الحنين إلى سايكس – بيكو/ رغيد الصلح
منذ أن خرجت الدولة العربية الحديثة الترابية إلى الحياة وهي تعاني من مشاكل وتحديات كثيرة. ولكن على تعدد هذه التحديات وقسوتها، فإنها لم تصل إلى الحد الذي بلغته خلال السنوات الأخيرة. ولقد تخلل هذه التحديات والمآسي تفاقم غير مسبوق في مستويات التعصب الفئوي، الديني والإثني والطبقي والجهوي والسياسي، يقابله ارتفاع مماثل في انتشار وسائل العنف ومظاهر التوحش في استخدامه على نحو قلّ نظيره في التاريخ العربي الحديث. وبجردة حساب للخسائر البشرية التي ألمّت بالمنطقة العربية منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى، فإن عدد ضحايا الحروب والنزاعات المسلحة وأعمال العنف السياسي والديني وصل إلى ما يقارب 26 مليوناً و500 ألف ضحية بين قتيل وجريح.
قد يقال هنا إن الحروب وشرورها لم تضرب الدول العربية الترابية كما فعلت في أوروبا حيث بلغ عدد ضحايا الحربين العالميتين الأولى والثانية وحدهما ما يفوق 85 مليون ضحية. هذا صحيح. ولكن، مع ذلك يبقى العدد كبيراً، بخاصة أنه تفاقم بصورة مريعة عبر السنوات. ففي الحرب الأهلية اللبنانية عام 1958 لم يتجاوز عدد الضحايا – على أكثر تعديل – الخمسة آلاف ضحية، بينما وصل هذا العدد خلال حرب السبعينات والثمانينات إلى ما يتجاوز المئة والخمسين ألفاً. وإذا استمرت المنازعات المسلحة على حالها الراهنة في المنطقة، فإن عدد الضحايا مرشح للمزيد من التفاقم في المستقبل المنظور.
مع نمو التحديات التي تواجه الدولة العربية الترابية، انتشرت ظاهرة الحنين إلى نظام سايكس – بيكو واسترجاع مزاياه وفوائده. وبعد مراجعة سريعة لأهداف سايكس – بيكو ومحفزاته وآثاره، اكتشف البعض أن حسناته أكبر بكثير من سيئاته، وأن العرب لو تمسكوا به لما شهدت المنطقة المآسي التي تعاني منها الآن. كذلك اكتشف المعنيون بهذا الأمر أن العائق الأساسي الذي حال دون الاستفادة من حسنات سايكس – بيكو، كان المشروع العربي. فهذا المشروع دعا إلى قيام دولة واحدة عربية على أنقاض نظام سايكس – بيكو، ما أدى إلى حرمان الدولة العربية الترابية من المشروعية والاستقرار والدعم الكافي حتى تتمكن من الاضطلاع بمهام الدولة الحديثة.
في معرض الترحم على سايكس – بيكو والتلفت إلى حسناته وفوائده، وجهت انتقادات كثيرة إلى أصحاب المشروع العربي، لأنهم اعتبروا أن القوى الكبرى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى هي التي تولت رسم الخريطة السياسية العربية بما حوته من دول متعددة وحدود برية ومياه إقليمية وجماعات بشرية. رد الناقدون على أصحاب المشروع بالقول، إن هذه القوى لم ترسم حدود البلدان العربية فحسب، وإنما تدخلت في كثير من مناطق العالم لكي ترسم الحدود الدولية فيها. كذلك قال ناقدو المشروع العربي وأصحابه إن مارك سايكس وجورج بيكو لم «يخترعا» الحدود العربية، بل عملا على رسمها بما يتوافق مع ظروف المنطقة وتنوعها وتعددية سكانها.
لم يخطئ المدافعون عن المعاهدة في وصفهم دورَ القوى الكبرى في رسم خرائط السياسة العالمية، فبالفعل قامت هذه الدول برسم الكثير من الخرائط في دول الجنوب. هذا ما دعا زعماء الدول الأفريقية وقادة حركات التحرر فيها إلى المطالبة بالحفاظ على الحدود التي رسمها الاستعمار خوفاً من انتشار الفوضى بعد تخليص القارة من الاحتلال الأجنبي. لكن هذه الدعوة لم تمنع القادة الأفارقة من العمل على إقامة نظام قاري أفريقي يعمق التعاون بين دولها ويتطور قدماً إلى الأمام. من ناحية أخرى لعبت بريطانيا دوراً رئيسياً في تحديد خريطة الهند ولكن بهدف توحيدها حتى تقف كحاجز أمام توسع المنافس الروسي في جنوب آسيا، وليس بهدف تجزئتها كما حدث في المنطقة العربية أو في القارة الأفريقية. تدخلت الدول الكبرى في رسم حدود مناطق كثيرة في العالم ولكن الحوافز لم تكن واحدة.
ولم يخطئ المدافعون عن المعاهدة عندما قالوا إن الديبلوماسيين البريطاني والفرنسي لم يخترعا الحدود العربية، بل سعيا إلى رسمها بما يتناسب مع اعتبارات تاريخية ومصلحية واستراتيجية. ولكن لمن تعود هذه الاعتبارات؟ لعله من المناسب هنا، وبغرض الإضاءة عليها، أن نرجع إلى مراسلات حصلت بين الأمير فيصل الهاشمي الذي تبوأ العرش العراقي في ما بعد، وبين مارك سايكس. تمحورت تلك المراسلات حول المعاهدة وحول وعد بلفور وموقف العرب منهما وقد جاء فيها ما يأتي:
«أعرف أن العرب يحتقرون اليهود ويكرهونهم ويدينون ما يفعلونه، ولكن العاطفة الجامحة هي مقبرة الإمارات والشعوب». ثم استطرد سايكس قائلاً: «هؤلاء الذين اضطهدوا اليهود وأدانوهم يستطيعون أن يحكوا لك حكايات كثيرة تؤكد هذه الحكمة. يحكون لك حكايات عن الإمبراطورية الإسبانية في ذروة مجدها، والإمبراطورية الروسية في أيامنا هذه، حيث تعرض اليهود للاضطهاد فكان نصيب مضطهديهم الخراب. قد تتساءل بينك وبين نفسك: ما هو هذا العرق المحتقر، الممقوت الذي لا يحارب ولا يملك البيت ولا الوطن؟ يا فيصل أستطيع أن أقرأ ما في قلبك وما يدور في ذهنك، ولديك بعض المستشارين الذين قد يهمسون في أذنك كلمات مشابهة. ولكن صدقني إن هذا الجنس، الضعيف والمحتقر، هو عالمي وبالغ القوة وما من أحد قادر على وضعه عند حده».
اعتقد سايكس أن شتم اليهود واستخدام لغة العنصريين والمعادين للسامية في وصفهم وتحقيرهم تشكل مدخلاً للتأثير في فيصل عبر إقناعه بأنه لا يفهمه ويعرف ما يدور في خلده فحسب، وإنما أيضاً يشاطره هذه الآراء والنظرات.
أغلب الظن أن سايكس كان معادياً للسامية، ولكن هذا العداء لم يمنعه من يتحول إلى «صهيوني متحمس وإلى أحد أهم حلفاء حاييم وايزمان»، كما تقول ماري غراي البروفسورة في علم الأديان في جامعة ويلز البريطانية. لذلك، كان سايكس منسجماً مع نفسه كمعادٍ للسامية عندما استخدم العبارات المهينة والعنصرية في وصف اليهود، وكان منسجماً مع نفسه كموظف في دولة تريد تصدير «المسألة اليهودية» إلى خارج أوروبا، وكموظف في دولة كبرى تسعى إلى توظيف المشروع الصهيوني في خدمة المشروع الإمبريالي الأوروبي والبريطاني تحديداً في المنطقة العربية. من هذه الناحية لم يكن سايكس يختلف عن الكثيرين من أنصار المشروع الصهيوني في الغرب، حيث لم يجدوا تناقضاً كبيراً بين معاداتهم السامية، من جهة، وبين تأييدهم المشروع الصهيوني الذي شكل امتداداً وركيزة من ركائز معاهدة سايكس – بيكو في المنطقة، كما يصفهم توم سيغيف في كتابه بعنوان «فلسطين واحدة: مكتملة».
في رده على سايكس، ألقى فيصل ضوءاً على نظرة حملة المشروع العربي تجاه القضايا الدينية، إذ رفض كلياً ما نسبه إليه سايكس من التعصب الديني أو الفئوي، وأجابه قائلاً إنه لم يسبق أن تملكته مثل هذه العواطف، وأن هذا لن يحدث في المستقبل وأنه لا مانع لديه البتة من التعاون مع اليهود كجماعة دينية فحسب. لبث هذا الموقف هو السائد بين النخب السياسية التي تولت قيادة المنطقة بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية. ولقد سعت هذه النخب إلى التوفيق بين المصالح والاعتبارات الوطنية وبين واقع سايكس – بيكو، ولكن فرض الكيان العبري على المنطقة بمساندة القوى الكبرى وبدعم من الغرب بصورة خاصة، والإصرار على ترجيح كفة إسرائيل على كفة الدول العربية عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، وانتزاع أية وسيلة ضغط على إسرائيل من يد العرب مع تزويد إسرائيل بكل ما تريده من وسائل التفوق والعدوان أدت إلى خراب كبير في المنطقة. من يظن أن إسرائيل ستزداد قوة وسط هذا الخراب، يرتكب جريمة كبرى بحق العرب واليهود.
* كاتب لبناني
الحياة