صفحات الثقافة

السينما في عهد الإسلاميين، الأفلام الفاضحة تقوي المتطرفين

 

محمد بنعزيز

يتضح، من خلال تجارب تونس ومصر والمغرب، أن التنظيمات الإسلامية تتقدّم شرعياً لتحتل مقدمة المشهد السياسي، ولمدّة طويلة. في المغرب، فاز الإسلاميون بأغلبية الأصوات، وهي أعلى بكثير من عدد المقاعد. سيحاولون وضع بصمتهم على مختلف مناحي الحياة. لديهم الوقت والقوّة، لأن السياق التاريخي ومزاج الرأي العام يخدمانهم. هذا حقّهم. هذه قواعد الديموقراطية. لكن، كيف ينعكس ذلك على الحركة السينمائية؟

تاريخياً، كان “المركز السينمائي المغربي” قلعة للإبداع الحر. ثمرة حركة ثقافية سينمائية، نشّطها مثقفون رفيعو المستوى. عمل في هذا الحقل رجال من جيل له خلفية سوسيولوجية نقدية يسارية. الآن، تغيّرت الظروف. سينمائيو سبعينيات القرن العشرين، الذين تشكّل ذوقهم الفني في أجواء ثورة الشباب في 1968، سيجدون صعوبة في التكيّف مع هيمنة الإسلاميين على الحكومة. سيتعرّضون لاستفزاز. طبعاً، المركز حصن تجب المحافظة عليه. لكنّ تمويله من المال العام يلزمه احترام توجّه التيار المركزي في الرأي العام الوطني. تيار يتبنّى النظرة المحافظة، والنزعة الأخلاقية شفهياً، وربما عملياً.

هذا أمر واضح في الحياة العامة للإسلاميين. سينقلون نزعتهم المحافظة إلى تدبير شؤون الدولة، سواء بإجراء إداري أو بضغط إعلامي وسياسي من خارج المؤسّسات. لكن، في مجال الفن، والسينما خاصّة، سيكون الأمر مثيراً للحساسية. لأن الفن ليس ملزماً تحديد الصحّ والخطأ، والحلال والحرام. فهذه مهمة الفتاوى.

في مصر، حوكم عادل إمام. وصرّحت صابرين، التي أدّت دور أم كلثوم فنجحت وتحجّبت، بأنها تخشى “صعود التيارات الدينية للتسلّط على الفن”. إلهام شاهين تنفي اتهامات شيخ لها بأن هناك من اعتلاها باسم الفن. من الآن وصاعداً، سيندّد الإسلاميون بكل فيلم فيه قبلة، أو فخذ يظهر من تنورة مفتوحة، باعتبار أنه تحريض للعامة على الفسق والفجور. مع تصوّر كهذا، يُفترض أن الرذيلة في المجتمع سببها الأفلام لا طباع البشر الشهوية. هذه ديماغوجية تفترض أن إغلاق كل قاعات السينما سيجعل الفساد الأخلاقي والجنسي يختفي من مجتمع نصفه عازب.

لا يهدف هذا المقال إلى الدخول في جدل فكري، ولا إخضاع الفن للأغلبية الأخلاقية. بل هو يقترح الاستنارة بتجربة مفيدة في هذا المجال: تجربة الإيرانيّ عباس كياروستمي، الذي تحدث عن وضع السينما الإيرانية بعد الثورة الإسلامية في العام 1979. حينها، كادت تلك السينما تموت بسبب تشدّد أتباع الإمام الخميني. عن سؤال: هل تعرفون ممن جاء الحلّ؟ قال كيروستامي: من رجال دين يعشقون السينما، لذلك أنشأوا “مؤسّسة الفارابي”، التي تموّل الأفلام، وتمنح مدفوعات سابقة على الإنتاج. وبما أن المؤسّسة تطبّق الشريعة على السينما، فهي تموّل أفلاماً ذات سقف أخلاقي معين. (من كتاب “عباس كيارستامي: سينما مطرزة بالبراءة”، ترجمة وإعداد أمين صالح. وزارة الثقافة البحرينية. الطبعة الأولى، 2011). وعن كيفية تعامله مع هذا، قال: “عادة، أختار المواضيع التي تفلت من مقصّ الرقيب. لا أحاول التعامل مع مواضيع يمكن أن تثيرهم وتستفزّهم” (ص. 177). أضاف إنه لا يحتاج إلى التباهي، لأن الرقابة منعت فيلمه. يعترف أنه يعمل في شروط مقيّدة، ويستخدم نظرية الكبح لتجنّب المشاكل، ويبدع بدلاً من أن ينشغل بما هو مسموح وبما هو ممنوع: “أظنّ أن تمويل الدولة يُجنِّب السينمائيين القلق بشأن شبّاك التذاكر، أو بشأن استخدام العنف لجذب الجماهير. لهذا السبب، نحصل على نتائج جيدة”.

التورية

حقّقت السينما الإيرانية نتائج باهرة في الأعوام العشرين الماضية، وتُوِّجت في أكبر المهرجانات الدولية. هذه نتائج تؤكّد أن الكبح وتجنّب استسهال الفضيحة يحرّضان على الابتكار الفني. أنا أساند نظرية الكبح لأسباب فنية لا سياسية. فالإبداع يتمّ بالتلميح والتورية لا بالتصريح. انتقلت هذه النظرية من الشعر إلى السينما. أكّد رولان بارت أننا نتشوّق لما نرى منه القليل أكثر من تشوّقنا للمكشوف، مُقدِّماً مثلاً على ذلك: متابعة ساق يظهر ويختفي من فتحة تنورة. أي أن المتفرّج بصاص أساساً. هذه أطروحتي. مع ذلك، أتفهّم محاولة المخرج، بغرض الشهرة، في عمله الأول خاصة، استخدام الفضائحيّ لجلب انتباه الجمهور والمنتجين. لكن، حين تصير الفضائحية ملتصقة به، فهذا يطعن في شرعيته الفنية. تصوير الصدور والأفخاذ لا يحقّق المجد الفني. حينها، فقط، يبحث عن كيفية تطوير أفلامه، من دون الاصطدام بالوجدان الشعبي لسبب فضائحي. الهدف أن يتخلّص من تهمة تبرّر شهرته بالفضيحة لا بالموهبة. أتفهّم أيضاً شعار الحرية الإبداعية، خاصة حين يكون المخرج المُصاب بالإسلاموفوبيا غاضباً في مواجهة معلّقين يفسّرون كل شيء بالأحاديث النبوية. أتفهّم تلك الحرية والغضب. لكن، على الفنانين تفهّم المرحلة التي تقتضي مقاربة غير صدامية مع الإسلاميين المعتدلين.

بهدف خدمة البلد، أجدّد دعوتي إلى استخدام نظرية الكبح. احترام الإسلام الوسطي ليس بدعة. ومن خالف نردّ عليه بنماذج مخرجين كبار: تدور تحفة فيديريكو فيلّيني “ليالي كابيريا” حول الدعارة. لكن، ليس فيه إلا قبلة واحدة. وحديثاً، تعبّر أفلام ستيفن سبيلبيرغ عن احترام شديد لاعتقادات وتقاليد المجتمعات. هو يكبح نفسه، ولا ينجرّ للاستفزاز المجاني. بعد أفلام “كازا نيغرا” (2008) لنور الدين لخماري و”حجاب الحب” (2009) لعزيز السالمي و”شقوق” (2009) لهشام عيّوش، بلغنا السقف في العري والكلام البذيء، وليس هناك ما بعده إلاّ الشذوذ، الذي تناوله فيلم لنبيل عيوش وآخر لشقيقه هشام. من أراد أن يزيد عن هذا السقف، ليُصوِّر أفلامه من ماله الخاص، وليس من المال العام. عندها، تكون له الحرية الكاملة.

نظرية الكبح فنية أكثر منها سياسية. الكبح يساعد على التكثيف والإيجاز والتلميح والتورية بفضل التشبيهات والاستعارات والأليغوريا. هذه قمّة الصُوَر الشعرية التي تحلم السينما بالوصول إليها. ستكون لنظرية الكبح فوائد سياسية أيضاً. فبتجنّب الأفلام الفضائحية، سيتمّ قنص عصفورين بحجر واحد: أولاً، سيتجنّب التيار العلماني السلوك الاستفزازي الذي سيزيد من عزلته في المجتمع. فمن ينكر هذا، ليقم بزيارة قصيرة إلى الحرم الجامعي: إنه “تيرموميتر” مغرب المستقبل. ثانياً، سيُسهّل ذلك عمل الإسلاميين المعتدلين في مواجهة المتشدّدين، الذين سيبدأون قريباً باتهامهم بعدم تطبيق الشريعة. أقترح على شيوخ السلفية تزويج نصف المغاربة ليزول الزنى. أقترح على رئيس الوزراء عبد الإله بنكيران إرسال عشرة سلفيين للإقامة ستة أشهر في السعودية، ليعاينوا تطبيق الشريعة والعدل الذي ترتّب على ذلك، ثم يعودوا ليخبرونا: هل يريدون المغرب مثل السعودية؟

من باب النزاهة الفكرية التي تضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، أعتبر تسليط الأضواء على الإفطار في رمضان علناً، والشذوذ الجنسي، وتخفيض صوت الآذان، والصُوَر الجنسية الفاضحة، بمثابة قضايا هامشية تقوّي المتطرّفين. لذلك، يجب التعامل مع حضور الإسلاميين المعتدلين في مجال السياسة والفن بتفتّح، تجنّباً للصدامات، وذلك على طريقة كياروستامي، لأن الصدامات تبذر طاقات الشعوب.

(كاتب وسينمائي من المغرب)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى