صفحات الرأي

أعيان الشام”.. لصقر أبو فخر

 

لماذا فشل النظام السوري في إقامة دولة علمانية؟

                                            يقظان التقي

يواصل صقر أبو فخر فعالياته الفكرية وبعد كتابه الأخير “كمال صليبي” الهرطوقي الكبير، صدر حديثاً كتاب جديد بعنوان “أعيان الشام وإعاقة العلمانية في سوريا” عن منشورات (“المؤسسة العربية للدراسات والنشر”، 2013).

يعالج الكتاب مجموعة من الأفكار الراهنة والتي شكّلت نافذة على سوريا في تواريخ ماضوية ليست بعيدة وسوريا اليوم في خضم ما تشهده من أحداث وأصوات تعبيرية تؤشر الى تغيير حتمي في الدور والوظيفة السياسية ومن دون حسم في طبيعة تلك الوظيفة السياسية مقارنة مع حراك سوري تأسس سابقاً على تراكمات فيها سلبيات وإيجابيات مع طغيان السلبيات أكثر في حقبات سابقة أوصلت حزب البعث الى حكم سوريا على مدى أربعين عاماً وأكثر.

سوسيولوجيا اجتماعية معقدة ليست سلبية تماماً، حملت نوازع وحدوية مهمة يكفي أنها أضفت على الطابع الوحدوي الذي أثمر حركة وطنية استقلالية. لكن لماذا أعيقت العلمانية في سوريا بعد الاستقلال؟ لماذا ضرب الاتجاه البعثي العلماني؟ لماذا ضمرت الديموقراطية في أرجائها؟ لماذا فشل حكم القلة الشامية والحلبية والحموية والحمصية في تأسيس مرحلة عصرية؟ لماذا عجزت الأحزاب العلمانية عن اختراق المدن السورية التقليدية التي أسست الثالوث المعروف: ملاّكو الأرض، والتجار ورجال الدين، أي الإقطاعيون بالتحليل الماركسي وإلى جانبهم التجار والرعاع الديني. ثلاثي مقيم طويلاً يعوق التقدم الذي ينشده الفكر النهضوي. ومثل هذا الثلاثي يعوق قدرة الناس على ضمانها لمستقبل ديموقراطي حتى لو تمتعت الناس بقدرة واسعة على التعبير، وبالتالي هذا الثلاثي هو عاملٌ نافي للديموقراطية فكراً وأسلوباً وممارسة وبالتالي يتمتع بالقدرة على إجهاض أي تحرك شعبي.

كتاب صقر أبو فخر يحاول اكتشاف الأسباب الجوهرية للتحولات الجارية في سوريا وتحليلها يمنح مقارنة تمزج التاريخ بالسوسيولوجيا والثقافة والاقتصاد.

وهو يرصد كيف أن النخب السورية التي ورثت من العثمانيين والفرنسيين دولة شبه متصدّعة وحاولت أن تؤسس دولة متماسكة. هذه النخب لم تمنع قيام حزب ديكتاتوري استبدادي قاد سوريا الى مسار أحداث مدمر، ولا سيما أن ما يحصل الآن في الثورة السورية هو هجوم الريف على الريف في المدينة مع انحراف أعضاء حزب علماني الى الاستبداد أو التطرّف والتشدّد أو التبعية أو اللامبالاة أو الهجرة أو الثورة في فوضى كيانية معقّدة.

يفتح صقر أبو فخر نوافذ تطل على ناس المجتمع السوري الحديث بكل تحولاتهم ومعاناتهم وعقائدهم اليومية، وتطل على الإنسان السوري المشترك ولا سيما وسائل العمل المستحدثة في الثورة السورية في حراك مجتمعي هو الأقوى.

ومع قدرة الشعب السوري الاحتمالية الضخمة وتمرّسه لسنتين تقريباً في المعاناة ووجوه المكابدة التاريخية إلا أن ما يحدث يتحرك ضمن تلك المعتقدات والمسارات والصعوبة البحث عن مصير مشترك لمجتمع سوري على حافة الفقر والإرباك وانهيار النظام الاقتصادي وأحوال من التطرّف وسوء تخطيط المعارضة والنتيجة استمرار معاناة المجتمع السوري الآخذة في التعاظم نتيجة أزمة البناء السياسي الحديث وإعادة تشكيل الروحية الاجتماعية الوحدوية التي تميّزت بها الحركة الوطنية السورية.

الى أين تتجه سوريا وأي صراع مصالح كبرى على مسار طويل يحتاج الى بناء سياسي واقتصادي واجتماعي والأخطر هو البناء السياسي مع توزع الدعم الدولي على مصالح فرقاء دوليين وإقليميين في بلد يحتاج في ظرف تاريخي صعب الى أشخاص تاريخيين عرفتهم سوريا في تاريخها الحديث.

الكتاب يرسم حدود إدراك اللعبة السياسية وإدراك بنية التحول السوسيولوجي والتحولات على الأرض وعلى مستوى البنى الاقتصادية وفكرة الحيز العام، الفكرة الجوهرية للديموقراطية إزاء مجتمع عانى طويلاً من فلسفة التفرقة والإقصاء والتهميش والاستبداد المبرمج والمجتمع المنفضح بين الريف والمدينة ونصف قرن وأكثر من العزل والفصل ومن أمراض الروح الوجودية والاجتماعية التي جعلت سوريا اليوم في مناطق رمادية وفي مستقبل غير مفهوم وطغيان وقت العنف مع المذابح مع أن الديموقراطية كسبت أرضاً وصوت الشعب صار يسمع وانتصار قوة الشعب على عقل القوة والحل الأمني. لكن المستقبل ما زال غير مفهوماً ويرى صقر أبو فخر الى العنف بمستوياته السياسية والاجتماعية والاقتصادية كافة الذي يشتد الإقبال عليه.

كتاب يطل على البعد السوسيولوجي الهام للثورة السورية والسياسة هي فعل اجتماعي وعندما تتغير القاعدة الشعبية بشكل جذري تتغير معها المؤسسات وعلى الحاكم فوق أن يتعامل معها جيداً وإلا مستقبل الأمة سيكون التفكك مع ذلك قد يكون أحسن الأسوأ هو الديموقراطية.

في الكتاب يلفت صقر أبو فخر الى أن خمسين عائلة حكمت سوريا في النصف الأول من القرن العشرين وكأن انغلاقها وتشددها أديا الى حكم أهل الريف بقيادة حزب البعث وعلى رأسه لاحقاً آل الأسد، الذي أخطأوا بعد الثمانينات حين مالأوا الجامعات الإسلامية التي سموها “معتدلة” وها هم اليوم يحصدون النتائج في تسوية مواربة لم تنجح بين علمانية يرفضها أعيان الشام بانتماءاتهم السنية الغالبة وبين أقليات دينية مختلفة لم تشعر بأنها أقل انتماء الى الوطن السوري وإلى العروبة من سنّة الشام وهي شريك الدولة الأموية في الوجود التاريخي.. لا بل ما كان للإسلام أن يتجذّر في البلاد من دون دمشق.. وكانت دمشق هي المدينة التي أغفلها حكم الأسد ويعلن اليوم أنه مستعد لتدميرها لكي يربح الحرب.. “وأي قدر لمدينة أطبق عليها الحكم العثماني ودفعها الى التراجع وأفقدها ريادتها، وسلّط عليها أعيانها من رجال دين وأغوات وتجار وإقطاعيين، مارسوا رجعيتهم في مواجهة كل مساعي التحديث والعصرنة، ثم أطبق عليها الريف الأسدي.. وما زالوا يفعلون”.

الأطروحة الرئيسة إذاً في الكتاب هي أن أعيان مدينة دمشق ولأسباب تاريخية متراكمة، حالوا دون تطوّر سوريا بعد الاستقلال في سنة 1946 الى دولة ديموقراطية حديثة، وأن عدم تطوّرها لم يكن خياراً خالصاً للحكام الذي تعاقبوا على السلطة السياسية، بل أن أسباباً تاريخية واجتماعية واقتصادية ودينية كانت تعيق هذا التحوّل. وكان هذا الأساس الذي أدى الى ظهور الدولة التسلّطية المعاصرة في سوريا. اليوم هل النخب الليبرالية هي غيرها التي كانت موجودة في أربعينات القرن الماضي وخمسيناته؟

يطرح صقر أبو فخر سؤالاً صعباً في مقاربته التي تتوزع فصول الكتاب الثلاثة: “أعيان الشام وإعاقة العلمانية”، والفصل الثاني “مطارحات في الشأن السوري”، والفصل الثالث “الإسلاميون والديموقراطية” في مجموعة مقالات و مقاربات تتميّز بمنهجية القارئ من الداخل وفي الصورة الكبرى لأزمة سوريا الحديثة وشديدة الخطورة.

هنا مقدمة أبو فخر لكتابه وأطروحته الرئيسة.

ظلت دمشق دائماً العاصمة التاريخية لبلاد الشام قاطبة، وانعقدت لها مكانة لا تضاهى بسبب موقعها الفريد الذي يتوسط آسيا الصغرى والعراق ومصر.

.. مهما يكن الأمر، فإن سوريا التي مزّقتها اتفاقية سايكس بيكو في سنة 1916، تمزّق معها جميع من حاول إعادة توحيدها. فالعائلة الهاشمية التي صار أحد أبنائها، أي فيصل الأول، ملكاً دستورياً على سوريا، تناثرت هنا وهناك، فبعض أفراد قُتل (الملك غازي والملك فيصل الثاني والملك عبدالله)، وبعضها انتحر (الأميرة جليلة بنت الملك علي)، وبعضها حاقت به اللعنة فتشرّد بائساً في المنافي (الأميرة عزة بنت الملك فيصل الأول)، وبعضها جُنّ (الملك طلال بن عبدالله والأميرة جليلة قبل انتحارها احتراقاً). والحزب السوري القومي الاجتماعي الذي اغتيل زعيمه أنطوان سعادة في سنة 1949، لم يلبث أن اندفع الى مغامرات كانت بلا عقل سياسي (اغتيال عدنان المالكي في سنة 1955، والتصدي لجمال عبدالناصر في سنة 1958، والقيام بانقلاب عسكري في لبنان في آخر يوم من سنة 1961)، وأدت هذه المغامرات كلها الى تمزّقه اللاحق. وكذلك اندثرت حركة القوميين العرب ولم تتمكن من توحيد فروعها. وتناثر حزب البعث العربي الاشتراكي كحطام المراكب المبعثرة، وحطم العراق معه، وربما سوريا أيضاً.

حاولت النخب السورية التي وصلت إلى الحكم في أثناء الانتداب الفرنسي، والتي ورثت دولة متصدعة، أن تؤسس دولة متماسكة. إلا أن أحفاد هذه النخبة بـ”قومتهم” المسلحة في سنة 2011 ربما يحولون سوريا اليوم إلى دولة محطمة غداً. وهذه النخبة التي برزت غداة صدور قانون الأراضي العثماني في سنة 1858، والتي درس أبناؤها في اسطمبول وأوروبا، وعملوا في الوظائف العامة، حُرمت من تسلم أي مناصب مهمة في العهدين الفيصلي والانتداب، إلا القلة التي تعاونت مع الانتداب الفرنسي بالتحديد.

غير أن الاتجاه العام لهذه النخبة كان النضال في سبيل الاستقلال وتوحيد سوريا. وقد تمكن أبناء هذه الفئة من الوصول إلى سلطة الحكم في سوريا في العهد الاستقلالي، وأقاموا نظاماً برلمانياً ومقادير من الحريات على قاعدة حلف العائلات الكبرى في دمشق وحلب وحمص وحماه، وتركوا للمناطق الطرفية بعض المواقع الهامشية في الدولة الجديدة. فمنذ زوال الحكم العثماني إلى ما بعد الاستقلال، ظل رؤساء الجمهورية ورؤساء الحكومات والوزراء والنواب يأتون، في أغلبيتهم الكاسحة، من نحو خمسين عائلة موزعة بين مُلاك الأرض ورجال الدين والتجار (علاوة على بعض الصناعيين) أمثال آل الأتاسي في حمص، وآل حوراني والكيلاني والبرازي والعظم في حماه، والقدسي والكيخيا والجابري في حلب، والسيد وشلاش والشعلان في دير الزور، والقوتلي والعسلي والحفار والدواليبي ومردم بك والعظمة والعابد والغزي في دمشق.

سوريا، بعد الاستقلال، كانت جمهورية أوليغارشية (حكم القلة) شبه ليبرالية. وكان الهم الأول للنخبة الحاكمة هو تماسك الدولة الجديدة في وجه مطامع الهاشميين في الأردن والعراق، ثم التنافس على تقاسم المغانم.

حطمت نكبة فلسطين الجمهورية الأوليغارشية في سوريا، وهزت شرعية جيشها، فبدأت سلسلة من الانقلابات العسكرية التي كنت تعكس، بشكل جلي، التدخل الخارجي من جهة (تركيا والأردن والعراق ومصر والسعودية)، ومن جهة أخرى، التشقق الداخلي. وفي خضم هذه الاضطرابات، وجراء بعض الإجراءات المساواتية في الكليات الحربية التي صارت تقبل أبناء الأرياف بعدما كانت مقصورة على أبناء العائلات المدينية، صعد إلى السلطة ضباط من طوائف منشقة على الإسلام (إسماعيليون وعلويون ودروز)، ومن مناطق طرفية سنية (حوران ودير الزور)، وتحول الجيش إلى مؤسسة تتصادم فيها المكونات السورية كلها.

وبالتدريج، راح النفوذ السني المديني ينحسر في هذه المؤسسة لمصلحة الطوائف والجماعات الريفية، بمن فيها أبناء السنة القادمون من المناطق الطرفية. واستمرت الأحوال على هذا المنوال حتى استيلاء اللواء حافظ الأسد على السلطة في 16 تشرين الثاني 1970، فدخلت سوريا في طور جديد، كان من بين علائمه عقد تحالف وثيق بين السلطة العسكرية الجديدة والتجار ورجال الدين.

فقد ظفر الجيش بالسلطة، وأحكم سيطرته على الدولة، وكان عليه أن يُحكم سيطرته على المجتمع حتى يستتب له الأمر. وفي هذا الميدان نال تجار دمشق، وتجار سوريا معهم، كل ما أرادوه من قوانين وتسهيلات لزيادة ثرواتهم وعائد تجارتهم وحماية رساميلهم، وبات رجال الدين أسياد الناس. وحدهم مالكو الأرض التقليديون (وبعضهم تجار في الوقت نفسه) ما عادوا أسياد الدولة، فتحول بعضهم تجاراً عقاريين، أو نقل أبناؤهم ثرواتهم إلى الخارج ولا سيما إلى لبنان وأوروبا، علماً أن هروب الرساميل الصناعية والعقارية وقع، أول مرة، في سنتي 1957 و1958 عشية الوحدة المصرية السورية، ثم في سنة 1965 غداة التأميمات العشوائية، وكان له الأثر الكبير في الازدهار العمراني الذي شهده لبنان في خسمينات القرن العشرين وستيناته، كما كان له الأثر السلبي الكبير أيضاً في الاقتصاد السوري الذي لم يلبث أن ظهرت عليه علائم الركود. ولولا حرب تشرين الأول 1973، وارتفاع أسعار النفط، وتدفق المساعدات العربية على سوريا لما تحملت سوريا عقابيل هذا الركود، الذي توارى خلف بعض القطاعات الخدمية التي ازدهرت موقتاً كالإسكان والطرق والتوسع في وظائف القطاع العام والسياحة… الخ. غير أن سوريا التي شهدت سنوات مرة جراء كبح قطاع الاستيراد والاعتماد على السوق السوداء ومنافذ التهريب من تركيا والأردن ولبنان، انقلبت على ذلك كله ابتداء من منتصف تسعينات القرن العشرين.

اتبعت سوريا منذ صدور المرسوم رقم 10 في سنة 1995 سياسة عامة حاولت نسخ الطراز الصيني، أي نظام سياسي مركزي واقتصاد ليبرالي إلى حد ما. لكن الطراز الصيني حين جرى تطبيقه في سوريا تحول إلى كاريكاتير. فالانفتاح الاقتصادي الجديد، في غياب البرجوازية الصناعية والعقارية القديمة، أدى إلى ظهور مئات رجال الأعمال الجدد الذين تركزت استثماراتهم في الخدمات كالعقارات والإسكان والنقل والسياحة (وهي قطاعات مترابطة المنافع)، وهؤلاء صاروا، بالتدريج، شركاء للسلطة العسكرية ويعتاشون، في الوقت نفسه، على العقود التي توفرها لهم هذه الشراكة، ولا سيما في حقل الإنشاءات والتوريد إلى المؤسسات الحكومية. ورويداً رويداً أصبحت السلطة، على المستوى الاقتصادي، اللاعب الأول بين لاعبين، وما عادت قادرة وحدها على احتكار السياسة والاقتصاد والعنف معاً. وفي الوقت الذي كان الاقتصاد السوري يشهد تنوعاً في المستثمرين، كان احتكار القلة هو السائد في بعض القطاعات شديدة الربحية، كالاتصالات الخلوية والإعلانات والتبغ وغيرها. وفي المقابل، لم تؤد هذه التحولات الاقتصادية إلى توسع نطاق المجتمع المدني، بل بدأ هذا المجتمع بالضمور لمصلحة المجتمع الأهلي، بعدما اختلج مرة واحدة مع تسلم الرئيس بشار الأسد السلطة في سنة 2000، وإطلاقه الوعود الإصلاحية. وبدلاً من أن تنطلق عملية إعادة تكوين المجتمع المدني في سوريا على صورة المجتمع السوري نفسه، أي إطلاق الحرية في تأليف الجمعيات والنقابات والمنظمات المدنية والصحف…الخ، بدأ هذا المجتمع بالتخلخل عند أول اصطدام له بالسلطة، وخصوصاً بعد احتلال العراق في سنة 2003، واكتفى الناشطون بوسائط التواصل الاجتماعي، والكتابة في وسائل الإعلام اللبنانية، الأمر الذي عكس هشاشة هذا المجتمع الذي خضع للتهميش والإلغاء منذ نحو أربعين عاماً، في الوقت الذي استعادت السلطة قدرتها على القمع المدروس بدقة بعد عودة القوات السورية من لبنان إلى مواقعها في سوريا في سنة 2005.

تكونت البرجوازية السورية الجديدة في ظل البعث. واشتهر من رجالها صائب نحاس ورياض سيف ورامي مخلوف وفراس طلاب ومحمد بهجت سليمان وجمال خدام وسامر العطار وراتب الشلاح وغيرهم كثيرون. غير أن هذه البرجوازية المحدثة لم تكن قادرة بالتأكيد على مواجهة العولمة وشروط التجارة العالمية في عصر حرية التبادل، حتى إن بعض الاتفاقات الاقتصادية، مع تركيا مثلاً، أدت إلى إفلاس كثير من الصناعات الحدّية ذات الحجم المتوسط، علاوة على انهيار بعض الحرف. والسياسات الاقتصادية التي اتبعها النظام منذ سنة 1990 فصاعداً، والتي جاء معظمها كتوصيات من صندوق النقد الدولي، أدت إلى انفكاك جماهير الريف عنه.

حزب ريفي بات الريف ضده. هذه هي صورة الأحوال في مطلع الألفية الثالثة. وحزب شبه علماني انجرف أعضاؤه إلى التدين. ذلك لأن ظهور المدن المتضخمة سكانياً ذات الأرياف المهمشة وأحزمة البؤس حول المدن التجارية الباذخة، علاوة على أخبار الفساد والثروات الهائلة، ثم الوقاحة في المجاهرة بالثراء، أدى، ذلك كله، إلى الانجراف نحو التدين كرد فعل تلقائي على السلوك الاستفزازي للأثرياء الجدد. أما الوجه الآخر لهذه العملية الاجتماعية فقد تجسد في سهولة إدارة الظهر للعلمانية، وفي الاتجاه نحو شعبوية إسلامية رثة، تماماً كما فعل صدام حسين إبان الحرب مع إيران وغداة هزيمته في الكويت في سنة 1991، حين كتب عبارة “الله أكبر” بالأخضر على العلم العراقي. والأمر نفسه حدث في سوريا منذ سنة 1970 فصاعداً: الإصرار على تأكيد إسلام حافظ الأسد، من خلال الصلاة في الجامع الأموي في عيدي الأضحى والفطر إلى جانب الشيخ أحمد كفتارو، تأسيس مدارس تحفيظ القرآن، اتساع ظاهرة النساء القبيسيات (منيرة القبيسي)، تزعم الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي ومحمد حبش منابر الإعلام الرسمي، فضلاً عن محمد غول أغاسي (أبو القعقاع) إمام جامع الايمان في حلب، قبل أن يغتاله بعض مريديه في سنة 2007 بتهمة الردة عن الفكر الجهادي. لقد بُني من الجوامع في عهد حافظ الأسد أكثر ما بني في سوريا منذ الاستقلال حتى سنة 1970. لذلك ليس من المستغرب ألا يتخذ رد فعل أحزمة الفقر على المدينة وثقافتها شكل الاحتجاجات الواعية والمنظمة والشاملة، بل شكل الاحتجاجات الدينية أو القومية المتطرفة(…)

أما الفئات التي خرجت إلى الاحتجاج فيمكن تصنيفها كالتالي:

سكان الأرياف المهمشة المحيطة بالمدن.

ضواحي المدن التي تعج بالعاطلين عن العمل.

النازحون من مناطق القحط إلى ضواحي المدن.

أبناء الطبقة الوسطى المتعلمون والباحثون عن مكانة اجتماعية تليق بشهاداتهم، والذين ما عادوا يطيقون نظاماً استبدادياً.

مناضلون ومثقفون ومفكرون وكُتّاب وناشطون في هيئات المجتمع المدني.

أكراد وتركمان وأبناء أقليات قومية.

في أي حال، فإن ما يهمنا اليوم هو انتصار الديموقراطية في سوريا، لأن الديموقراطية تعني أن شرعية السلطة لا تأتي من الله أو من الحاكم بأمر الله، بل من الشعب، الأمر الذي يعني أن في إمكان هذا الشعب أن يغير السلطة أو أن يحاسبها. وبمعنى آخر، فإن انتصار الديموقراطية ليس انتصاراً على الاستبداد وحده، بل على الفكر التكفيري السلفي والإخواني معاً. غير أن الثورات لا تجلب الديموقراطية بالضرورة. فالثورة الروسية ضد الاستبداد القيصري في سنة 1917 جلبت الاستبداد الستاليني. وثورة 23يوليو ضد الملكية في مصر، لم تأت بالديموقراطية. والثورة الشعبية ضد شاه إيران في سنة 1979 أتت بالاستبداد الديني وسلطة الملالي. والثورة الشعبوية على نظام المجاهدين في أفغانستان حملت إلى السلطة جماعة متخلفة رثّة ومتعصبة هي “طالبان”.

الديموقراطية، في مضمونها الجوهري، لا تعني، على الإطلاق، حكم الأغلبية ونقطة على السطر. ففي هذه الحال لنتذكر أن الديموقراطية أتاحت لهتلر وفرانكو وموسوليني الوصول إلى الحكم. والديموقراطية كما نتطلع إليها في سوريا المقبلة، وفي بقية أرجاء العالم العربي، ليست مجرد نظام سياسي قائم على فصل السلطات فحسب، بل هي نظام للمجتمع التعددي، أي أنها عقد اجتماعي لا يجيز أبداً لمن وصل إلى السلطة بالانتخابات أن ينقلب عليها بذريعة الأغلبية، لأن من شروط سريان العقد التزام جميع الأطراف بنود هذا العقد.

ما يجري اليوم في سوريا يشبه، ولو شكلياً، ما حدث في ايطاليا في سنة 1860. فالمطالب الصحيحة للشعب السوري، وهي الحرية والديموقراطية والقضاء على النهب والفساد، ومحاسبة اللصوص والمجرمين، وتأسيس دولة عصرية جديدة، لا يجادل فيها أحد. لكن هذه الغايات النبيلة راحت تتحول على أيدي الجماعات التكفيرية والجماعات الثأرية والطائفية والعصابات المقاتلة إلى مجرد صرخة على غرار صرخة الايطاليين ضد الفرنسيين (…).

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى