيار 2012) من دون ان يؤكد ان استعداد اسرائيل يمكن ان يجبرها على ان تفتح حدودها مع سوريا على طول مرتفعات الجولان المحتلة.

تخرج هذه التصريحات الإسرائيلية عن كل مألوف السياسة الاسرائيلية العلنية لتذهب الى حدود الحديث عن ممرات المعونة التي تعني انتهاكاً صريحاً لسيادة سوريا من اجل إرسال مساعدات اسرائيلية للقوى المتمردة ضد حكومة سوريا. اما إدانة اسرائيل الرسمية والاعلامية لمذبحة الحولة فبدت استفزازاً جديداً للمشاعر العربية التي اطلقتها مذبحة الجيش الاسرائيلي في غزة وقتلت اكثر من 1300 فلسطيني إبان حرب غزة في أواخر العام 2008 وأوائل العام 2009.

وهل كان يمكن لإسرائيل ان تكون اقل حماسة للتدخل الخارجي في سوريا في ضوء حرصها الاكيد على دعم السياسات الاميركية في الشرق الاوسط؟ وهل يمكن ان يصدق احد ما ينطق به المتحدثون في باريس والقاهرة ولندن باسم «الثوار السوريين» عن «تأييد اسرائيلي للنظام السوري الحاكم»؟

في ظروف تجمع بين الحرب والثورة والثورة المضادة تتجنب الدول التي تتحدث عن استعداداتها للتدخل الخارجي في سوريا الحديث عن موقف الرأي العام في هذه الدول نفسها ازاء التدخل الخارجي، ان لم يكن لإخفاء إجراءات هذا التدخل فإنه للهروب من واقع انعدام اي ضمان بنجاح مثل هذا التدخل في سوريا. ولكن اجهزة تعمل وفق قوانين اتاحة المعلومات، تمارس عملها سواء شاءت ارادة تلك الدول ونخبها الحاكمة او لم تشأ. وعلى سبيل المثال فإن مؤسسة «بيو» الاميركية لاستطلاعات الرأي العام اصدرت نتائج استطلاع اجرته في الظروف الراهنة حول الدور الاميركي في احداث سوريا. وقد اظهرت النتائج ان نسبة لا تزيد عن خمسة وعشرين في المئة من الاميركيين هي فقط التي تؤيد تدخلا اميركيا مباشرا في احداث سوريا. وأظهرت النتائج ايضا ان نسبة الاميركيين الذين يرون ان الولايات المتحدة مسؤولة عن عمل اي شيء بشأن القتال في سوريا هي 64 في المئة منهم. وكان استطلاع للرأي بشأن تأييد التدخل الاميركي في كوسوفو في العام 1999 قد اظهر ان نسبة التأييد تصل الى47 في المئة.

هذه هي المقاييس الحقيقية للديموقراطية الاميركية، خاصة في ما يتعلق باهداف الهيمنة الخارجية.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى