حول معادلة الصراع في سوريا/ طلال الميهني
يفترض أن يستند جوهر الصراع في سوريا إلى نضالٍ ضد الاستبداد الذي يمارسه نظامٌ قمعيٌ، وإلى رفض ما يرتبط به من فسادٍ وتكبيلٍ للحريات ومصادرةٍ للحقوق. ويمكن التعبير عن هذا الصراع في معادلةٍ تختلف من حيث التسميات، ومن حيث الدقة وقابلية التعميم: نظام ضد معارضة، نظام ضد ثورة، نظام ضد انتفاضة، نظام ضد شعب.. إلخ. لكن مهما تعددت صيغ هذه المعادلة فإن القاسم المشترك الذي يجمع بينها هو وجود النظام منفردا في طرفٍ من طرفيها، في مقابل العناصر الأخرى التي تعارض النظام وتثور عليه.
إلا أن التعقيدات والتغيرات الذاتية والمتسارعة التي طرأت على المشهد السوري، ودخول لاعبين خارجيين إقليميين ودوليين، جرد هذه المعادلة الـمـبسطة من فعاليتها، ومن قدرتها على توصيف المشهد وتحليله، فضلا عن جعلها عاجزة عن توقع مآلاته، إذ لم تعد القضية مقتصرة على نضالٍ ضد النظام وحده، فقد تكاثرت الفرق المستبدة في الساحة، بتحالفاتها المتشابكة وولاءاتها المتغيرة والمتعددة. وللأسف، فعوضا عن تطوير معادلة الصراع من قبل مثقفي الشأن العام السوري، وعوضا عن إخضاعها إلى مراجعةٍ مستمرةٍ تبعا للظروف والأحداث، فقد أسدل عليها شيءٌ من الجمود، جمود يحافظ على حالة الفصل الـمطلق بين النظام الذي يوضع في حيزٍ، وبين ‘كل’ من يقف في وجه هذا النظام من الأطراف التي توضع بدورها، على اختلافها الجذري وتناقض سلوكياتها وأهدافها، في حيزٍ آخر.
يدل الجمود في هذه المعادلة، وما يؤدي إليه هذا الجمود من قصور وعجز، على أزمة عميقة في العقلية الثقافية السائدة، وعلى تشوش وتشوهٍ في المرجعيات التي تستند إليها، حيث تنطلق هذه العقلية من شخصنة المشهد السوري، ومقاربته على مستوى المظاهر الخارجية والتصريحات العاطفية والهويات ما قبل الحداثية، بدلا من مقاربته موضوعيا على مستوى المناهج التي تبنى عليها هذه المظــــاهر والتصريحات والهويات. العقلية الثقافية السائدة، وبســـبب تاريخٍ طويلٍ من القمع، مبنيةٌ على منطقٍ ثنائي الحد: أبيض أو أسود، إما خير مطلق أو شر مطلق، إما معي أو ضدي (ولهذا المنطق أسس فطرية ممتزجة مع الإرث المقدس والتقليدي). يتصــــف هذا المنطـــق بالخلو من العمق والتدبر، وينعكس على العقلية السائدة، حتى لو كانت بعيدة عن دائرة الألم المباشر، ويجعـــلها مولعة بالصورة على حساب ما هو كامنٌ وراء الصورة، وأسيرة للحدث الآني بدلا من الأثر البعيد، ومنغمسة في اصطناع ‘الآخر’، والبحث عن مواطن التمايز عنه، عوضا عن السعي إلى التلاقي معه.
لقد أخذت هذه العقلية حضورا صارخا في خضم الألم الذي يكتسح سوريا، وغياب أو تغييب أي صوتٍ عاقلٍ وفعال. وهذا ما قد يفسر تهميش القيم والفضائل العليا (كحق الحياة، والحفاظ على النفس البشرية)، وعدم اتخاذها مرجعياتٍ ترسم خطوط الصراع القائم، لتحل مكانها، نتيجة للاسترخاص الـمزمن للإنسان في المنطقة، اصطفافاتٌ سياسيةٌ تتمحور حول كراهية/حب ‘شخصٍ’ أو ‘جماعة’. ومع جمود معادلة الصراع، طرأ انزياح خاطئ في طبيعة هذا الصراع؛ فابتعد عن الحقوق والحريات، وغدا صراعا عبثيا بين قوى عنفية متقاتلة ظاهرا، لكنها متشابهةٌ منهجا، لدرجةٍ يخيل فيها للمراقب أن هذه القوى العنفية متحالفة.
