زحام بيروت ومعنى الحياة
أحمد بيضون
بين حينٍ وحين يخطر لي أن زحمة السير في بيروت، وفي الطرق المفضية إليها، منطلقٌ صالح للتأمّل في معنى الحياة. أقول “منطلق” ثم أفطن إلى كون الانطلاق هو ما يعزّ حصوله في الحالة التي تستوقفني. “استوقَفَ” التي فرضت نفسها عليّ الآن أوفق بكثير من “المنطلق”. لا آتي شيئاً غير مسبوق حين أفترض أن أمراً من نُثار حياتنا اليومية في المدينة يصلح أرضاً نقلّب عليها مسألة من مسائل ما بعد الطبيعة: مسألةً ليست أيّة مسألة وإنما هي مسألة المسائل. ما الذي يبقينا في قيد الحياة ويثنينا عن الإقدام على الانتحار؟
لا آتي شيئاً غير مسبوق إذن. ففي قراءات شبابي، وقعت كما وقع غيري في الكون والعدم لجان بول سارتر، على مثال خادم المقهى الذي يمثّل دور خادم المقهى وعلى مثال الرجل والمرأة اللذين يلتقيان على مقعد في حديقة عامّة، وعاينْتُ نفاذ الفيلسوف من هذين المثالين المستمدّين من الحياة “العاديّة” ومن أمثلة أخرى تشبههما إلى أبعاد يتعين بها وجود البشر كله في فرادته.
لكنّ عليّ أن أعود مرّةً أخرى إلى مفرداتي لأُظهر إملاءَ التعبئة النفسية المتعلّقة بموضوعي ألفاظاً بعينها توافق مناخ الموضوع وأخرى لا تخلو من هزء بهذا المناخ. فمن العبارات الموافقة هنا قولي “أرض نقلّب عليها مسألة”. فإن ثبات الأرض وحصول التقليب في موضع ثابت منها أيضاً يوحيان بالحال التي يكون فيها العالق في سيّارة أجرة تتسلّق به شارع بشارة الخوري في ساعات وسط النهار نحو السوديكو. ومن العبارات غير الموافقة أو الساخرة قولي”شيء غير مسبوق” إذ لا شيء مما يكون فيه هذا الراكب يبيح ذكر “السَبْق” أو “السباق”. هذا ما لم يكن المقصود ذاك النوع الداخلي من التسابق الذي يبيح للراكب استشعار هجمات السيّارة على من أمامها أو حولها وهي واقفة لا تريم عن موضعها تقريباً. معنى هذا أن الاحتباس في سيارة أجرة فرصة للبحث في أهلية الكلام وشروطها وليس في معنى الحياة وحسب.
أعود إلى الهزء والسخرية. هذان قد يكونان طعناً في قيم مستقرّة فيجنحان بالمرء إلى القول إن الحياة لا معنى لها، في نهاية المطاف، وإنه يحسن به أن يضع حدّاً لحياته. ولكنهما قد يكونان أيضاً قوّةً مقابلة للمراوحة التي يشير إليها “التقليب على الأرض” فيسعفان في تحمّل هذا الوقت… هذا العيش الذي يأكله الزحام ببطءٍ لا يطاق.
أقبل قول صاحبنا إن “خفّة الكينونة” “لا تحتمل”، ولكن ما يختبره الراكب في تلك السيارة البيروتية هو أن البطء، لا الخفّة، هو ما يأكل معنى الحياة ويحيلها إلى “شيء لا يطاق”.
وذاك أن البطء، في هذه الحالة، يأكل الحياة نفسها ومعناها معها. وهذا ليس دأبه دائماً. فالبطء قد يكون مطلوباً في القبلة، مثلاً، أو في تذوّقك كسْرة شوكولا. فههنا تجد الفجيعة سبيلها إلى الوجود البشري من باب إفضاء الأشياء المحتوم إلى نهاية لا من باب المراوحة فيها بلا نهاية.
في سيّارة الأجرة يكون الوقت متاحاً للسؤال عن قيمة حياة تمضي منها أربع ساعات من كلّ يوم، مثلاً، في واحدة من هذه السيارات، الوسخة المقاعد والمتداعية الأركان، وأنت ذاهبٌ إلى عملك وعائدٌ إلى مسكنك. ويتحدّد الجواب، في وجه من وجوهه، بقيمة ما تفعله في عملك بعد أن تصل إليه وما ينتظرك في منزلك متى عدتَ إليه. فتوشك الحياة أن تجتمع أطرافها وتنتظم بكلّيتها حول وقت الانتقال الموسوم بميسم الضياع وَسْماً لا رجعة فيه.
وهو وقت ضائع بأشدّ المعاني قوّةً لأنه يكاد لا يحتوي شيئاً غير التضجّر من ضياعه ويكاد يطيح ما يحفّ به من الوقت من جهتيه. إذ هو يطرح السؤال المتعلّق بوجاهة ما يسبقه وما يلحقه واستحقاقهما هذا العناء كلَّه. وهو يفضي من هنا إلى إيماضات الحيرة في الاختيار ما بين المضيّ في عيش هذه سيرته والانتحار. ومعنى “الحيرة” أن تروح وتغدو بين أمرين يبدوان متساويين في القيمة، على اختلافهما أو تعارضهما في العاقبة. ومعنى “الاختيار” أن ترى أمراً من الأمور “خيراً” من غيره.
فما الذي قد يُخرج وقتَ الاحتباس في الزحام هذا من الضياع كليّاً أو جزئيا؟. لا يؤمل هذا من مذياع السيّارة إلا في ما ندر، إذ لستَ محكّماً في ما تَسمع، وأنت الراكب المسكين المتّهم بأنك لا تدفع بدلاً عادلاً يوازي، بزيادته، الزيادة المتواصلة في أكلاف نقلك. ما تسمعه يُمْلى عليك ويندر أن يوافق ذوقك أو همومك بل هو كثيراً ما يناطح ميولك رأسيّاً. لا شيء تفعله، فوق ذلك، في سيارة أجرة: ليس متاحاً، بلا إزعاج للغير، أن تقرأ كتاباً أو جريدة على غرار من يسافرون في وسائل النقل العام الرفيعة السويّة في بعض مدن العالم. ولا يغنيك، إلا استثناءً، أن تسمع شكاوى السائق. وذلك لأسباب تتّصل، كما في حالة المذياع، بتنافر الرؤى والأمزجة. وهذا مع العلم أنك قد تتعلّم من السائق أشياء تتصل بالمدينة والمجتمع إذا كنت مستعدّاً للتجاوز عن التنافر المشار إليه طلباً لهذا الصنف من المعارف.
أكون أم لا أكون؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه عليك زحام بيروت. ولكن يجوز أيضاً أن نبقى على مستوىً أكثر سطحية أو أقلّ جذرية مما بعد الطبيعة وهو المستوى الاجتماعي. فنؤجّل السؤال عن معنى الحياة بإطلاقه لنسأل عن شروط الحياة سويّةً. والمدخل الأوسع إلى هذه المسألة الأخيرة هو، على الأرجح، طريقة اللبنانيين في سياقة سياراتهم، في الزحام خصوصاً وفي غيره أيضاً. وهو أيضاً تباين المصائر بين المنتقلين لجهة وسيلة النقل. وهو أخيراً موضوع المشاة والدراجات النارية وعلاقتها بالسيارات وبسائقيها.
في مسألة السياقة، يفي بالغرض قول القائلين السائر إن العلاقة الغالبة بين سائقي هذه الألوف المؤلّفة من السيارات إنما هي علاقةُ قتالٍ وإن اللبنانيين يخوضون على الطرق وفي الشوارع حرباً أهلية دائمة. وفي مسألة العلاقة بوسيلة النقل، لا يستوي المنتقل في سيارة السرفيس المتهافتة والمنتقل في السيارة المكيّفة، يَسْمع من الموسيقى ما يشاء ويُخرس من الإذاعات ما يشاء. والحسد الطبقي شعور مؤكّد بين الفئتين وهو قد يغشّي وحدة الحال الماورائية المتحصّلة من الاحتباس والوقت الضائع.
وأما المشاة فهم الضحايا الناقمون على من عَداهم وعلى البلدية والدولة. وأخصّ من تنزل عليهم نقمة المشاة سائقو الدرّجات النارية الذين يتقافزون بين السيارات المتوقفة وينقضّ هذا أو ذاك منهم على العابر، من خلف سيّارة ما، فيما يلحق آخرون منهم بالمشاة إلى الرصيف الضيق الذي أكلت بعضه سيارات ودراجات أخرى متوقفة بالطول أو بالعرض. ذاك مدخل ممتازٌ إلى تأمّل آخر: وهو التأمل في إفضاء أنواع من البوادر المتكررة، الفردية على الرغم من تكرارها، إلى استحداث عداء اجتماعي يشتمل على فئة عريضة من الناس برمّتها. سائقو الدرّاجات النارية، وهم، في معظمهم، كادحون يجهدون لكسب لقمتهم، نموذج للفئة التي يستجلب بعضها بُغْضاً يشمل سائرها ويستدرج بعض سلوكها غضباً يشتمل على أشخاصها. معلوم أن هذا المساق هو أوّل العنصرية التي قد لا تظهر بتمام صَلَفها في الحالة التي نحن بصددها. ولكنها تستقي من بعض الحالات وقوداً لحالات أخرى.
كان ألبير كامو يقول إن الانتحار هو المسألة الفلسفية الوحيدة “ذات الصفة الجدّية حقّاً”. هذا ما يفطن إليه أو إلى ما يشبهه العالق كلّ يوم في زحام بيروت.
المدن