صفحات الثقافة

أوراق ليمون في إبريق شاي/ أمجد ناصر

 

لا تعيش شجرة الليمون في كلِّ أرض، وفي أيِّ مناخ. لعل أفضل أرضٍ ومناخ لها، كي تشبّ عن الأرض، ويتضوَّع زهرها في الجوِّ، وتهبَّ عليك رائحة أوراقها من بعيد، هو في بلادنا. ولكن، مع ذلك مررت، قبل أيام، بحديقة بيت تتدلى خارج سياجه بضعة أغصان من شجرة ليمون “مغتربة” (غربة نخلة عبد الرحمن الداخل)، ما جعلني أمدّ يدي.. وأقطف ورقةً خضراءَ، فاتحة الخضرة. فركْتها بيدي، بلطفٍ، ففاحت رائحة، أعادت إلي هذه الذكرى البعيدة:

أتذكر أنَّ أبي وأمي قاما بـ”رحلة استجمام” إلى “الغور”. كانت أمي تعاني، حتى نهاية حياتها، من ألمٍ في المفاصل، فقيل لها إنَّ الاستحمام بمياه “الحمة” المعدنية علاج ناجع لنوبات الألم التي لم تكن تكفُّ عن مهاجمتها. لم تطل رحلة أبي وأمي العلاجية، الاستجمامية، في شهر خريفي أكثر من ثلاثة أيام، انتقلنا خلالها للمبيت عند عمتي، جارتنا الحيط بالحيط، في حيِّ جناعة بمدينة الزرقاء الأردنية.

عادت أمي من “رحلة” الغور أكثر راحة وإشراقاً، ومعها بضع أوراق ليمونٍ غضةٍ فاتحة الخضرة، وأربع، خمس، قصصٍ، لا تخلو من عنصريةٍ متداولةٍ، غير مقصودة على الأغلب، عن “الغوارنة” المولعين بالغناء، المستعدين أن يمشوا يوماً وليلةً للعزف على “المجوز”، آلتهم الموسيقية المفضَّلة، وإطلاق حناجرهم الظامئة إلى الغناء، في أعراسٍ قد لا يعرفون أصحابها.

حبُّ الغناء و”التشييش” (ليس تدخين الشيشة، بل الطرب) خصلة ينفرد بها هؤلاء الذين استوطنوا أخفض بقعة تحت سطح البحر في العالم، عن سائر مواطنيهم الأردنيين الذين يولدون، بصرف النظر عن مناطقهم ومنابتهم، عاقدي الحواجب، مزمومي الأفواه.

الرائحة والطعم اللذان فاحا من إبريق شاي رمت فيه أمي ورقتين، أو ثلاث وريقات ليمون احتفظا بطزاجتهما، في ذاكرتي، حتى الآن، وصرتُ حيثما أجد شجرة ليمون، في أي مكان في العالم، أقطف منها بضع أوراق غضَّة، لم يكتمل نموها بعد، وأفركها بلينٍ لأستخرج منها تلك الرائحة التي ملأت خياشيمي، وتغلغلت في كياني، بوصفها من أكثر الروائح العطرية خفَّة وإنعاشاً. ومن بين عشرة آلاف رائحة تستطيع حاسّة الشمّ عند الإنسان استقبالها، والتمييز بينها، تعيدني رائحة أوراق الليمون، أنَّى كنت وأيّ عمر بلغت، إلى برندة بيتنا الإسمنتية في “جناعة”، ووجه أمي الساطع بإشراقةٍ نادرةٍ، وسنّها الذهبية التي تلمع وهي تقلّد، ضاحكةً، طريقة أهل “الغور” في لفظ بعض المفردات، ويدها النحيلة التي ترمي بضع أوراق من الليمون في إبريق شايٍ، تلتفُّ حوله عائلة صغيرة ألقت القبض عليها كاميرا غامضة، متلبسة بلحظة سعادة لا تتكرر كثيراً.

أتذكر والدي، منفرد الأسارير، وهو يسأل أمي أن تروي قصة الرجل “الغوراني” الذي أراد السفر إلى عمان. ترددت أمي قليلا، كمن يدّعي النسيان، ثم قالت: أيّ قصة؟ فقال لها والدي: قصة الباص!

لم يكن في القصة التي روتها أمي قصة ولا حكاية، كلّ ما في الأمر هو المفردات التي يستخدمها أبناء “الغور”، والتباس بعض معانيها، والتطقيس عليها. ليست القصة التي روتها أمي عن الرجل “الغوراني”، الذي كان ينتظر الباص الذاهب إلى عمان، هي التي جعلتنا نفطس من الضحك، وإنما طريقتها في تقليد لهجته.

قال الرجل “الغوراني” لزوجته عندما رأى الباص يقبل من بعيد: هي يا حرمة جيبيلي الباص.

فردت عليه زوجته التي تقف أمام المنزل: وك يا أبو فلان هظاك الباص جاي! فقال الرجل، متوتراً، وهو يرى الباص يقترب: وك يا حرمة مش هاظا الباص. الباص البي وجهي!

هاء هاء هاء هاء. نضحك كلنا. وتضحك أمي. ويضحك أبي. ويتضح لنا أن الأمر يتعلق بجواز السفر. فهو لا يريد، طبعا، الباص – الحافلة، ولكن الباص (أي الباسبورت) الذي يحمل صورته!

***

لا أدري ما الذي دفع أمي، في ما بعد، لغرس شجيرة ليمون أمام برندة بيتنا القديم في “المفرق”. فالأرجح أنها لم تكن ترجو الحصول على ليمون فعلي من شجرة ليمون مزروعة في أرض صحراوية، تحرسها أعمدة غبار لولبية عملاقة، لصدِّ أية محاولة لتدجينها.

أهي محاولة منها لإطالة أمد تلك الرحلة القصيرة مع أبي، وحيدةً بلا أولاد أو أقارب، المنتزعة من عمرٍ مدجَّج بالفقر والكدح ونكران الذات؟

لا أجد تفسيراً أفضل لوجود تلك الشجيرة التي كبرت وتطاولت، أمام مدخل بيتنا القديم الذي يسكنه، الآن، أخي خالد وزوجته رندا وولداه المهجنان، كمسمار الخيل، من أصول بدوية وفلسطينية. ولا أظن أنَّ أحداً غيري من أفراد عائلتي يقطف، كلما مرَّ بهذه الشجرة المكافحة في غير محيطها المعتاد، أوراقاً غضَّة، ويفركها أمام أنفه ويستفُّ، على مهلٍ، رائحتها المنعشة التي يتطاير منها زيت خفيف، كأنها مادة منبّهة محظورة.

ماتت أمي وماتت معها نباتات زرعتها، هي التي عُرِفَت باخضرار اليد، وحدها شجرة الليمون ظلت تكافح، بصلابة، قسوة الطبيعة، لتذكر بكر العائلة، المغترب الأبدي، كلما عاد إلى بلاده، برحلة قصيرة قام بها أبواه إلى “الغور” وبجلسة سعيدةٍ، نادرةٍ، على برندة بيت في الزرقاء لم نعد إليه قط.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى