صفحات العالم

منطق الممانعة: حقّ يلغي الآخر.. وحاضر يلغيه الماضي


وسام سعادة

منطق الممانعة يبرّر عدم الإنصات لجماعة تتعرّض للاضطهاد ولأعمال البطش والتنكيل بحجّة أنّ المظلوميّة المركزية موجودة في مستوى أعلى، أو في مستوى أعمق. وهكذا فإنّ جرائم ضدّ الإنسانية ترتكبها الفرق الموالية للنظام البعثي في سوريا، إما أن يجري إنكارها أو التهوين من حجمها أو التهوين من قيمتها، لأنّ هناك جرائم من نوع أكثر فتكاً بالأمّة، كون مرتكبها مستوطن صهيونيّ غاصب وليس “من بلدياتنا”، وكما أن عذابات السوريين تنكر باسم عذابات الفلسطينيين، يعود هذا المنطق فيتنكّر لهذه العذابات أيضاً، لأنّ الأهمّ عنده هو عذابات فلسطين مرفوعة الى أقنوم مجرّد، أقنوم برّر به نظام البعث مطولاً ضلوعه في سلسلة من المجازر ضد الفلسطينيين في لبنان، ذلك أن “حبّ فلسطين” في عرف الممانعة كان يستدعي في الغالب اضطهاد الفلسطينيين، مرة من ضمن جرعات اعتيادية كي لا ينسوا حق العودة، ومرة لأنهم يغرّدون خارج السرب باسم القرار الوطني المستقل، وفي هذه وتلك لأنهم يحتسبون في خانة مذهبية ليست هي الخانة نفسها التي أوكلتها منظومة الممانعة بالمسؤولية الطليعية في تحرير فلسطين.

ثم يتبيّن بعد ذلك أنّه وكما تُشطب القضايا الأخرى باسم القضية المركزية، المجرّدة من جهة، والمعاد تنميطها مذهبياً من جهة ثانية، كذلك لا تلبث القضية الأساسية أن تنزاح من الحاضر إلى الماضي، فلا تعود المشكلة مع اسرائيل، ولا مع الاستعمار، ولا حتى مع الغرب، بل يجري الخلط بين كل هذا وبين أحقاد متوارثة، وحين نقول متوارثة نعني حكماً أن انشاءها وابتداعها معاد من جديد، أحقاد تعود بشكل أو بآخر، إلى الفترة الإسلامية المبكرة، وتحيل مروياتها على زمن سابق للفتنة الكبرى. وهنا، لا يحتاج الممانع المذهبي للاستعانة بأي مستشرق غربيّ “مغرض” لأجل قراءة التاريخ بعين الفتنة، والمماهاة من ثم بين الفتنة والتاريخ، معتبراً أن التراث الذي يحييه بابتداعه، والذي يبتدعه بإحيائه، هو عين الحق، وهو القضية المركزية الحقيقية، في حين أن التراث المذهبي الآخر هو عين الباطل. هنا يحدث الخلط الخطير عند الممانعين: قضيتهم لا تعود فلسطين، ولا الحاضر، بل الماضي المعاد تركيبه أيديولوجياً، لاستعادة “واحة فدك”. بعد ذلك لن نكون بعيدين من هذيان هذا المنطق الممانع والفئوي، المقاوم والماضوي في آن: قضية تلغى باسم أخرى، وحاضر يلغى باسم ماضٍ، وماضٍ يلغى باسم صورته الأيديولوجية، وبالتوازي سلاح يحمي السلاح، وفتنة لتفادي الفتنة.

بيد أن المشكلة لا تحلّ من خلال سبر منطق الممانعة الفئوي والمذهبي والرجعي على هذا النحو. المشكلة تبدأ من كيفية عدم التماثل معه. كل من يقف بشكل أو بآخر في موقع يتصدّى للممانعين يدرك تماماً انعدام حساسيتهم تجاه عذابات السوريين، وسطحية حساسيتهم تجاه عذابات الفلسطينيين، التي تظهر على حقيقتها عند أصغر مفترق “مذهبي”. السؤال ليس هنا. السؤال هو كيف يتمكّن أخصام الممانعة من عدم التماثل معها؟

يبدأ هذا من قناعة راسخة لا بدّ أن تعمّم عند أهل الربيع بأنّ الإنصات لعذابات السوريين لا يتناقض أبداً بل يتكامل مع الإنصات لعذابات الفلسطينيين. وهذا يعني وجوب الحرص على عدم المفاضلة بين إحدى القضيتين، الفلسطينية أو السورية، وعدم الاسترسال في “الشعر” أيضاً: اذ لا بدّ من المقاربة الشاملة والملموسة في آن لكل قضية في سياقها، من دون رهن واحدة باستحقاقات الأخرى، ومن دون الخوف من أن الإنصات لعذابات أحد الشعبين سيعني الالتهاء عن عذابات الآخر. لا، هذا انزلاق إلى منطق الممانعة، وهو ما لا يجوز.

بالتوازي، إذا كانت الممانعة الفئوية تلغي قضية باسم أخرى، ثم تلغي الحاضر للنفخ في أساطير الهوية والزمن الماضي، وجب أن يكون منطق أهل الربيع من نوع مختلف. الممانعة تلغي قضية السوريين باسم قضية الفلسطينيين. الربيع يؤكد التكامل بين حرب الاستقلال السورية وبين نضال الشعب الفلسطيني من أجل الاستقلال. الممانعة تلغي قضية الفلسطينيين باسم قضية “فلسطين” مجرّدة. الربيع يجعل من قضية فلسطين قضية الفلسطينيين الذين من لحم ودم، سواء في الأراضي الفلسطينية المقطعة والمحتلة أو في الشتات. الممانعة ترهن قضية فلسطين باسم صراع كوني بينها وبين الاستكبار العالمي، أي عملياً ترهنها بالبرنامج النووي الإيراني. الربيع يربطها بقضية إعادة تركيب نسيج المنطقة على قاعدة حق كل شعب في تقرير مصيره، وعيش كينونته الوطنية بسلام. الممانعة تعيد الصراع مع الاستعمار إلى الصراع في قريش على الخلافة والإمامة. الربيع مفترض فيه أن يفسح المجال لتحرير كل من الماضي والحاضر. تحرير الماضي من الغارات “الحاضرية” عليه التي تريد نهب مروياته لأجل استخدامها في الصراعات الأهلية الحالية. وتحرير الحاضر من صراعات الماضي، للتمكّن من ايجاد أطر سليمة لعيش التعددية الدينية والمذهبية والمناطقية واللغوية، وعدم ظلم مجموعة باسم مظلومية مجموعة أخرى. تحرير الماضي وتحرير الحاضر يعنيان بالتالي تحرير المستقبل: تمكينه أن يأتي، تمكين الربيع أن يزهر بعد كل هذا العناء، وبعد كل هذه الدماء.

لكن، هل هناك بالفعل من بمستطاعه ان ينهض لتجذير هذا الاختلاف بين منطق الممانعة ومنطق الربيع، بدلاً من الانزلاق الى مستنقع محاربة الممانعة بالممانعة، والفتنة بالفتنة، والماضي بالماضي؟

سؤال يقفز مجدّداً لينغص علينا التفاؤل.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى