صفحات سوريةميشيل كيلو

ابتزاز رخيص/ ميشيل كيلو

 

 

ألقيت، قبل أيام، محاضرة في مدينة غازي عينتاب، حضرها نفر من السوريين هناك، تناولت فيها بعض مسائل الساعة وقضاياها.

لن أستعرض، هنا، ما قلته في المحاضرة، فهو موجود في ما أكتبه من مقالات أسبوعية، دأبت على نشرها، منذ قامت ثورة الحرية في سورية، لكنني سأتوقف عند نقطة مما قلته، فقد عرجت على أسباب ضعف الثورة وتراجعها، وذكرت منها الوضع التنظيمي للجيش الحر وفصائل المقاومة التي تضم كتائب وألوية، وصل عددها، قبل ستة أشهر، إلى 2160 فصيلاً، وعلقت على ذلك بلعن كل من يتمسك بهذا التمزق وهذه الفرقة، وقلت إنه لا يوجد أي سبب وطني، أو نضالي، أو ثوري، أو إنساني، يسوغ وجود هذا العدد الكبير من التنظيمات المقاتلة التي نشأت في ظروف الدفاع عن الشعب وحمايته، ولا يتفق تشتتها وتبعثرها مع مستلزمات الانتصار التي تتطلب وحدة القوى والفصائل، ولم يعد هناك من لا يطالب بها، ويلعن المتمسكين بتشتتها وفرقتها.

بعد المحاضرة، وقف شخص، قال لي مدير الجلسة هامساً: إنه يفتعل مشكلة في كل محاضرة، وإن أحداً لا يأخذ كلامه على محمل الجد، أو يزعل منه، علماً بأنه يشتم دوماً المحاضر وسامعيه، باعتبارهم علمانيين متآمرين على المجاهدين، ومعادين للإسلام. وبالفعل، اتهمني الرجل بخيانة المجاهدين، وقال إنني أستحق المحاكمة والقتل، لأنني معاد للإسلام، وأتنكر لمن أدين بوجودي لهم، المجاهدين الإسلاميين، وإن الثورة لا يجوز أن تتسع لأمثالي من الخونة المارقين. نهض بعض الشبان لاستنكار سلوكه، فرجوتهم أن يتركوه يكمل، كي أرد عليه، لكنه غادر القاعة، وهو يكيل لي الشتائم. وتالياً، أبلغني صديق أن حزبا اسمه، يا لسخرية الأقدار، “العدالة والتنمية” وزع بياناً، طالب فيه الجهاديين والجيش الحر باعتقالي، وإحالتي إلى المحاكم الشرعية، بتهمة شتم الجهاديين والإسلام، والدعاء عليهم في محاضرة عينتاب.

يا لعدالة حزب العدالة! لقد صدق ما سمعه من دون أن يتحقق منه، وبادر إلى المطالبة بمحاكمتي، من دون ان يسأل عن صحة ما أبلغه إياه رجل، هوايته شتم الآخرين وتخوينهم، وتجاهل حقي في التعبير عن آرائي بكل حرية، خصوصاً إن كنت أتحدث عن بشر ينضوون في تنظيمات مسلحة، من المشروع والمطلوب نقد تبعثرهم المؤذي وطنياً في معركةٍ، طرفها الآخر موحد القيادة والإرادة والسلطة، ويكسب الحرب ضدها.

قال مدير الندوة إن الرجل “مهزوز”، وأقول أنا إن الحزب نفسه “مهزوز”، وأرجح أن يكون حزب مجانين ومهووسين، يتسترون بالعدالة كذباً، ولا همّ لهم غير إصدار أحكام بالموت على من يخالفهم الموقف والخطاب، خصوصاً إن كان من العلمانيين.

أية بلاد ستكون سورية التي أمضينا عمرنا في النضال من أجلها، وضحى ملايين من مواطناتها ومواطنيها ثلاثة أعوام ونصف العام في سبيل حريتها، إذا ما تحكم بها، ذات مستقبل، أمثال هؤلاء المجانين؟ ربما يجد الحزب من يصدق أنني شتمت المجاهدين (تحدثت عن جميع حملة السلاح من دون تخصيص)، والإسلام، مع أنني لم أذكره بأية كلمة سلبية، انسجاماً مع اعتزازي الشديد بانتمائي إليه، واعتقادي بصحة ما قاله محمد عبده، بعد زيارة قادته إلى أميركا، وهو إنه يوجد عندنا إسلام ولا يوجد مسلمون، بينما يوجد هناك، في أميركا، مسلمون ولا يوجد إسلام.

المصيبة أننا صرنا إلى زمن يصدق كثيرون فيه مجانين، يرون في الثورة فرصة لتصفية الحسابات مع شعبهم، ولإقامة نظام أسدي بلا الأسد، يديره مجرمون ألفوا قتل الناس باسم ثورةٍ، كانت أول ضحاياهم، شاركوا النظام في وأدها، وأسهموا بنصيبٍ وافر في تصفية من دعوا لها، ونظموها وقادوها، سلمياً ومدنياً، طوال نيف ونصف عام، حتى أن قطاعا من الذين خرجوا على الأسد، وتخلوا عن كل شيء، من أجل الالتحاق بالثورة، وجد نفسه خارج أي دور، ملاحقاً ومتهماً بكل ما يخطر على البال من تخوين وتشكيك، بألسنة من طفوا على السطح من طفيلياتٍ وعوالق، خنقت قوى الحرية الحية، وقتلت أعداداً كبيرة منها، بعد أن اعتبرتها عدواً، لا بد من تصفيته باسم إسلامها الذي وظيفته الوحيدة خدمة النظام، وقتل الدين، بحجة حمايته ومحاربة العلمانية.

هل يمكن أن يكون هؤلاء وأمثالهم ثوريين؟ وهل ينتمي إلى غير عالم الإجرام ما يروجونه من دعوات لقتل غيرهم، في حلقات معتوهين وشذاذ آفاق وقتلة موصوفين وتجار حرب وسياسة يسمونها أحزاباً، يسوّقون منتسبيها كمجاهدين مزعومين، تمثل “داعش” نموذجهم الأكمل الذي طالما دافع هؤلاء عنه، ولم يخجلوا يوماً من المطالبة بقتل الناس وتصفيتهم باسم العدالة، ضاربين عرض الحائط بحقيقة أن لها معنى وحيداً هو احترام الإنسان وحريته وحقه في الاختلاف، وقبل هذا وذاك قدسية حياته؟

أي مستقبلٍ ينتظر سورية، إن كان أول أفّاق يستطيع ابتزاز من أمضوا أعمارهم في الدفاع عن الشعب وحقوقه وتهديدهم، بينما كان هو يلعق حذاء السلطة، ويحرضها ضد معارضيها، مثلما يحرض اليوم المسلحين ضد نقادهم؟

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى