على من أطمئن أولاً… على أهلي في اليرموك أم على أصحابي في غزة؟
“يا موت: ما تعبت؟ نحنا تعبنا..”
ماجد كيالي
قلب الفلسطيني، هذه الأيام، مشطور بين سوريا وفلسطين، فقلبه يناجي سوريا حيناً ويناجي فلسطين حيناً آخر، وعين تبكي سوريا وعين تبكي فلسطين، تلك هي حال فلسطيني سوريا، منذ بداية عدوان إسرائيل على غزة، ويا لوجع الفلسطينيين والسوريين.
وقد كانت الصديقة رفيدة (فلسطينية سورية) جدّ معبرة، وموجعة، حين صاغت كل ذلك على صفحتها، إذ كتبت: “من فترة كتبت يا موت: ما تعبت نحنا تعبنا…غيّر مسارك عنّا…قمت رحت على غزة! ما عملت شي يا موت غير قتلتنا مرتين.”
هكذا فقد كان جد صعبا، بل ومأساوياً، على الفلسطينيين في مخيمات سوريا، في اليرموك وحمص وخان الشيح ودرعا واللاذقية والنيرب وحندرات وحماه والسبينة وخان ذا النون والست زينب، وفي المدن السورية، أن يعيشوا مأساتهم، في كل لحظة، مرتين، مرة إزاء الشعب الذي باتوا يعتبرون أنفسهم جزءاً منه، ومرة إزاء الشعب الذي ينتمون إليه، في الوطن الذي يسكن أحلامهم ومخيّلاتهم.
ولعل ثمة شيء سحري، أو اسطوري، في الفلسطينيين اللاجئين، فهؤلاء بعد اكثر من ستة عقود على النكبة، وولادة مشكلة اللاجئين، نتيجة قيام اسرائيل، مازالوا يفكرون ويشعرون كأن الزمن توقف لحظة النكبة الكارثية التي غيّرت حياة آبائهم أو اجدادهم (1948). واللافت أن ذلك حصل على الضد من عبارة كان صكّها سياسي أميركي بارز على عجل، قبل اكثر من نصف قرن، ومفادها أن “الكبار يموتون والصغار ينسون”؛ صحيح ان الكبار ماتوا لكن الصغار (أي الأبناء والأحفاد) لم ينسوا، فهم لم يرثوا أراض وأملاك، وإنما ورثوا ذاكرة متقدة، كأنها من لحم ودم. هكذا ثمة في كل مخيم ازقة وشوارع وحارات ومدارس ومحلات تسمى على اسماء القرى والمدن الفلسطينية، وثمة شعب يعيد انتاج ذاكرته، ويضيف عليها من مخيلته، وهي مخيلة انعش منها ظهور العمل الفدائي والمقاومة المسلحة منذ منتصف الستينات، وعزز منها انتهاج اسرائيل لسياسات متغطرسة، عدائية وعنصرية، أسهمت، على الضدّ من استهدافاتها، في تعزيز هوية الفلسطينيين، وتغذية ذاكرتهم الوطنية، والهام الأمل وروح التحدي في قلوبهم.
والحال، وجد الفلسطينيون في سوريا أنفسهم بمثابة سوريين، أيضاً، في طبقة هوية أخرى، لا تتنازع وإنما تتعايش مع هويتهم الوطنية الأصلية ـ الفلسطينية، وعزّز منها مشاعر الانتماء الى هوية أم (العربية). والحقيقة فإن الفلسطينيين في سوريا باتوا بمثابة سوريين، بمعنى ما، بسبب اشياء عديدة منها أن معظمهم لايعرف وطناً آخر له غيرها، فقد ولد فيها، وعاش ودرس وعمل وحلم وكوّن اسرة وأنجب اولادا وأحفادا، ومنها تجربة العيش المشترك، التي جمعتهم مع السوريين، في درب الآلام والآمال.
إذاً هذا ما حصل، وجاءت الثورة السورية، التي طرحت اسئلتها الصعبة والمعقدة على الفلسطينيين، كما السوريين، وفي غضونها قدم الفلسطينيون اجاباتهم، التي لم تخل من مشكلات والتباسات، في مجتمعات لم يتعرف افرادها بعد على معنى المواطنة، أو على معنى الهويات الوطنية، خارج معنى الهويات، قبل المدنية، الحصرية والمغلقة، والتنميطية.
لهذا كله ليس ثمة غرابة البتة في تعبير فلسطينيي سوريا عن أنفسهم، وعن مشاعرهم، كسوريين وكفلسطينيين، في آن معا، من دون أن يحدث ذلك لبسا او تناقضا عندهم. هذا حصل معي، ففي غضون الحرب الإسرائيلية على غزة، كانت أخبار القصف الجوي والمدفعي على أشدها في مختلف انحاء سوريا، وإزاء هذه الحال لم اكن أعرف على من ينبغي ان اطمئن أولاً، على أهلي وأصحابي ومعارفي في اليرموك وحمص وحلب، أم على أصحابي ومعارفي في غزة، وقتها كتبت: “اهلنا الأعزاء في غزة وحلب وحمص ودمشق ومخيم اليرموك.. طمنونا عنكم.”
فوق ذلك فإن تزامن حرب اسرائيل على غزة، مع حرب نظام الأسد ضد شعبه، كشفت أوجه التقارب بين الطرفين، مع التأكيد على الفارق الجوهري الذي مفاده ان اسرائيل لا تقتل شعبها وإنما تقتل شعبا آخر، يعاديها، في حين ان النظام السوري يقتل شعبه. فهذا هشام منور (كاتب فلسطيني من سوريا) عقد مقارنة بين ما يجري هنا وما يجري هناك، بقوله: “غزة تستعد لغزو بري وحصار عشرات الدبابات الإسرائيلية..أما داريا.. فهي محاصرة الآن ب 90 دبابة…وتستعد للذبح مرة أخرى!”. أما رفيدة فلا تنسى غزة، رغم كل ما يجري في دمشق. وهاهي تقول: ” مشيت اليوم في بعض الأماكن في دمشق.. معظم الشوارع مغلقة إن أردت التجول في بعض هذه الأماكن المغلقة فمشياً على الأقدام ..الحياة ماشية بصعوبة بالغة جداً.. دمشق حزينة لدرجة النحيب. كل شيء فيها يدل على حجم الكارثة التي نعيشها..رجعت الى بيتي المحاصر ..الحمد لله مازال عندي بيت ولو محاصر…اتمنى ان لا يضيع كما ضاعت بيوت الآخرين …أريد ان أبكي فقط …على كل شيء ..على حالنا ..على غزة ..على حياتنا. “
في اليوم الخامس للعدوان الإسرائيلي على غزة لفت انتباهي ان اسماء الغول (كاتبة ومدونة من غزة) كتبت على صفحتها التالي: “الآن يا أعزائي جاء إنذار لبيت عائلتنا المكوّن من خمسة طوابق في رفح، حيث بيتنا في الطابق الأرضي، بإخلاء البيت بهدف قصفه من قبل الاحتلال الاسرائيلي..يارب.” كانت رسالة جد مؤلمة، وقاسية، ومحزنة، وتستدعي الاحباط والقهر والغضب، ذلك أن لا أحد يستطيع شيئاً حيال جبروت الطائرات والصواريخ، ولا أحد يملك القدرة على وقف هذا “القدر”، وأسماء تتحدث بتسليم كامل بالمكتوب، وتستأذن لإغلاق صفحتها كي تتمكن من مغادرة البيت مع عائلتها. حقاً كان ذلك موقفا بالغ الصعوبة، ولا يمكن لإنسان ان يصف مشاعر انسان يفقد بيته، الذي هو بمثابة وطنه وذاكرته، لمجرد ان ثمة أحداً ما قرر قصفه! لكن القصة لم تنته بعد، ذلك أن أحمد. ت (فلسطيني من سوريا) كتب لأسماء الرد التالي: “والله لا أدري أنبكيك يا أختاه أم نبكي أهلنا في اليرموك هناك يأتيكم إنذار بالإخلاء أما هنا (يقصد في مدن سوريا) فمن دون إنذار يتم القصف.” فعلا، كان الرد مأسوياً لأوضاع مأسوية حقا.
هذه حال الفلسطيني السوري اليوم..عين تبكي غزة وعين تبكي سوريا.
المستقبل