صفحات المستقبلياسين السويحة

خطاب النظام… سجن الثورة

ياسين سويحة

قدّمت الساعات التالية على العدوان الإسرائيلي الأخير على سوريا مُناسبة مثاليّة العناصر لكي يعرض النظام بؤس خطابه من جهة، واكتفائه بهذا البؤس، بل واعتزازه الكبير به من جِهةٍ أخرى. لم يكتفِ نظام “الممانعة والمقاومة” بدور الشاهد السلبي على العدوان والهروب من الرّد الفوري إلى “زمانٍ ومكانٍ” ينتظران منذ عهد الطاغية الأب. بل شرع، من طريق الناطقين باسمه الكثر في سوريا ولبنان، يتّهم منتقدي تخاذله الجديد، باستخدام لغة التخوين العضويّة في كينونته، بالمزاودة، بحثاً عن تصعيدٍ مع إسرائيل يصبّ في مصلحة هذه الأخيرة. اتهامٌ ليس سوى مشهد مكرر (ديجافو) للسلوك البعثي مع عبد الناصر قبيل الهزيمة النكراء العام 1967.

 النظام مستقيل، ليس فقط من الواجب المُفترض على من يدّعي كونه السلطة الشرعيّة في دولة، بل وعن دوره المزعوم كرقم من أصعب الأرقام في معادلة “الممانعة”، على المستوى الإقليمي، كما بمقادير تكفي للمزايدة على قارات العالم. لم يُقاوم النظام منذ عقودٍ طويلة، إذلالات متلاحقة عرّضه العدو الإسرائيلي لها، وأحالها إلى زمانٍ ومكانٍ مجهولين للرد. إلى ذلك الحين، ﻻ حدود لخيال الناطقين باسم النظام أو بأسماء حلفائه لإيجاد التبريرات، المنطقيّة دوماً بطبيعة الحال، لهذا الخنوع. وهناك إنعاشٌ دائم لهذا الواقع الشيزوفريني باعتبار أن كلّ أصحاب الخطاب المُماثل هم إما حلفاء أو متعاطفون مع النظام، وبالتالي ﻻ مزايدات خانقة أو مُحرجة.

 المُناسبة الأخيرة مثال جديد على فقر المنطق، واكتفاء هذا الفقر بذاته. النظام يحتاج إلى القليل جداً كي يغطّي، خطابياً، شبكة المصالح والمخاوف المتمفصلة عليها حالة اجتماعيّة- سياسيّة مؤيّدة لها. أي أن ديناميّات تغذية الجمهور المؤيّد، داخل وخارج سوريا، وهي أيضاً تغذّي من جمهورها، عدا حالة مُدمني شعارات قوميّة و”يساريّة”، مُستقلّة تماماً عن جوهر خطاب “الممانعة”، وﻻ تستخدم هذا الخطاب إلا كعنوان دعائي. هلوسات التلفزيون السوري، وعنتريات شبّيحة الإعلام، ليست سوى مجرّد غلاف، ديكور خارجي ﻻ يراه، وﻻ يكترث لرؤيته أساساً، من يقبع داخله نفسياً واجتماعياً وسياسيّاً. ديكور يشكل خطّ الفقر السياسي والإعلامي الذي حُبست فيه البلاد وأهلها طوال عقود. وهو، في الوقت نفسه، خط اكتفاء النظام من السياسة والإعلام لتقديم نفسه. لم يتغيّر منسوب الاكتفاء هذا خلال عامين ونيف من الثورة. ليس ﻷنه ما زال كافياً لجمهوره فحسب، بل أيضاً ﻷنه أيضاً، وللأسف الشديد، ما زال محتفظاً بقدرته على حشر الثورة في مواقف دفاع متكررّة.، آخرها، بالذات، مع العدوان الإسرائيلي.

 يصعب، من دون شك، اختراقُ بؤسٍ متقوقعٍ على نفسه، كما خطابُ النظام. لكن حالة الانكشاف المتكررة للخطاب السياسي للثورة أمامه، تحتّم طرح الكثير من الأسئلة حول أسباب فقر المخيلة في هذا المجال، لا سيما في حالة الثورة السوريّة، القائمة بالذات على استنباط طرقٍ غير تقليديّة في المقاومة على الأصعدة كافة، ومُدعّمة بإنفجار إبداعي طاول حتى الفنون، الكلاسيكيّة منها والجديدة. الثورة السوريّة انعتاقٌ شامل وعنيف، لكنها، سياسياً، ما زالت حبيسة ردّ الفعل على خطابٍ فقير وبائس يقبع، منذ أكثر من عامين، في حالة استسلام أمام استحالة ستر فعل همجي جارٍ تحته. وثمة أسئلة كثيرة عن الطبقة السياسيّة المُعارضة، مُستحقاتها واستحقاقاتها، وعن مواطن الخلل الذي منع الثورة من إفراز طبقة سياسيّة أقدر على ترجمة انعتاق اﻻجتماع الشعبي إلى فعل سياسي متماسك.

هي أسئلة بحجم أزمة ثقة الثورة في نفسها، وتحتاج إلى بحث عن إجابات، ﻻ إلى تبريرات.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى