مقالات لكتاب عرب تناولت العدوان الاسرئيلي على غزة
السيسي وروحاني وأردوغان ونتانياهو كلهم… أوباما!/ جورج سمعان
السياسة الأميركية عليلة. والشرق الأوسط كله عليل أيضاً. ضعف هذه السياسة أو غيابها أو تراجعها لم يترجم قوة للدول الإقليمية الكبرى. الفراغ الذي يخلّفه انسحاب الاهتمام الأميركي بالمنطقة لم تملأه قوة بديلة وإن خال بعضهم خلاف ذلك. فلا خصوم الولايات المتحدة ولا حلفاؤها أو شركاؤها أبدوا قوة غير معهودة في مواجهة التطورات الأخيرة. كشفت الحرب على غزة، مثلما كشفت التطورات الأخيرة من ليبيا إلى سورية والعراق، أن اللاعبين الإقليميين الكبار ليسوا أكثر قدرة من الرئيس باراك أوباما. أو أقل ارتباكاً وضياعاً. كشفت أن غياب واشنطن وعزوفها عن تحريك التسويات ولّدا استعصاء سياسياً في معظم عواصم المنطقة تجلت أبرز صوره في حروب «داعش» المفتوحة على كل الاتجاهات والحدود الشامية، إلى حرب القطاع وحروب ليبيا التي تهز الشمال الأفريقي برمّته.
مصر اليوم محور الاتصالات الديبلوماسية القريبة والبعيدة لتهدئة الوضع في قطاع غزة. لا ترغب في أن يُلقى القطاع في حضنها فيراكم مشاكلها الداخلية. لكنها لا يمكن أن تستقيل من مسؤولية ما يجري على حدودها الشرقية. ساهم سقوط نظام «الإخوان» في انكشاف «حماس» التي وجه إليها النظام الجديد في القاهرة شتى الاتهامات. ولم يتوقف الجيش المصري، حتى في الحرب الحالية، عن تدمير الأنفاق التي استخدم ويستخدم بعضها لإيصال السلاح الإيراني إلى القطاع. ويسوق المصريون اتهامات إلى «حماس» بأنها وراء السلاح الذي يواجهونه في شبه جزيرة سيناء وغيرها من الدساكر والساحات. ولم تسلم مبادرتها لوقف الحرب من النقد الإيراني والتركي وغيرهما. ثمة قوى أخرى تنازعها القرار والنفوذ والتأثير.
وضعت «حماس» نفسها في جبهة تركيا – قطر من دون أن تدير الظهر لمصر. لأنها تدرك جيداً أن لا معنى لفك الحصار عن القطاع من دون دور للقاهرة. لكن تناغمها مع مبادرة الدوحة التي دعمتها أنقرة بعد انتقادها الدور المصري أعاد هاتين الدولتين لاعبين حاضرين إلى المشهد السياسي في المنطقة. ناشدهما وزير الخارجية الأميركي جون كيري التدخل لدى الحركة للإفراج عن الضابط الإسرائيلي الأسير. وكان قبل ذلك التقى وزيري خارجية البلدين في الاجتماع الوزاري الذي عقد في باريس قبل أيام، في غياب مصر، لمناقشة سبل وقف القتال وترسيخ التهدئة في القطاع. ألا يكفي هذا للاعتراف بدور الدولتين إلى جانب دور القاهرة التي تلقى دعماً من المملكة العربية السعودية ودول عربية وخليجية أخرى؟
الواقع أن القيادة المصرية الجديدة تجد نفسها في موقع لا تحسد عليه. نظرة إلى حدود البلاد مع جيرانها تكفي لرسم صورة التحديات التي تواجهها. يكاد الحصار أن يطبق على أرض الكنانة. إذا نجحت القوى الإسلامية المتشددة الليبية وميليشياتها في فرض سيطرتها على البلاد وهزيمة القوى الأخرى السياسية والعسكرية، سيكون على مصر أن تخوض معركة مضاعفة مع «الإخوان» وحركات التطرف الأخرى. بهذا المعنى ليست غزة بحركاتها وعلاقاتها هي التحدي أمام القاهرة. هناك أيضاً ليبيا وحدودها المفتوحة لكل أنواع السلاح والعتاد والتهريب. وهذا تحدٍ آخر كبير لمصر. وسيعني ذلك أن محوراً عربياً وإقليمياً يساند «الإخوان» سيشغلها طويلاً عن قضاياها الداخلية ويفاقم المشاكل الأمنية. غزة امتحان قاس لنظام الرئيس عبدالفتاح السياسي، وليبيا امتحان لا يقل قساوة. فإذا نجح في رفع التحدي في وجه هاتين القضيتين يمكن بعدها الحديث عن عودة القاهرة إلى أداء دورها الإقليمي الفاعل. ويمكن بعدها الحديث عن حضور لا يمكن تجاهله في مواجهة السياسة التركية والإيرانية في المشرق العربي. فهل تقدر القاهرة على هذا الدرب الطويل، في ظل متاعب لا تقل إلحاحاً، من أزمة السد الأثيوبي على النيل إلى الأزمات المتناسلة في السودان، حديقتها الجنوبية؟ وهل تملك من أسباب القوة ما يكفي لهذه المهمات الشائكة؟
أما القوى الإقليمية الأخرى فليست أفضل حالاً من مصر. لا يمكنها تالياً أن تتباهى بالكثير. حمل القضيتين الفلسطينية والليبية ليس بالسهل على أكتاف مصرية أنهكتها ثلاث سنوات من التدهور الأمني والاقتصادي والاجتماعي. كذلك إن حماية نظامي بشار الأسد ونوري المالكي ومواصلة رعاية الأوضاع في اليمن والبحرين ولبنان ليس بالحمل الخفيف على إيران التي يكفيها اقتصاد يشارف على الانهيار. فيما قوى تناصبها العداء تشكل تهديداً يومياً للنظامين في بغداد ودمشق. ناهيك عن الصراع المفتوح بينها وبين دول عربية وازنة لن تسلم لها بما تملك من أوراق عربية أو تستسلم أمام نفوذها وطموحاتها. لم تغب الجمهورية الإسلامية عن القطاع، أو توقف دعمها وإمدادها «حماس» والفصائل الأخرى بكل أنواع العتاد، على رغم القطيعة السياسية مع الحركة التي وقفت قيادتها مع خصوم النظام السوري وخرجت إلى الدوحة وانحازت إلى مصر إبان حكم الرئيس محمد مرسي.
وكشفت تعليقات المسؤولين الإيرانيين ومواقفهم من العدوان على غزة رغبتهم في العودة إلى تصدر صورة المدافعين عن القضية الفلسطينية، لعل ذلك يساهم في استعادة شيء مما خسروه في الشارعين العربي والإسلامي بسبب موقفهم مما يجري في العراق وسورية وحتى في اليمن ولبنان. و «حماس» من جانبها ترغب في إعادة وصل ما انقطع معها، أملاً في تعويض ما استنزفته الحرب الحالية وتستنزفه من صواريخ وأعتدة وذخائر. هي تتوكأ على دعم قطر وتركيا ولكن يصعب عليها أن تتوقع منهما دعماً تسليحياً لأسباب كثيرة. تكتفي بمساندتهما السياسية والمالية. علماً أن العلاقات بينها وبين طهران ستظل محكومة بأولوية العلاقة مع الدوحة وأنقرة. لا يمكن الحركة أن تذهب بعيداً في مماشاة السياسة الإيرانية التي تتواجه وسياستي العاصمتين في الساحتين السورية والعراقية. إلى هذه الاعتبارات لا يمكن الحركة أن تدير ظهرها لمصر. مفتاح معبر رفح في يد القاهرة. لا يمكن حسن روحاني أو رجب طيب أردوغان ولا غيرهما ان يرث محمد مرسي. هذا الدور لمصر أياً كان على رأس السلطة. مصر الباب الأساس للخروج من حال الحصار. من هنا إن مهمة إقامة حد أدنى من التوازن في التعامل مع هذه الحقائق لن يكون بالأمر اليسير على حركة «حماس». ستظل الغلبة في قضية القطاع لموقف القاهرة.
وهناك وقائع جديدة على الأرض تحول دون حرية التحرك الإيراني نحو القطاع كما كانت الحال في السنوات الثلاث الماضية، خصوصاً أيام حكم الرئيس مرسي. يخوض الجيش المصري حملة واسعة في سيناء ويواصل تدمير الأنفاق على حدوده مع القطاع ويشدد اجراءاته لمنع وصول السلاح الإيراني وغير الإيراني إلى الفصائل الفلسطينية. وتصر القاهرة على التعامل مع السلطة في رام الله وليس مع الفصائل. أكثر من ذلك إن مواصلة طهران سياستها السابقة في توريد السلاح إلى «حماس» وغيرها قد يزيد المفاوضات في الملف النووي تعقيداً. ستتسع المعارضة الدولية لإبرام اتفاق يسمح برفع العقوبات عن دولة تمد حركات يصنفها الغرب «إرهابية». حتى الآن يرفض المفاوض الإيراني مع الدول الست الكبرى البحث في الملفات الإقليمية، لأن ذلك يعني وضع دور الجمهورية الإسلامية ونفوذها في المنطقة على طاولة البحث. تفضل أن تحصر الاهتمام بالملف النووي لئلا تتداخل القضايا الإقليمية وتضيف مزيداً من التعقيدات إلى هذا الملف.
إلى التزاحم على الإمساك بورقة غزة، تلقت إيران صفعة قوية في العراق. فالجيش الذي بناه حليفها نوري المالكي وأنفق عليه بلايين الدولارات انهار كنمر من كرتون أمام بضعة آلاف من المقاتلين المتطرفين. وأتاح لـ «الدولة الإسلامية» أن تسيطر على مساحة شاسعة من العراق وسورية، بعد استيلائها على كميات هائلة من السلاح والعتاد والذخائر. وهو ما ساعدها وساعد بقية فصائل المعارضة السورية على رفع وتيرة مواجهتها لنظام الرئيس بشار الأسد في الرقة ودير الزور وريف حلب وغيرها من المناطق. أي أن انهيار «جبهة المالكي» عرّض «جبهة الأسد» لمزيد من المتاعب والتحديات. وإذا قيّض لإسرائيل أن تفرض شروطها لوقف الحرب في غزة، تكون طهران واجهت أيضاً متاعب مضاعفة في الساحة الفلسطينية. ولا شك في أن تفاقم هذه الأزمات وتعقيداتها سيجعلها عاجلاً أو آجلاً بنداً رئيساً في المحادثات النووية. لأن تجاهل البحث في تسويات وإن موقتة للقضايا الإقليمية التي تزداد اشتعالاً سيترك آثاره على هذه المحادثات.
وليست تركيا أفضل حالاً. تعيش على وقع ما يجري خلف حدودها الشرقية والجنوبية من حروب مفتوحة تتعزز فيها مواقع قوى التطرف… وقوى الكرد الذين لم يتخلوا ولن يتخلوا يوماً عن حلمهم في دولة مستقلة. هذا حتى لا نتحدث عن الصراع الداخلي القاسي بين حزب العدالة والتنمية وخصومه السياسيين من قوى مذهبــية وإسلامية وقومية وعلمانية وأجهزة عسكرية وأمنية. يراهن رجب طيب أردوغان على مهمة صعبة. يراهن على أداء دور مرسوم جغرافياً وتاريخياً لمصر. يسعى إلى قيادة حوار بين «حماس» وإسرائيل لعل ذلك يقدمه إلى الشعب التركي حامياً لقضية الشعب الفلسطيني. وهو ما قد يعزز حملته الانتخابية المقبلة نحو الرئاسة. ويصرف الأتراك عن القضية الكردية، وقضايا الفساد والهيمنة وقمع الحريات الذي يمارسه. لكن دون أمنية زعيم حزب العدالة والتنمية عقبات. دونها قوى لا يروق لها مثل هذا الدور لأنقرة، من مصر إلى المملكة العربية السعودية مروراً بالسلطة الفلسطينية، وحتى إسرائيل التي يغضبها الموقف السياسي المتشدد لأنقرة دعماً لـ «حماس» منذ الحربين السابقتين على القطاع في 2009 و2012. وحتى إيران لا تستسيغ دوراً نشطاً لحكومة أردوغان التي تقف في الخط المواجه لها في أزمتي سورية والعراق.
سياسة واشنطن عليلة وعاجزة، ولكن ماذا عن سياسة القاهرة بين غزة وليبيا، وسياسة طهران وأنقرة بين غزة والعراق وسورية وكردستان؟ وهل في دمشق وبغداد وبيروت سياسة؟ وماذا بمقدور الرياض وحدها في مواجهة التطرف والمتطرفين جنوباً وشمالاً و… الطامعين بالمنطقة العربية؟ وماذا عن سياسة تل أبيب؟ هل حققت حرب بنيامين نتانياهو أهدافها؟ هل رمّم جيشه صورته الرادعة؟ أما الصواريخ فيمكن تصنيع المزيد منها، والأنفاق يمكن حفر بديل مما دمر منها. و «حماس» وأخواتها باقية. بل باتت الرقم الصعب في القضية. الرئيس أوباما ضعيف… وجميعهم ليسوا سوى ضعفاء!
الحياة
حرب غزة: أسئلة أكثر من الأجوبة/ جميل مطر
باقية معنا، خلال ما تبقى من أيام وأسابيع الاقتتال بين إسرائيل وغزة، وربما لشهور وسنوات بعد توقف هذه الحرب، أسئلة لا أظن أننا سنجد لها إجابات شافية. هنا في مصر، سألنا ونسأل ولن نتوقف عن السؤال، عن الموقف الرسمي المصري من هذه الحرب. السؤال بالتحديد يتعلق بما خفي عنا من معلومات، وأسباب هذا الإخفاء أو الاختفاء. نسأل بأمل أن يتولى غيرنا في المستقبل تحليل هذه المعلومات الخافية عنا ومحاسبة من أخطأ والثناء على من أصاب. الظواهر تقلل من أهمية عنصر انتماء حركة «حماس» لتنظيم «الإخوان المسلمين» وتبرز أهمية صراعات توازن القوى الإقليمية. الظواهر تشير أيضاً إلى فرصة خلقتها أو ساعدت في نشأتها ثورات الربيع ولا تريد قوى دولية أن تضيع منها.
يسألون في العواصم العربية كافة، يسألون ونسأل معهم عن موقف الشعوب أكثر مما يسألون عن موقف الحكومات. لا يسألون عن موقف الحكومات، فقد أعلنته بسكوتها المريض أو بكلماتها العرجاء التي ألقاها وزراؤها ومندوبوها في اجتماعات مجلس جامعة الدول العربية. لا نسأل عن المواقف، فالمواقف معلنة بالصمت أو بالمراوغة أو بالكذب الصريح، ولكننا نسأل عن أسباب هذه المواقف.
نسأل أيضاً عن أفعال الشعوب، أو قل، ردود الفعل في الشارع، مقارنة بردود فعل مماثلة في حروب وصدامات سابقة بين العدو الإسرائيلي والمقاومة العربية، فإذا جاءت الإجابة بأن شيئاً لا بد أنه تغير، فما هو هذا الشيء؟ وما حجم التغير الذي طرأ عليه؟ وهل هو من نوع التحول القاطع والجذري الذي ينقل أمة أو شعباً من مستوى في التصنيف بين غيرها من الأمم إلى مستوى آخر، ومن نوعية من البشر إلى نوعية أخرى. أغلب الظن أنها ستجد مؤرخاً يعتبر الردود الراهنة دليل الوقوع في براثن حالة «غيبوبة» عابرة مرت بها أمم من قبلنا، لها أسبابها ودوافعها وظروفها. لا شك عندي في أن خيبات الأمل العظمى قادرة على أن تفعل ببعض شعوبنا ما فعلته بأمم أسبق وأكبر. أم لعله الغضب الذي حاولت كبته أو تعديل مساراته أو تسليطه على أهداف أخرى حكومات عربية عدة في مراحل متتالية من ثورات الربيع.
لا تغيب عنا ظاهرة أخرى، وهي أن تطوراً «ثقافياً واجتماعياً» له أهميته القصوى وقع في المنطقة العربية خصوصاً والعالم الإسلامي عموماً خلال السنوات الأخيرة. يتعلق التطور بقضية اختلال التوازن بين الهويات. عشنا مرحلة، بل عقوداً، كانت الهويات «الأعلى» تقف بمثابة السقف الذي اعتبره الإنسان العربي حماية له ولطموحاته يكتـــسب منـها كـــبرياء وثقة. اطمأن إلى هذا السقف سواء تعامـــل مـــعه كهـــوية قومية أم إسلامية. تحت هذا السقف اكتسبت الهوية الوطنية القطرية زخماً مستندة إلى سقف آمن مستقر، ولم تجد تناقضاً إذ استطاعت حركات الاستقلال الوطني الاستفادة من الحشد الذي اعتمدت عليه القضايا القومية، وفي أحيان أخرى استفادت من حملات التنوير والإصلاح الديني. تلاقت الهويات الثلاث في وئام وانسجام معقولين.
فجأة هبط السقف. ليس المهم الآن كيف ولماذا هبط. المهم أنه هبط بكل ثقله فوق الكيانات القطرية. الأمر الكارثي هو في أن هبوطه كشف عن الضعف الرهيب للهوية القطرية في أغلب بلدان المنطقة. انكشف الضعف خاصة حين اختلطت الأجزاء المتناثرة من السقف المتساقط بأجزاء هويات أكثرها لم يكن يرى بالعين الاجتماعية المجردة.
وسط هذا الركام من مخلفات وكسور كيانات قطرية هالكة، تاهت «المكونات الجامعة» أو توارت، مكونات من نوع القضايا القومية، وأحلام المصير المشترك، والتوحد تحت شعارات وعقيدة الدين الأسمى، والأمة الواحدة، والعدو المشترك، والخصائص المثالية وروح التضامن والتعاطف. حلت محلها هويات بائسة وفصائل تبث الكره والضغينة. وتؤكد أولوية الفئة والعشيرة وتقدس ممارسة الحرب ضد أبناء الدين الواحد، وأبناء الوطن الواحد، وأبناء المذهب الواحد، ويستبعد، بل لعله يحرم كما رأينا وسمعنا في الأيام الأخيرة، ممارسة العنف ضد الأجانب، استعماريين كانوا أم مستوطنين أم أعداء للعرب.
***
باقية أيضاً أسئلة عن أميركا، بعضها معتاد ونعرف سلفاً إجاباته منذ اليوم الأول لحرب الغزاة الإسرائيليين ضد العرب عموماً والفلسطينيين خصوصاً، أي منذ أكثر من سبعين عاماً. أسباب الموقف الأميركي لا تخفى. تبدأ من نقطة المشاعر العنصرية المختلفة من عصر الاستعمار الأوروبي للشعوب الملونة، وهذه وإن تغيرت شيئاً ما مع الوقت في الخطاب الرسمي الأميركي والأوروبي، إلا أنها تعود لتطل من وراء سياسات ثابتة استمرت من دون تطوير أو تجميل. هناك مثلاً السؤال عن الارتماء المتزايد لصانعي السياسة في أميركا تحت أقدام إسرائيل وجماعات الضغط الصهيونية. سمعنا من يحاول تفسير هذا الارتماء المتزايد بالضعف المتزايد في النفوذ الدولي الأميركي، وذهابه إلى حد ربطه بالضعف المتزايد في هياكل الحكم في الولايات المتحدة، وبخاصة ما يتعلق بالعلاقة بين البيت الأبيض، وبخاصة شخص الرئيس، من ناحية، والكونغرس وجماعات الضغط المختلفة والرأي العام من جهة أخرى.
لم يكن متصوراً أن تبوء بالفشل مهمة جون كيري التي كان مقرراً أن تكتمل في نيسان (أبريل) الماضي باتفاق فلسطيني – إسرائيلي نهائي. لم يكن الفشل متصوراً بالنظر إلى الأرصدة السياسية الهائلة التي خصصتها إدارة الرئيس أوباما لنجاحها، والتعبئة الدولية التي حشدتها لها، والحملات الإعلامية المنظمة التي صاحبتها، والثمن، وكان باهظاً أحياناً، الذي دفعته أميركا لضبط اصطفاف الحكومات العربية لتكون في خدمة هذه المفاوضات على امتداد شهور عديدة. باءت المهمة بالفشل، بل ووصلت نتائج الفشل إلى درجة ساهمت، كما هو واضح لنا الآن، مساهمة مباشرة في إعداد إسرائيل لحرب جديدة في غزة، وإلى درجة سمحت للإعلام الإسرائيلي ورئيس الحكومة الإسرائيلية بالتهجم على جون كيري وزير الخارجية، بل وتعمدهما إهانة رئيس الجمهورية الأميركية أكثر من مرة، قبل وخلال حرب غزة.