تكمن خطورة هذا الانزياح في أن الحالة الثأرية الآنية تأخذ أولوية على الحالة الأخلاقية الوطنية طويلة الأمد، حيث يتم تجاوز الأخيرة، أو التضحية بها أو غض النظر عنها، بناء على ‘ضرورات المرحلة’، وفي سبيل الحصول على دعمٍ مؤقت. وهكذا تخلت معظم الأطراف العنفية عن قضايا الحرية والكرامة ذات البعد الوطني والإنساني الجامع، جاعلة غايتها محصورة فقط في معاداة النظام، والوصول إلى حالةٍ من الندية الـمناقضة له، حتى لو أفضى ذلك إلى تقمصٍ كاملٍ لنهج وسلوك النظام الذي تم الانتفاض في وجهه.
يدفع هذا الانزياح الخاطئ، على سبيل المثال، قطاعاتٍ ممن يعارض النظام إلى إبرام تحالفاتٍ مع كل الأطراف التي تعلن قولا و/أو فعلا عن عدائها للنظام، حتى لو كانت هذه الأطراف غير مؤمنةٍ بأي قيمٍ تنعكس إيجابا على سوريا وعموم السوريين. ومما يؤسف له هو الاستمرار بهذه التحالفات حتى بعد أن أثبتت التجربة عدم اكتراث هذه الأطراف بالشعب وبعدالة قضيته، مثلا ما يسمى بأصدقاء سوريا، والجماعات المتطرفة. طبعا قلل الخطاب الغوغائي الذي احتل المنابر الإعلامية من كارثية هذا النهج العقيم والمراهق، ولم يمتلك الشجاعة للإشارة إلى أن هذه التحالفات ستلوث الحراك الشعبي، عاجلا أم آجلا، وستأخذه في مساراتٍ بعيدةٍ كل البعد عن مصالح الشعب والوطن.
لا جدوى من تبرير هذا الانزياح الخاطئ، أو شتم النظام ولومه، أو التعظيم من صمود الشعب، فهذه الممارسات ليست سوى محاولات للتخدير في ظل فداحة الخطب. كما لا يكفي العمل على تحليل الأسباب التي أدت إلى هذا الانزياح، بل لا بد من التركيز على الواقع الحالي، وتدشين وإقحام معادلةٍ جديدةٍ كليا، في أحد طرفي المعادلة الجديدة كل من يعارض الاستبداد قبالة ‘كافة الأطراف الأخرى’ التي تتبنى الاستبداد مهما كانت صورتها أو التسمية التي تختبئ وراءها (نظام، عسكر، تطرف، معارضة سياسية إلخ).
سوريا في حاجةٍ إلى معادلةٍ جديدةٍ ومرنةٍ تنطلق من المناهج والمبادئ، لا إلى معادلةٍ جامدةٍ تختزل الصراع بالارتهان إلى معسكراتٍ ثابتة. سوريا في حاجةٍ إلى العودة إلى القيم الوطنية والأخلاقية الجامعة، وليس إلى اصطفافاتٍ متعاكسةٍ ظاهرا، ومتشابهةٍ ضمنا بالمنهج والوسيلة. ولا شك في أن تحقيق مثل هذا الطموح وترجمته على أرض الواقع يتطلب وقتا وجهدا وتراكما، ويستدعي تغييراتٍ جذرية على مستوى الفكر والثقافة، وعلى مستوى العقلية السائدة والمرجعيات: وهذه التغييرات الجذرية هي تماما روح الثورة، وبدونها فالثورة لا يمكن لها أصلا أن تكون.
‘ كاتب سوري
القدس العربي