صفحات العالم

موسكو وواشنطن: تحولات في الأدوار؟/ أسعد عبد الرحمن

 تكتسب الدول العظمى مكانتها المرموقة في العالم استناداً لعدة معطيات أهمها: السياسية والعسكرية والاقتصادية والتكنولوجية. لكن، في بعض الأحيان، تظهر شخصية سياسية ملهمة تتبع مبدأ النفعية وتقرأ المصالح فيكون لها دورها في جعل بلدها في مصاف الدول المتميزة. واليوم، مع الاعتقاد العام بضعف الولايات المتحدة النسبي، بعد انسحاب قواتها من العراق وأفغانستان، فضلا عن هواجس البعض بأنها لم تعد الحليف الذي يعول عليه نتيجة كللها ومللها من القيام بدور الشرطي في المنطقة، علاوة على الاتفاق «التاريخي» بين طهران والدول الكبرى بشأن البرنامج النووي الإيراني، ها هو الدب الروسي ينفض عن نفسه غبار «الأمة المهزومة» فينهض ليحجز لنفسه مكانة مهمة في العالم.

وفي بداية ولايته، أعلن أوباما رفضه خوض بلاده أي حرب خارجية. فهل جرى تحول في استراتيجية الدولة الأعظم بالانكفاء الذاتي على نفسها، والابتعاد عن مواقع النزاعات والتوترات؟ أم أن الرئيس الروسي (بوتين) عازم على تغيير شيء ما في الصورة النمطية الدارجة في الشرق الأوسط بل وربما في مناطق أخرى في العالم، وهو الذي تتملكه رغبة لا يخفيها في إحياء الإمبراطورية السوفييتية؟ بالفعل، لم تعد الولايات المتحدة اللاعب المنفرد على الساحة الدولية بعد دخول لاعبين آخرين أصبح لهم ثقلهم الدولي. وتحيل مجلة «فورين بوليسي» الأميركية تراجع دور الولايات المتحدة بالأساس إلى أميركا نفسها. وتؤكد أنه «لم يعد لها يدٌ في تغير الميزان الدولي السريع الحاصل الآن. فمحاولة تحكم أميركا المباشر بتشكيل سير الأحداث الدولية، كان له أثره في تحول العديد من الدول بعيداً عنها حتى في ظل احتياجهم لها كما حدث في العراق. وليس هناك أدعى من تورطها في حادثة التجسس على زعماء العالم لتبين مدى تدخلها في شؤون غيرها حتى حلفائها. وجاءت هذه الحادثة لتضيف دولا جديدة إلى قائمة الدول التي تتحول بعيداً عن الحليف الأميركي مثل البرازيل». وتضيف المجلة أن «تخاذل أميركا في العديد من القضايا الهامة على الساحة الدولية، هو ما أفقدها ريادتها في حل الأزمات الدولية، بل أدى إلى تفاقم الأوضاع والسقوط في الفوضى كما حدث في سوريا، وليبيا، ومصر التي قررت السير في طريقها غير عابئة بتصريحات وإجراءات الإدارة الأميركية».

وفي السياق ذاته، ولو بوتيرة مختلفة، كتب الصحفي البريطاني فيليب ستيفنز في صحيفة «فايننشال تايمز»: «الشرق الأوسط يحترق، والولايات المتحدة تتأهب للخروج منه: ثمة قدر من المبالغة في هذه الملاحظة. أصبحت تفاعلات الصراع وتزايد الميول نحو فك الارتباط الأميركي بالمنطقة يعززان بعضهما بعضاً. وكلما ارتفعت ألسنة اللهب والحرائق في المنطقة، بدت واشنطن أكثر عزماً على الابتعاد منها». ويضيف ستيفنز: «خيط الحقيقة أن الولايات المتحدة قررت بالفعل الرجوع خطوة إلى الوراء. وفي هذا، صرح أوباما، في وقت سابق، أنه انتخب لإنهاء حروب أميركا وليس لإشعال أخرى جديدة». ويختم الكاتب: «لقد عبّر خطاب أوباما أمام الأمم المتحدة عن هذه الاستراتيجية.. وقد سجل التاريخ أن ذلك الخطاب يمثل لحظة تخلي الولايات المتحدة عن الريادة في الشرق الأوسط بعد أكثر من نصف قرن». وفي ظل هذا «اللادور»، أتاحت توترات غير معتادة بين واشنطن وحلفائها من العرب الفرصة لروسيا لاستعادة بعض من نفوذها في الشرق الأوسط واقتناص صفقات سلاح على حساب الشركات الأميركية، معيدةً للأذهان ذروة النفوذ السوفييتي في المنطقة خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي. هذا رغم أن أمام روسيا شوطاً طويلا قبل أن تستطيع مجاراة مبيعات السلاح الغربية، وعلى رأسها الأميركية، في المنطقة. فبحسب المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، فإن «مبيعات روسيا من السلاح في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بلغت 4ر8 مليار دولار في الفترة بين عامي 2008 و2011، ارتفاعاً من 4ر3 مليار دولار خلال الفترة من 2004 إلى 2007، بالمقارنة مع مبيعات أميركية بلغت 8ر21 مليار دولار في الفترة الأولى و6ر19 مليار في الفترة الثانية».

وفي مرحلة الثنائية القطبية، شهد العرب والعالم احتلال فلسطين وسيناء والجولان، وشهدوا أيضاً خلافات عربية سالت جراءها الدماء. لذا، فإن الرغبة بوجود توازن عالمي جديد يخرج المنطقة من هيمنة وسيطرة القوة الأميركية الواحدة بات أمراً منشوداً لدى جمهور متزايد. ولا شك أن هنالك الآن مؤشراً مهماً للتحولات التي قد تؤسس لواقع جديد للعلاقات الدولية والنظام العالمي المعاصر يتجسد في الكيفية التي نجحت بها روسيا في سرقة الأضواء من الولايات المتحدة، التي كانت منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية اللاعب الأهم والأكثر تأثيراً على المسرح الدولي، رغم اعتقاد الكثيرين أن روسيا لن تجرؤ على تحدي الولايات المتحدة بوصفها الضامن الرئيسي للأمن في منطقة الخليج العربي، وصاحبة المكانة غير المتنازع عليها في «محادثات السلام» بين الفلسطينيين والإسرائيليين. فهل يعني هذا الحال العودة إلى الثنائية القطبية؟ أم أنه مجرد اتفاق مرحلي بين موسكو وواشنطن؟ أم هو مجرد «إرخاء توتر» بينهما فرضته الأحداث والتطورات الدولية المتسارعة؟ أم تراه يتطور إلى درجة «وفاق» يتم بموجبه تقاسم مناطق النفوذ بين الدولتين، مع اكتشاف عدم قدرة طرف على إدارة الأحداث الدولية بمفرده؟ أغلب الظن أن ما تسعى روسيا إليه هو أن لا يكون النظام الدولي أحادي القطبية على نحو مطلق، وأن تعترف واشنطن بها كدولة لا يمكن تجاهل دورها عالمياً، بل، وربما، لا حل ممكن بدونها، وكأنها تسعى إلى «تهذيب» الهيمنة الأميركية. هنا، لابد من الحديث عن دور شخصية الرئيس الروسي في التغييرات الحاصلة في عالم اليوم، وكيف أمكنه سحب البساط (أو جزءاً منه) من تحت أقدام الرئيس الأميركي، خاصة أن نظرته للأزمات الدولية عبرت عن درجة من الحزم في صنع السياسة الخارجية ربما لم تعد تتوافر لدى الولايات المتحدة وبالتأكيد لا تتوافر للدول الأوروبية. كما أن بوتين هو الرئيس الذي يعمل على أن تبقى روسيا قوة نووية، وقوة كبرى في جميع أوجه النشاط الدولي، وقوة مهيمنة في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية في المناطق المحاذية لها، الأمر الذي يعزز شعورها بالكبرياء الروسي المعهود. وهذا ما سنتناوله في مقال لاحق.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى