مقالات تناولت تطورات الأحداث في ليبيا
السياسة العسكرية في ليبيا: تقدم نحو الماضي؟/ يزيد صايغ
شُبّهت الحملة العسكرية التي شنّها رئيس هيئة الأركان السابق في ليبيا اللواء خليفة حفتر في 16 أيار (مايو) الجاري للإطاحة بالقوى الإسلامية التي تهيمن على المؤتمر الوطني العام بعزل قائد القوات المسلحة وزير الدفاع المصري المشير عبدالفتاح السيسي الرئيس محمد مرسي وجماعة «الإخوان المسلمين» الحاكمة في مصر في تموز (يوليو) 2013. وعلى المنوال نفسه اتَّهم حفتر حزب «العدالة والبناء» التابع لجماعة «الإخوان» الليبية وكتلة «الوفاء للشهداء» البرلمانية الإسلامية الأكثر تحفّظاً بـ «تعزيز الإرهاب»، ودعا السلطة القضائية لتشكيل حكومة طوارئ والإشراف على انتخابات برلمانية جديدة. كما ردّد رئيس الشرطة العسكرية العقيد مختار فرنانة، أحد الحلفاء الرئيسيين لحفتر، ما قاله السيسي في مصر حيث أكّد أن تحركهم جاء استجابة لـ «اختيار الشعب « وليس انقلاباً.
غير أن أوجه التشابه هذه تبدو سطحية وتنتهي عند هذا الحدّ. فالسياسة العسكرية التي تزداد تعقيداً، وتتمحور حول الصراع الذي يرمي إلى تحديد طبيعة القوات المسلحة الممزّقة والسيطرة عليها، هي التي أوصلت العملية الانتقالية في ليبيا إلى نقطة الانهيار.
تستند حركة حفتر إلى مشاعر الضغينة وشبكات الضباط المعهودة، ولا تغيّر بشكل أساسي الأنماط والعلاقات العسكرية السياسية التي أعاقت العملية الانتقالية حتى الآن. في المدى القريب، تزيد كثيراً من مخاطر اندلاع حرب أهلية. ويمكن لها في المدى الأبعد، في حالة مثالية، أن ترغم الأحزاب السياسية والمليشيات الثورية المتناحرة لتنطلق باتجاه الاندماج في جيش وطني موحد. غير أن الفشل، الذي يبقى أكثر ترجيحاً، من شأنه أن يعيد ليبيا إلى توترات وخصومات عقدي الخمسينات والستينات التي انتهت إلى الانقلاب الذي قام به القذافي.
اطلق سقوط القذافي العنان لديناميات جديدة تطوّرت باستمرار منذ ذلك الحين. وقد تشكّلت الانقسامات والتحالفات بين مختلف الجهات الفاعلة العسكرية ونظيراتها المدنية في هياكل الحكم الانتقالي والأحزاب السياسية التي تشكّلت حديثاً على أسس إقليمية/جهوية وقبلية ومؤسّسية مألوفة، ولكنها تتجاوزها الآن أيضاً بطرق جديدة.
ويكشف تحرك ضباط عهد القذافي ذلك بوضوح. فحفتر والعديد من كبار مؤيديه هم من بنغازي أو من مدن شرقية أخرى، ما يفسر دعم القوات الخاصة وسلاح الجو العلني له، بينما يزعم فرنانة تمثيل «المجلس العسكري للمنطقة الغربية» المستند إلى ميليشيات نفوسة-زنتان القوية.
أما خصوم حفتر فيتّهمونه ورفاقَه بالسعي لاستعادة النظام القديم، ولا ريب أن تحالفه حظي بدعم متزايد في أوساط الجنود وضباط الصف من عهد القذافي. غير أن مشاعر الاستياء إزاء التهميش الكامل تتجاوز المعسكرين الموالي والمناهض للقذافي، لأنهما مستهدفان بقانون العزل السياسي الذي صدر في تشرين الثاني (نوفمبر) 2013، والذي يحظر على أعضاء النظام السابق تولّي الوظائف العامة لمدة عشر سنوات. بالإضافة إلى ذلك لدى المعسكرين قضية مشتركة تتمثّل في رغبتهما بوضع حدّ لعمليات الاغتيال المتواصلة لكبار ضباط الجيش والمخابرات، ومسؤولين حكوميين كبار آخرين.
ثمّة أيضاً معسكر ثانٍ يستند إلى مؤسّسات الدولة، لكنه اعتمد هياكل أمنية «هجينة» منذ عام 2011. من بين رموزه اللواء يوسف منقوش، الذي شغل منصب نائب وزير الدفاع الموقّت إلى أن تم تعيينه رئيساً للأركان في كانون الثاني (يناير) 2012، وخليفته اللواء عبدالسلام جادالله العبيدي، الذي تولّى المنصب في آب (أغسطس) 2013. وإذ افتقرا إلى قاعدة مؤسسية قوية داخل الجيش، فقد اضطرا إلى التعامل مع قوات درع ليبيا، وهي الإطار الجديد الذي دفعت به مليشيات مصراته القوية في غرب ليبيا لدمج العديد من المليشيات الثورية التي ظهرت خلال وبعد انتفاضة عام 2011 ضد القذافي. وقد أثار هذا، أيضاً، استياءً عميقاً لدى الكثيرين في القوات المسلحة النظامية.
يبدو واضحاً أن السياسة العسكرية الناشئة تتمحور جزئياً حول المناصب الرسمية مثل منصب رئيس الأركان، الذي يعمل باعتباره إحدى الواجهات العديدة بين مختلف الجماعات المسلحة على الأرض ووزارة الدفاع والمؤتمر الوطني العام. وتنطبق الديناميكية نفسها أيضاً على المعسكر الثالث التي تشكّل منذ عام 2011، والذي يتمحور من الناحية المؤسّسية حول وزارة الدفاع ويضمّ أيضاً الميليشيات الثورية. فقد ألغى القذافي الوزارة في عام 1991، ولكن منذ إحيائها في عام 2011 سيطر عليها أشخاص من زنتان ومليشيات مقرّبة معادية للإسلاميين، فيما تمسّك كل من صادق مبروك وخالد الشريف، وكلاهما عضو قيادي سابق في «الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة» التي تأسّست في عام 1995، بمنصب وكيل الوزارة.
استند مبروك والشريف إلى هذا الموقع لجذب الميليشيات الثورية المتحالفة معهما لتشكيل الوحدات الرسمية الجديدة والإشراف عليها، مثل حرس الحدود والحرس الوطني. كما أن رئيس المؤتمر الوطني العام نوري أبو سهمين متحالف أيضاً مع هذا المعسكر، حيث أيّد في تموز (يوليو) 2013 قيام «غرفة عمليات ثوار ليبيا» التي تضم ميليشيات إسلامية وأخرى متحالفة معها من مدينة مصراتة لمواجهة الكتل السياسية المتنافسة في طرابلس. وكما هو متوقع، فقد أمر أبو سهمين باعتقال حفتر بعد أيام على بدء حركته هذا الشهر، متجاهلاً مبادرة السلام التي طرحتها حكومة الثنّي في 19 أيار.
لا يبدو أن أياً من هذه التحالفات والأنماط ثابت. على سبيل المثال، أبو سهمين يتحدّر من الأقلية الأمازيغية في ليبيا، في حين أدرج زميله الأمازيغي أسامة الجويلي عدة كتائب ثورية من الزنتان في مرتبات وزارة الدفاع خلال فترة تولّيه منصب الوزير في 2011-2012. وبالمثل، بينما تم تشكيل حرس المنشآت النفطية من ثوار سابقين يخضعون لقيادة وزارة الدفاع، تهيمن ميليشيات الزنتان على فروعه الغربية والجنوبية الغربية، وفي أواخر عام 2013 انضمّ فرعه الشرقي إلى تمرّد قاده الفيديراليون الذين ساندوا حفتر هذا الشهر.
وكما حصل في عام 2011، ربما تنقسم القوات المسلحة الليبية وتتمزّق مرة أخرى، ما يجعل قدرتها على البتّ في ميزان السلطة السياسية موضع شك إلى حد بعيد. غير أن ضعف وتفكّك هيئات الإدارة المدنية في البلاد يشير إلى أن السياسة العسكرية هي التي ستوجّه حسم المناقشات الخلافية حول توزيع السلطة والثروة، على نحو يشبه كثيراً ما حدث في الانتقال من عهد الملكية إلى الجمهورية في عام 1969. لا تزال هذه المناقشات في حالة تقلّب مستمرّ، وزادها تعقيداً انخراط المليشيات الثورية القوية في المعادلة.
* باحث أول، مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت.
الحياة
ربيع الجنرالات/ غسان شربل
كانت الميادين تعج بالمساكين. أقصد بالشبان الأبرياء الحالمين. عثروا على نافذة وتدفقوا منها. قتلوا الخوف الذي بدد اعمار اهاليهم تحت وطأة الفقر والقهر. تعبوا من الخبز الصعب والمياه الملوثة. من الإقامة في بيوت تشبه المقابر. ومن تسوّل الوظائف على أبواب الفاسدين. من أسنان ضابط المخابرات وشاربيه. ومن شراهة بارونات الأمن والحزب. ومن صورة «القائد التاريخي» تهاجمهم حتى في مناماتهم. من الرجل الذي يتكرر ويتكرر. من أوامره ونصائحه. من الذل الغامر. كأنه يستضيفهم في مزرعته ومن حقه ان يطردهم من المكان والزمان معاً. القائد الذي ينام في القصر وموسوعة «غينيس» معاً.
كانت الميادين تعج بالمساكين. انتفضوا ضد العفونة والموت. رفعوا شارة النصر وارتكبوا هتاف «الشعب يريد». تهوروا في احلامهم. بينهم من تحدث عن الديموقراطية. ودولة المؤسسات. وحكم القانون. وتداول السلطة. وحقوق الإنسان. والشفافية. وبينهم من تحدث عن مغادرة الكهوف. والمدارس التي لا تنجب غير جحافل المكفوفين وأنصاف الأميين. والجامعات التي لا ترتكب إلا المذعورين من العصر والراغبين في الانفجار به.
كانت الميادين تعج بالمساكين. وزعموا ان جدار الظلم والظلام قد تداعى. وأن سقوطه أشد دوياً من سقوط جدار برلين. وأن الأمة ستفر من العتمة الطويلة. وأن الشمس ستجتاح السراديب. وأن الذليل المزمن سيخرج الى الضوء. أسوة بأي مواطن آخر في القرية الكونية.
سموه «الربيع» وصدقنا. وقلنا تخالطه بعض الالآم. على غرار ما عاشته اوروبا في مراحل سابقة واستنتجت منه قيم الكرامة والحرية واحترام الفرد والحقوق والتعايش والمسؤولية والمحاسبة والتنمية. ظهرت تربتنا غير جاهزة واستسلمت سريعاً للقوى المتربصة. تلقفت القوى الكامنة الفرصة وتقدمت. فرضت لونها على الساحات والشعارات. حرفت مسار النهر. وأتاحت لها قدراتها المالية والتنظيمية أن تسرق الأحلام وحتى فرصة صناديق الاقتراع. بدت اللعبة قاتلة. نهرب من رجل مستبد ونقع في قبضة فكرة مستبدة. والفكرة أخطر من الرجل لأنها تبني مؤسسات الظلام وترسخها.
كان اسمه «الربيع» ولكن من قتل «الربيع»؟
لنترك جانباً التجربة التونسية المختلفة على الأقل حتى الآن. أفادت من خصوصية بفعل ارث عقود ماضية ومستوى التعليم والانفتاح على لغات أخرى وتمسك المرأة بمكاسبها وحقوقها. أي قراءة هادئة للمسارح الأخرى تظهر ان المتشددين قتلوا «الربيع» خلال محاولتهم الاستيلاء عليه.
يمكن هنا الحديث عن تطورين قاتلين: الأول تجربة «الإخوان» في مصر والثاني مسارعة «القاعدة» والمقاتلين الجوالين الى اقتحام مسارح «الربيع» والتحصن في الدول التي انهارت أنظمتها او تصدّعت.
لا مبالغة في القول إن التجربة الكبرى كانت في مصر وإن المعركة كانت وتبقى فيها. لا أعرف كيف سيستقبل محمد بديع وخيرت الشاطر ومحمد مرسي نتائج الانتخابات الرئاسية؟ وكيف سيقرأون الأرقام التي يُرجح أن تعطي المشير عبد الفتاح السيسي شرعية انتخابية تضاف الى الشرعية الشعبية التي حازها حين تدفق ملايين المصريين في حزيران (يونيو) الماضي ضد حكم مرسي وبرنامج «الإخوان»؟. كنت في القاهرة في تلك الأيام وشممت رائحة الخوف العميق التي سبقت «الثورة الثانية» أو «الموجة الثورية الجديدة». وأنا هنا أستعير التسميات.
كان من المستحيل ان يفعل السيسي ما فعله في تلك الأيام لو لم يسبقه الناس الى الشارع. فزمن الانقلابات القديمة انقضى ثم أن أميركا كانت تراهن على أن يؤدي وجود الإسلام السياسي المعتدل في الحكم الى احتواء ظاهرة «القاعدة» وأخواتها. لا يمكن اتهام الخارج بالوقوف وراء ما حدث. سبب الموجة خوف قطاع واسع من المصريين على هويتهم وتماسك دولتهم ومجتمعهم واستقرارهم وشعورهم بأن الانتظار يعني المزيد من الانحدار في اتجاه الانتحار. وما كان الجيش ليجرؤ على ازاحة رئيس منتخب لولا شعوره انه يترجم بتحركه إرادة أكثرية المواطنين.
أطل المتشددون في ساحات «الربيع العربي» ودمغوه بلونهم. وضاعف ظهور «القاعدة» والمقاتلين الجوالين من الخوف. وقعت المنطقة في «ربيع المتشددين». برعت الأنظمة في توظيف هذه المخاوف. بدت الجيوش كأنها الملاذ الوحيد للقوى المذعورة من «ربيع المتشددين». استعادت الجيوش فرصة كانت اعتقدت انها خسرتها تماماً. شعر العربي العادي أن «ربيع الميادين والمساكين» مات. وأن عليه أن يختار بين «ربيع المتشددين» و»ربيع الجنرالات» ولكل منهما ثمن لا بد من دفعه. في هذا السياق يمكن فهم ما تعيشه ليبيا حالياً ومغزى النداءات التي يطلقها اللواء المتقاعد خليفة حفتر. النظام اليمني يتكئ اليوم على جنرالاته. النظام السوري يتكئ على جنرالاته وجنرالات حلفائه. ساهمت أخطاء «الإخوان» وارتكابات «القاعدة» في إعادة الأولوية الى ملف الأمن والاستقرار ومهّدت الطريق لـ «ربيع الجنرالات». لم تعد سراً هوية من قتل «الربيع».
الحياة
“إخوان” ليبيا يتحسسون رقابهم… فهل ينجح الاستنساخ؟/ جورج سمعان
نجح اللواء المتقاعد خليفة حفتر هذه المرة. نجح في استنهاض المؤسسة العسكرية التي عانت وحداتها التهميش والإهمال والترهيب أحياناً في عهد معمر القذافي. ولم يكن حالها أفضل بعد «الثورة على الجماهيرية». تعرض ضباطها وعناصرها للمطاردة والترهيب والاغتيالات. لم يلق اللواء الذي أمضى حوالى ثلاثة عقود في منفاه الأميركي، التأييد للحؤول دون التمديد للمؤتمر الوطني (البرلمان) بعد انتهاء ولايته في السابع من شباط (فبراير) الماضي. «انقلابه التلفزيوني» منتصف ذلك الشهر لم يترجم عسكرياً على الأرض، بخلاف التأييد الذي تحصده هذه الأيام «حملة الكرامة» في معظم المدن الليبية، وفي أوساط قبائل وازنة وقوى سياسية وطنية وليبرالية همشتها الميليشيات المسلحة الإسلامية المتطرفة والأحزاب الإسلامية، فضلاً عن أكثرية الفرق والقوى العسكرية المختلفة التي كانت تشكل جيشاً يربو على مئة ألف ضابط وعنصر، لم تلق يوماً الاهتمام الذي كانت تلقاه فرق أنشأها القذافي على قياس أفراد عائلته وأقربائه ليضمن حماية نظامه.
نجح اللواء حفتر في إعادة خلط الأوراق والمواقف السياسية في ليبيا بعدما بدا في الشهور الأخيرة أن «حزب العدالة والبناء» يكاد يستكمل إمساكه بالمفاصل الأساسية للمرحلة الانتقالية. وهو استعجل نهج «التمكين» على غرار ما فعله نظيره المصري الذي أسقطته «الثورة الثانية» في 30 حزيران (يونيو) الماضي. ومعروف أن «إخوان» ليبيا لم يوفروا أكثرية في المؤتمر الوطني الموقت. حلّوا في المرتبة الثانية بعد «تحالف القوى الوطنية». لم يرتضوا هذا الموقع حتى دفعوا بإقرار قانون «العزل السياسي» بمساعدة الإسلاميين الآخرين والميليشيات. فتحقق لهم تهجير كثيرين من خصومهم، وتكبيل أيدي منفيين عائدين، وتحييد كثيرين خدموا في إدارات «الجماهيرية» مرغمين في ظل ديكتاتورية لم تترك خياراً لأحد. وفتحوا معارك لم تتوقف مع حكومة علي زيدان ونجحوا في نفيه بعد خطفه. وحتى خلفه في تصريف الأعمال عبدالله الثني لم يسلم من التهديد… حتى كان لهم رئيس الوزراء الجديد أحمد معيتيق الذي لم يفلح في لم شمل البرلمان لنيل الثقة، بعد اعتراض كثيرين أصلاً على طريقة اختياره وعدم شرعية هذا الاختيار في برلمان موقت مددوا لسلطتهم فيه منذ السابع من شباط الماضي.
وما سهل للقوى الإسلامية ضرب الحياة السياسية عدم وجود مؤسسة عسكرية متماسكة وقوية. فقد سعى «المجلس الوطني الانتقالي» في البداية، ثم المؤتمر الوطني إلى دمج التنظيمات المسلحة و «درع ليبيا» تحت عباءة الجيش الوطني. وحولته جيوشاً موازية تأكل من خزينة الدولة، لكنها لا تأتمر بأوامرها بل تتبع مباشرة أمراءها ومناطقها وقبائلها ومدنها. وأدخلت قوى أخرى مماثلة إلى «الغرفة الأمنية» لوزارة الداخلية. والأخطر من ذلك أن هذه الميليشيات تسلمت رسمياً أمن العاصمة والمدن والدساكر والمناطق تبعاً لانتسابها القبلي أو الجهوي أو الحزبي أو المديني. وهو ما أتاح فضاء مفتوحاً بلا رقيب للمتشددين من جماعات «القاعدة» و «الجبهة المقاتلة». وهكذا فيما كان «الإخوان» يتمكنون من البرلمان والحكومة على المستوى السياسي، راحت التنظيمات المسلحة تتقاسم السلطة على الأرض وعائدات النفط مباشرة، وتعيث تهديداً وترويعاً للمواطنين والبعثات الأجنبية، وتطارد ضباطاً وعناصر من الجيش والشرطة.
زاد في استعجال «إخوان» ليبيا التطورات التي شهدتها مصر بعد إسقاط الثورة الثانية حكم «إخوانهم» في مصر. لم يعتبروا ويتبصروا كما فعلت جارتهم «النهضة» التي ارتضت أن تكون شريكاً سياسياً مع القوى الأخرى في تونس لئلا تواجه مصيراً مماثلاً لجماعة محمد مرسي، فأثبتت حضورها لاعباً أساسياً لا يمكن تجاهله أو شطبه من اللعبة السياسية الجديدة. توكأت القوى الإسلامية الليبية على قوة الميليشيات لتحقق سريعاً ما لم تستطع تحقيقه في صندوق الاقتراع. ولا شك في أن حركة اللواء حفتر الذي تلقى دعم جميع المتضررين، مباشرة أو مداورة أو «حياداً»، من «تحالف القوى الوطنية» إلى وحدات الجيش الوطني، إلى الهيئة التأسيسية لصوغ الدستور المنتخبة حديثاً وما بقي من حكومة زيدان – الثني. لا يعني هذا بالتأكيد أن «حملة الكرامة» تعبير عن صراع أيديولوجي واضح وصريح كما هي الحال في تونس أو مصر تحديداً، أي صراعاً بين تيار ليبيرالي وآخر إسلامي «إخواني وسلفي». ثمة خصوصية للوضع الليبي. وراء تحرك تنظيمات عدة دوافع قبلية وجهوية ومدينية هي رواسب ما عانته هذه المكونات من حرمان وتسلط أيام حكم القذافي. لذا، لا يصح هنا إسقاط «نموذج السيسي»على ما يجري في ليبيا، وإن كان اللواء حفتر يستلهم تجربة جاره الكبير. وإن رفع بعض أنصاره شعار «حركة تمرد» ليبية. وقد لا يتنهي مآل الأحداث إلى ما انتهت إليه «الثورة الثانية» في مصر.
ونجح اللواء حفتر في إعادة ليبيا إلى صدارة المشهد الإقليمي والدولي، كما لو أنها عشية اندلاع ثورة ثانية، على غرار ما حصل في مصر. لذلك، لم تجد حركة «النهضة» التونسية وصفاً تطلقه على ما يجري في الدولة الجارة سوى القول إنه «استنساخ» لتجربة السيسي. ولم يختلف موقف الرئيس التونسي منصف المرزوقي عن موقف الحركة التي نادراً ما تصدر مواقف تتعلق بمواقف خارجية. في حين ذكر وزير خارجيته أن سياسة بلاده اعتادت ألا تتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، لكنها «تحترس من النتائج». ومعروف أن كلا البلدين الجارين لا يمكن أن يكون بمنأى عن التأثيرات المتبادلة سلباً أو إيجاباً. وهي قاعدة قديمة متجددة. فعندما كانت طرابلس تحت الحصار الدولي في تسعينات القرن الماضي شكلت تونس متنفساً لليبيين ومنتجاتهم. وفتحت «الجماهيرية» أبوابها للعمالة التونسية كما فتحتها أمام المصريين واستثماراتهم. وتشكل الحدود المفتوحة بين البلدين هاجساً يومياً لتونس التي فرت منها الجماعات التكفيرية بعد عمليات عنف وتفجيرات واغتيالات. واتخذت لها مواقع في الغرب والجنوب الليبيين حيث تتولى تدريب كثير من التونسيين والمغاربيين عموماً ومن دول الساحل، وإعدادهم للتوجه إلى القتال في سورية وأماكن أخرى. ولا يمكن تجاهل وجود أكثر من مليون و900 ألف ليبي في الأراضي التونسية فروا من الفوضى وأعمال الثأر…
ولم يكن موقف الجزائر أقل اهتماماً أو قلقاً. سحبت بعثتها الديبلوماسية من طرابلس، وأعلنت قيادتها العسكرية حال الاستنفار على الحدود مع ليبيا حيث نفذت طلعات جوية مع تونس على طول المثلث الحدودي. واستقبلت منتصف الأسبوع الماضي وزير الدفاع الفرنسي جان إيف لودريان للتنسيق في شأن الأوضاع في ليبيا وشمال مالي التي عاد الاضطراب إلى شمالها، والذي يهدد دول الساحل الأخرى من موريتانيا إلى النيجر. ولا تخفي فرنسا والدول الأوروبية التي هالها ما ترتكبه جماعة «بوكو حرام» في نيجيريا، أن تقع دول الشمال الأفريقي والساحل بين فكي كماشة: من الجنوب «بوكو حرام»، ومن الشمال تنظيم «المرابطون» أو «الموقعون بالدماء» و «حركة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا» و «أنصار الشريعة» وقوى أخرى متطرفة تنشط على الشريط الممتد من الجزائر وتونس وليبيا إلى مصر وسينائها، مروراً بشمال مالي والنيجر.
وعقدت اجتماعات أمنية وسياسية بين مسؤولين من مصر وتونس والجزائر تولت بموجبها الأخيرة قيادة عملية مراقبة ما يجري في ليبيا. وقد نقلت آلاف المقاتلين إلى الحدود لتكون جاهزة للتعامل مع أي طارئ. وكان المشير السيسي حذر من انهيار الدولة في ليبيا. وجه رسالة واضحة إلى الغرب الذي تدخل لإطاحة القذافي، وتوقف عند هذا الحد من دون مساعدة الحكم الانتقالي على إعادة بناء أجهزته العسكرية والأمنية.
ولعل موقف واشنطن هو الأكثر حراجة. تحولت الأوضاع في ليبيا قضية داخلية تضاف إلى قضايا الصراع السياسي بين إدراة الرئيس باراك أوباما وخصومها الجمهوريين الذين يطالبون بجلسة خاصة لإعادة البحث في ملابسات مقتل السفير الأميركي في بنغازي في أيلول (سبتمبر) 2012. ويمكن هذا النقاش أن يلحق ضرراً بوزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون التي تستعد لخوض السباق الرئاسي، إذ يتهمها بعض الجمهوريين بأنها أخفت الكثير من المعلومات عن هذا الحادث. لكن الموقف الأكثر دلالة على اهتمام واشنطن بما يجري في هذا البلد الأفريقي هو تحريك البنتاغون قوات من المارينز من قاعدتهم الإسبانية إلى صقلية لتكون على مرمى حجر من التراب الليبي تحسباً لأية تطورات قد تستدعي تدخلاً أو دعماً ما، خصوصاً لقوات اللواء حفتر. فمما لا شك فيه أن واشنطن مثلها مثل أوروبا بدأ يقلقها تحول ليبيا مرتعاً لقوى التطرف والجهاديين. وقد أعلنت السفيرة الأميركية في طرابلس ديبورا جونز ولم تخف مشاعرها عندما بررت للواء المتقاعد الذي «يقاتل مجموعات محظورة بالنسبة إلينا»، «وهو لم يعلن أنه يريد حكم البلاد، والليبيون يرحبون بما يقوم به، إلا أنهم لا يرديون ديكتاتوراً جديداً».
الحكومة الموقتة اقترحت تعليق عمل البرلمان الموقت الممد له بعدما كان اللواء حفتر دعا هيئة صوغ الدستور إلى تسلم صلاحياته حتى إجراء انتخابات برلمانية جديدة سريعاً. وعدت بعثة الأمم المتحدة إلى طرابلس مبادرة عبدالله الثني «جديرة بالنقاش». فهل يستمع «الإخوان» وشركاؤهم من أمراء الميليشيات والقبائل والعشائر والمدن إلى صوت العقل ويتجهوا نحو المصالحة؟ وهل تنجح مخاوف جيران ليبيا والمجتمع الدولي في توحيد الجهود لإنقاذ ليبيا من أهلها وإنقاذ المنطقة كلها من السقوط بأيدي جماعات الجهاد والتكفير؟ هل يمكن الليبيين أن يحذو حذو المصريين نحو ثورة ثانية بعدما بدأ «الإخوان» يتحسسون رقابهم؟ استنسخ القذافي «ثورة 23 يوليو» ويحاول حفتر استنساخ «ثورة 30 يونيو»! التاريخ يعيد نفسه…
الحياة