صفحات المستقبل

رحلة أخيل السوريّ الهارب صوب أوروبا/ رنا زيد

لست أخيل، أنا (غ. ط) وعلى النقيض منه، فكعبه أصبح قوتي، ذلك أنني نجوت من موتي، ونجوت مني؛ فوضعت الهوية الشخصية الإيطالية التي أعطاني إياها المُهرِّب، في المكان الضيّق بين كعبي وحذائي، كنت أريد لصورتي التي أُضيفت على الهوية أن تبدو قديمةً ومتماهيةً مع الحروف الإيطالية، مع جنسانيتها الإنسانية، ورحت أمشي وأتنقّل، أردت أن أقطع النمسا إلى ألمانيا، وأنا أعرف أن الحاجز الألماني، شديد عتيد، فإنِ اكتشفوا أنني سوريّ، أو بالأحرى أنني لست إيطالياً، فستتمّ إعادتي من حيث أتيت.

لعبت «البوكر فيس» مع الجندي الألماني، استخدمت كلمتين إيطاليتين للنجاة، نظرة عيني حتى اليوم مُعلّقة بتسامح وجهه الحضاريّ، يفسح لي المجال للمُضِيّ. أيُّ احتكاكٍ هذا الذي يُشكِّل هويتي الجديدة، وأنا أهرب من تركيا، ثم (اليونان، ومقدونيا، وصربيا، وهنغاريا، والنمسا)، متجهاً إلى بلد أوروبيّ اخترته، هو هولندا، قاطعاً بالباص مسافات مثيرة، من ألمانيا دونما توقف، تاركاً ورائي موسيقى فيينا؛ لا أحد يعلم أن هولندا تملك الاقتصاد الأقوى، هناك سأحظى بشروط أفضل كلاجئ، جرّب كل شيء: «التظاهر، الوصول إلى الشمال السوري المشمس، الهرب من الاعتقال، كره داعش»، كل شيء يمكن سوريّاً أن يخوضه، في الحرب العالمية الثالثة ضد السوريين. أنا من دون حصان ركبت الريح، وصعدت الجبل الأسود.

في أمستردام، خط البحر الواسع أمامي، يغريني بالمشي فوق الماء برَوِيّة، وتدخين سيجارة عند الخط الذي يصل البحر بالسماء. هذا البحر خُلِقَ للتهريب، على السوري أن يحضر إلى هنا، ويركض فوق بحر الشمال، الذي يشبه رقعة واحدة من البلاط الأزرق السرمديّ.

أنا الآن، في كامب، شروطه العامة ممتازة، لكن السوريالية السورية وحدها تهز صمت المكان، والريح تتوقف عن هديرها عندما تصل إلى باب الكرفانات، لأنها تنصت إلى حوار مهزوم. يقول لاجئ لآخر: اذهب إلى الكرفانة المجاورة، وتعرّف إلى قرينك الحمويّ الكهل، ابنه شهيد، يقول الشابّ: «وماذا في ذلك؟ أخي شهيد، ضجرت من الحمويين وأحاديثهم»، يمرّ الكهل الحمويّ في ممرّ العلب المسرحية الأفقية السوداء الجرداء، كدولاب أعلاه هو أسفله، مع دورانه، إنه ناعورة منتفضة ومتحركة ببطء، تاركة وراءها بقعاً لزجة، ليست بالمياه، بقعاً حمراء، تحوم حولها العناكب، «إنه أبي، الذي أضعته في اليونان»، يصرخ الشاب، من الكرفانة الرقم (3).

في 29 تشرين الأول (أكتوبر)، يوم ميلادي، وعندما أمسكونا ونحن نحاول الهرب ما بين الغابات التركية براً وصولاً إلى اليونان، أعادنا الأتراك، وفي مكان الاحتجاز، حظيت بقطعة خبز إضافية، لأن ميلادي يصادف يوم الاستقلال التركي.

على بر الأرض، لا شيء يخيفني، أركض كي أبتعد عن صوت الرصاص والقذائف. على البر، أنا موت الموت.

في الغابة الباردة، ونحن ننتظر الصباح لنعبر نهر إيفروس، بدأ الأكل والماء ينفدان منا. الشرطة اليونانية بدورياتها الكثيفة، تجعل أنفاسنا، كما لو أنها تصدر عن بطون غيلان، أنفاس مكشوفة ودالة على مكاننا، ممنوع التنفس، ممنوع استنشاق الهواء وزفيره، أنت ميت، في أفضل أحوالك، مع مُهرِّب مُتمرِّس وطاغية. لا أعلم لِماذا دهمتني الرغبة في ممارسة الجنس؟ نمت وصعدت إلى الفضاء، في الحلم، ثم هويت، وفي يدي تفاحة خضراء، تخرج منها دودة رهيبة.

تجمّدنا من البرد. مختار الرجل الحمصي، ينام فوق حقيبته حالماً بمتجر السكاكر، الذي كان له وقُصِف، يريد أن يتزوج امرأة سويدية، لكنْ إذا كان الجميع يحلمون بالسويد كبلد مثاليّ فما العمل؟ وفي النهاية، كل تلك الأمور لا تعني شيئاً للمهرب شيركو ذي الأربعة والعشرين عاماً كردياً، فهو منذ ثلاث سنوات يُهرّب السوريين، على رغم أنه لا يمتلك هوية شخصية، سألته: هل تريد الهرب معي؟

نحن الهاربين، نُصاب بالعمى، ونلحق المهرب كقطيع فجِّ الخطوات، فالأمس والخلف، أشياء لا تُذكَر، وما من رجعة وأنت في الطريق. لكنّ ابن عربي قال: من سار استنار، ولم يقل: السوريّ إذا سار قتل الدرب وراءه.

أجلسونا في البيت، كنا ستة أفغانيين وحفنة من السوريين، هذا ليس بيتاً، لكننا وصلنا في العتمة إلى مزبلة، في منتصف الجرد، المكان بلا سقف، دعست أقدامنا على القذارة، يشبه هذا البيت في هذه الغابة بيوت سورية المنكوبة. فكّرت في الشيفرة التي منحني إيّاها الوسيط الثالث (بيني وبين المهرب الضخم)، إنه الرقم «733»، هل الشهيد الثالث والثلاثون بعد السبعمئة، يراقبني وأنا أهرب؟ لِمَ إذاً أحسستُ بوخز في رأسي؟ كأنما ضميري بعوضة تمتص دماغي الغض، أنا أنزف، ولكنْ لا بد من أن أسرع في نفْخ القارب المطاطيّ «البلم»، وأتناسى الوجه البليد للشاب، الذي انتبهت اليه قبل قليل، إنه صديقي في الصف التاسع، في المدرسة الإعدادية الحكومية في دمشق، مدرسة ذات لون بنيّ فاتح، أقرب إلى لون التراب. أنا هيكل عظميّ، في أرض جائعة.

كونترول، أو الأبراج العسكرية، التي تضبط حدود بلاد العالم، هي دبابيس جدتي في كرة الصوف، أنا أريد أن أحصل عليها كلها، سأجمعها في جيبي الصغير، وأذهب إلى أقرب مصنع للسلاح، سأصنع مسدساً حديدياً، وأقتل نفسي في أول حركة تدل على النضج، هكذا كل المراهقين في سورية، يحملون ذاكرة قاتلة، فالفقر، يشبه خمسَ الليراتِ المستديرة، التي كنت لا أملكها، فأعود مشياً من الجامعة إلى البيت، إلى القبر.

بعد البرّ هناك بحر، ونبات القريص ينمو في أيّ بحر يجتازه سوريٌّ مثلي بكعبه المعطوب.

أخفقتْ رحلةُ التهريب عبر البر، عاودتُ الهرب من صومعة الحرب، عبر البحر. أنا في إزمير الآن، المكان الامثل للتهريب عبر البحر. في أزمير، المهرب متأكد من أنه لا يُخفِق، وأنا مصاب بإخفاق عاطفي، تسبّب في أن أقرر العبور إلى أوروبا، فحبيبتي السورية اعتقدت أنني أطمع في جنسيتها الأوروبية (…).

صاح المُهرِّب: اركضوا، تجمّد الجميع. علينا أن نترك الباص، ونركض صوب المركب، وحدي ركضت، وتذكّرت نفسي راكضاً بكاميرتي تحت مرأى القنّاص، (يرتفع الأدرينالين فوق قارب تافه)؛ الطائرة تقصف، يُفتِّت «السكود» الأبنية في حريتان، في حلب، وفي هذا الوضع، أركض أنا وحيداً، لأنني مُصوِّر، إلى مكان فجوة «السكود» الزمنية، التي تنقل الشهداء إلى مكان أفضل من حريتان. ينقل الناس الجثث، لكنّ القنابل العنقودية أردفت «السكود»؛ هنا، الهاربون يقولون ورائي: هذا القارب لا ينفع! وأنا وحدي أركض لأصعد القارب، كما لأصور القصف المتتالي، اجتزت مياه البحر من دون إرادة مني، ابتللتُ حتى صدري، وكنت أول من صعد القارب.

هو شيء فيه خلاصة الموت، قارب صيد خشبيّ، له مُحرِّك صغير، وفي القارب مكان للشحن، امتلأ بنا، نحن ستة عشر راكباً، كادوا يموتون من أجل صندوق من الدولارات، يحلم به المهرب. على البرّ، في الطرف الآخر، وصلنا خمسة عشر رجلاً، واحد نقص، ضاع في البحر، الأسماك عشقته، فهرب معها إلى عالم الضوء.

الرحلة التي تُوصِلُنا إلى مدينة في اليونان، والتي يجب ألاّ تتجاوز مدتها اربعين دقيقة، استمرت ثلاث ساعات. جلست كما كنت أجلس في ميكرو باصات سورية، بالمقلوب، معاكساً قدري السوريّ، محدقاً بالقبطان التركيّ (القبضاي)، وجهه بلا ملامح، أبحر القارب. تذكّرتُ كُلَّ شيء، أهلي، أبي الذي غضب مني قليلاً في لقائنا الأخير، تذكرتك. ومع اقترابنا من المياه الإقليمية، أصبح الموج كما في مسلسل كرتون «جزيرة الكنز»، كاد يشقّ القارب إلى نصفين، أين هو البحّار، مع الساق الخشب؟ ولماذا لا أطفالَ هُنا في هذا القارب، يُجسِّدُون شخصية جيم؟ أين قِطّ جيم؟ القطط تقنص من أعينها في سورية، لأنها لا تأكل الفئران والظل.

(مقاطع من نص سردي طويل)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى