فـي سوريـا شعـب واحـد.. لا شعـوب
سليمان يوسف
على وقع أعمال العنف والعنف المضاد في سوريا، ووسط اشتداد التنافس الدولي حول التدخل في الأزمة السورية، الذي وصفه المبعوث الدولي إلى سوريا كوفي عنان بـ«التنافس الهدام»، اجتمعت تشكيلات المعارضات السورية في مؤتمر القاهرة يومي 2 و3 تموز الحالي تحت رعاية الجامعة العربية. حظي المؤتمر باهتمام إعلامي (عربي وإقليمي ودولي) لافت. من دون شك، يعتبر هذا الاهتمام الإعلامي مكسباً سياسياً ومعنوياً مهماً للمعارضة، فضلا عن انه يعكس تعاطفا وتضامنا كبيرين مع انتفاضة الحرية والكرامة والديموقراطية للشعب السوري. بيد ان المعارضات السورية، بسبب حدة الخلافات والتناقضات السياسية والفكرية والتنظيمية بين فصائلها، أخفقت مرة اخرى في توحيد موقفها من الأزمة السورية وفي تقديم رؤية سياسية مستقبلية واضحة متكاملة لمرحلة ما بعد الأسد. رؤية تطمئن الداخل السوري والمجتمع الدولي على أن سوريا لن تدخل في فوضى أمنية وفي فراغ سياسي وحروب أهلية إذا ما سقط النظام.
من المؤسف، ان الكثير من المعارضات السورية لم ترتق بعد إلى مستوى المسؤولية الوطنية والتاريخية والأخلاقية تجاه قضية الشعب السوري المنتفض في وجه نظام دكتاتوري يفتك به منذ نحو عام ونصف العام. لا بل ان السلوك المخزي لبعض فصائل المعارضة أضر كثيراً بالقضية السورية وزاد من حالة الانقسام الدولي حولها. وبهذا السلوك أعطت المعارضة الذريعة والحجة للمجتمع الدولي الذي يعمل على إطالة أمد الأزمة السورية ويمد في عمر النظام الدكتاتوري، إلى حين تتضح موازين القوى السياسية في الداخل السوري وبانتظار ان تتوحد المعارضات وتتفق على رؤية سياسية واضحة ومحددة حول المستقبل السياسي لسوريا وحول آليات نقل السلطة. حقيقة القوى الدولية النافذة في مقدمتها روسيا وأميركا، يهمها كثيراً ان تعرف دور وحجم ما يسمى بـ«الجيش الحر»، ذا الصبغة والميول الإسلامية الواضحة، في المعادلة السياسية لسوريا الجديدة، خاصة وقد أصبح «الجيش الحر» وبقية فصائل المعارضة المسلحة العنصر الحاسم في الصراع الدائر في سوريا. تجدر الإشارة هنا إلى ان المتحدثين باسم «الجيش الحر» و«الهيئة العامة للثورة السورية» اعترضوا على مؤتمر القاهرة المشار إليه ووصفوه بـ«المؤامرة».
الجديد في مؤتمر القاهرة للمعارضات السورية، إصدار ما سمي بـ«وثيقة العهد الوطني»، التي وصفت بأنها بمثابة «مبادئ دستورية» لسوريا الجديدة ما بعد رحيل الأسد وسقوط النظام، ومشروع لـ«عقد اجتماعي» جديد بين السوريين. رغم انها مجرد «وثيقة» لملامح الدولة السورية الجديدة، غير ملزمة لأحد حتى (واضعيها) ولو حكموا سوريا فلن يأخذوا بها كما هي. فقد تسببت بانسحاب «الكتلة الكردية» من المؤتمر وحصول اشتباك سياسي وعراك بالأيدي داخل القاعة وامام كاميرات وأعين الصحافة، التي نقلت المشهد المبتذل للمعارضات السورية إلى كل انحاء العالم. هذا المشهد يؤكد مجدداً على ان صدور وثيقة «عهد وطني» عن معارضين سوريين لا يعني أبداً أن الموقعين على الوثيقة تجاوزوا خلافاتهم وتناقضاتها السياسية والعقائدية والفكرية. فباعتراف واضعي الوثيقة، جرى نوع من التسوية على انتقاء المصطلحات والجمل والتعابير السياسية بحيث تحتمل أكثر من تأويل، وكل طرف يفسرها كما يريد ويشاء، وذلك لتذليل العقبات التي كادت ان تنسف المؤتمر وتسببت بتأخير صدور بيانه الختامي. فالوثيقة تحمل بين سطورها وخلف كلماتها عوامل وأسباب انفجارها في وجه المعارضات السورية في أي لقاء او مؤتمر جديد لها. بمعنى آخر، ولدت «وثيقة العهد الوطني» وهي ملغومة بالعقائد الايديولوجية والدينية للتيارات العربية والكردية والآشورية والإسلامية. رغم هذه الولادة العسيرة والمشوهة لوثيقة العهد الوطني للمعارضات السورية، لا أنفي أنها حملت تحولاً ايجابياً مهماً في الفكر السياسي العربي المعارض، وأظهرت نضجاً في الوعي الوطني للتشكيلات السياسية المشاركة في مؤتمر القاهرة، خاصة لجهة الاعتراف الصريح بالقوميات (الكردية والآشورية والتركمانية) كجزء أصيل من الشعب السوري وبحقوق قومية لها، وبأن سوريا دولة متعددة القوميات والثقافات الديانات. طبعاً، لا يبرر للمعارضة تجاهل وثيقتها للأرمن والشركس السوريين، حتى لو لم يكن ممثلون عنهم في مؤتمرات المعارضة. فحقوق الإنسان والمجموعات البشرية قضية مبدئية أخلاقية قبل ان تكون سياسية، ولا يجب ان تخضع للبازار السياسي.
حسنا فعلت المعارضات السورية برفضها تضمين الوثيقة مقولة «شعوب سورية» (شعب عربي… شعب كردي… آشوري… تركماني…). لكن إذا ما تمسك القوميون العرب في سوريا الجديدة بمقولة «الشعب العربي السوري» فسيعطون عندها الحجة والذريعة لأبناء القوميات والديانات الاخرى (الأكراد والآشوريين والتركمان والأرمن والمسيحيين) لرفع شعارات قومية وسياسية مماثلة وموازية لها. حقيقة، هذه الشعارات والمقولات العربية هي السبب الأساسي لبروز ما بات يعرف بـ«إشكالية وأزمة الهوية الوطنية السورية». فهذه الوصفة السياسية العربية المؤدلجة والمعلبة للمجتمع السوري، الذي يتصف بالتنوع القومي والديني والثقافي والعرقي والمذهبي، تنطوي على مغالطات سياسية وتاريخية كبيرة، من شأنها ان تقوض مفهوم «الشعب السوري الواحد» وتنسف من الأساس مشروع «دولة المواطنة»، التي تتحدث عنها «وثيقة العهد الوطني»، ناهيك عن انها تنطوي على مخاطر مستقبلية جسيمة على وحدة الكيان السوري. من هذا المنظور الوطني، أرى ان افضل السبل واضمن الممرات لإخراج سوريا من «الأزمة الكيانية» التي تعصف بها وتهدد وحدتها واستقرارها، هي بتخلي القوميين (العرب، الأكراد، الآشوريين، التركمان، الأرمن، الشركس) عما يعتبرونه مسلمات ومقدسات قومية لديهم، وتبني الجميع مصطلح «الجمهورية السورية» و«الشعب السوري»، والقبول بـ«الهوية السورية» كهوية وطنية جامعة موحدة للجميع، تسمو فوق جميع الهويات الفرعية والانتماءات البدائية (المقابل الدولة).
أخيراً: السؤال الذي يطرح نفسه على المعارضات السورية هو: ما أهمية وقيمة «وثيقة عهد وطني»، بينما الأكراد السوريون يوحدون صفوفهم برعاية مرجعيتهم الكردية من خارج الحدود، (مسعود البارزاني) الذي أملى على فصائلهم السياسية ما سمي بـ«إعلان اربيل»، ولطالما بقيت «الجامعة العربية» المرجعية الأولى وقبلة القوميين العرب السوريين، والتركمان التقوا في اسطنبول وحددوا اجندتهم السياسية برعاية حكومة اردوغان التركية، وللإسلاميين مرجعيتهم الإسلامية الخاصة، والآشوريون بانتظار جهة ما من خارج الحدود تلم شمل تنظيماتهم المحبطة جداً هذه الأيام؟ اختلاف المرجعيات ألا يعني اختلاف الأجندات والأهداف.
([) كاتب سوري مهتم بقضايا الأقليات
السفير