كثيرون حاولوا في مناسبات أخرى الإجابة عن الأسئلة المعقدة المتعلقة بالعلاقة بين إدارة أوباما وإدارة نتانياهو. عقد أحد الصحافيين الإسرائيليين ويدعي شيمي شاليف على صفحات «هآرتس» مقارنة بين عهدي رونالد ريغان وباراك أوباما. قال عن أوباما أنه لو تعامل مع إسرائيل بالأسلوب الذي تعامل به الرئيس ريغان معها لقام الكونغرس بإحالته للمحاكمة وربما عزله. يقول إنه في عهد ريغان كان منصب الرئيس والرئيس نفسه أقوى من الكونغرس، بينما في عهد أوباما لم يعد لمنصب الرئيس القوة التي كانت له فضلاً عن أن الرئيس نفسه أي باراك أوباما أضعف من الكونغرس. فما بالنا وكلاهما ضعيف أصلاً وعاجز عن تحقيق إنجازات حقيقية مهمة. رئيس محل انتقاد لأنه لا ينجز على مستوى العالم الخارجي ومتهم بالمسؤولية عن تراجع المكانة الأميركية وسوء إدارة صراعاته الخارجية وبخاصة مع روسيا والصين والشرق الأوسط والإرهاب. على الناحية الأخرى سلطة تشريعية، أي الكونغرس بمجلسيه، متهمة بالكسل والفساد والتخبط وسوء الأداء. بمعنى آخر الواقع يقول إن طرفي هيكل الحكم في أميركا يعانيان من ضعف وسوء أداء، وإن هذا الضعف ينعكس على المجتمع الدولي بأسره وعلي تدهور صراعاته، ومنها هذا الصراع بين غزة وإسرائيل ومنها أيضاً صراع الغرب مع روسيا على أوكرانيا، ومنها كذلك «الانفجار الكبير» الحادث على امتداد الشرق الأوسط، بكل ما يحمله من احتمالات كارثية على المنطقة وعلى الأمن العالمي. يطرح هذا الواقع سؤالاً فرعياً يلح في البحث عن إجابة. نسأل ويسألون في كل مكان عن الأشد ضعفاً بين طرفين كلاهما ضعيف: أهي أميركا أم أوباما؟
ثلاثون عاماً أو أكثر قليلاً تفصل بين العهدين، وهي فترة ليست بالطويلة عندما توضع في الإطار التاريخي لتطور الأمم، ومع ذلك يبقى الاعتقاد سائداً أنها فترة لا تقل أهمية عن فترة الأربعين عاماً التي شهدت الصعود الصاروخي لأميركا قوة ونفوذاً وهيمنة، وهي الفترة الممتدة من بدايات الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية عصر ريغان. في تلك الفترة حققت أميركا تقدماً تكنولوجياً وصناعياً فائقاً وحققت لشعبها مستوى معيشة أرفع من معظم شعوب الدنيا، وتولت حكومتها إدارة أطول حرب باردة بمهارة ديبلوماسية وعسكرية، وهي الحرب التي انتهت بإتاحة فرصة لم تكتمل لإدارات ما بعد ريغان، لتتولى الولايات المتحدة مهمة قيادة العالم منفردة.
***
الأسئلة كثيرة وتزداد مع الوقت عدداً وتعقيداً. أسئلة عن فرص التعايش في المستقبل بين تنظيم «داعش» وإسرائيل وأسئلة عن تجاهل كل منهما للآخر رغم اقترابهما المتزايد من بعضهما البعض، أسئلة عن مصر وعن الجزيرة العربية وعن الجوار القريب والجوار البعيد، أسئلة عن مصير كل ما هو أصيل وطارئ وكل ما هو ثابت ومتحرك في هذا الجزء من العالم.
* كاتب مصري
العدوان الاسرائيلي وصعوبة… “التركيز”/ وسام سعادة
هو العدوان الثالث على غزّة بعد أن آل قطاعُها لسيطرة حركة حماس. وهو العدوان الأخطر، من حيث السعة والأمد كما من حيث الظرف.
عدوان اواخر العام 2008 جاء يكرّس عضوية حماس في حلف الممانعة الايرانية السورية ويظهر في الوقت نفسه ان ما حققه «حزب الله» في حرب 2006 ليس وصفة سهلة التكرار.
عدوان اواخر 2012 جاء في ظروف مختلفة كثيراً. القدرات القتالية للمقاومين الفلسطينيين كانت في حال أفضل، وحركة حماس «أعادت انتشارها» اقليمياً على خلفية الالتزام التركي مع الفلسطينيين بدءاً من العدوان السابق، وموقف حماس الرافض لقمع السوريين على يد النظام الذي كان الى ذلك الوقت – اي الى وقت اندلاع الثورة عليه – حليفاً لها، والدور القطري المحتضن لقياديي حماس ولمعارضين سوريين، ووصول محمد مرسي الى سدّة الرئاسة في مصر. وهكذا، تمكن الحكم الاخواني المصري انذاك من ايقاف العدوان بشروط ناسبت حركة حماس وأهل القطاع. عُدّ ذلك رصيداً لحكم الاخوان، الا ان قيادتهم آثرت صرفه بالإفصاح الفوري عن أطماع استئثارية داخلية، سرعان ما أفسحت بالمجال لعملية الاطاحة العسكرية الشعبية المشتركة بالرئيس مرسي.
من بعد الاطاحة العسكرية بمرسي، جرى التعامل، مصرياً مع حركة حماس، بمعيار داخليّ بحت، يتصل بالحملة القمعية الدموية الشرسة ضد الاخوان المسلمين من جهة، وبمشكلة تنامي الشبكات الارهابية المتطرفة التي تجد في مناطق من شبه جزيرة سيناء قاعدة آمنة، من جهة أخرى. واذا كان العدوان الحالي هو الأخطر، فبالضبط لأنّه يتعذّر فصله عن العام المصريّ السابق عليه. فكما ان ثلاث حروب اهلية دائرة في الاقليم، السورية والعراقية والليبية، وبسمات تجاوزية للحدود الوطنية، فان العدوان الحالي على غزة يحمل من ناحيته وزر عام مصري متواصل، من عملية قمع الجماعة الاخوانية في مصر، ومحاكمة الجماعة الاخوانية في قطاع غزة، بدءاً من محاكمة المتهمين بتنظيم عملية الفرار من سجون وادي النطرون. أياً تكن واقعية الأمر في «السياسة البحتة»، فإنه في «الواقع الرمزي» للأمور، ثمة في هذا العدوان شيء يربطه بعملية فض اعتصامي رابعة والنهضة. حالياً عدد الشهداء في غزة يوازي عدد شهداء عملية فض الاعتصامين.
لكن ذلك بحد ذاته ينبغي ان يحثّ الحكم المصري الراهن كما حركة حماس على التنبه: فحتى الساعة ما زال موقف الواحد تجاه الآخر، على خلفية العدوان الحالي، لا يفصل كثيراً بين مواجهة الاخوان في داخل مصر وبين كيفية بلورة سياسة مصرية في قطاع غزة تعطي انطباعاً بأننا أمام دولة تفصل بين سياستها الداخلية وسياستها الخارجية.
والحق ان كثيراً من دول المنطقة لا تفصل بين الأمرين. بل يمكن التمييز فيها بين نوعين من الأنظمة: نظام يتعاطى مع الشؤون الاقليمية من زاوية شؤونه الداخلية حصراً، ونظام يرهن شؤونه الداخلية ببورصة الانقباض والانفراج والاشتعال والاخماد في الاقليم. وما يقال هنا للجانب المصري يقال ايضاً، ولو في ظرف استثنائي، للجانب الفلسطيني: «الواقع الرمزي» الذي يربط بين فض اعتصامي رابعة والنهضة وبين هدم الأنفاق في رفح هو واقع ينبغي «السيطرة عليه» لتحسين المواجهة مع العدوان الاسرائيلي الحالي بأفضل حساب نقاط ممكن للفلسطينيين في قطاع غزة. يخسر اكثر بين الفلسطينيين والمصريين من يعجز على الفصل بين المستويين.
في مقابل صعوبة، بل تعذّر الفصل، بين ما هو داخلي وما هو خارجي في العلاقة بين حماس ونظام عبد الفتاح السيسي، تبدع منظومة الممانعة الايرانية السورية ضروباً في «الفصل الميتافيزيقي». لسان حال الممانعين ان حماس التي تقاتل النظام في سوريا هي عدو، وحماس التي تقاتل اسرائيل من غزة هي «ابنتنا».
الرياء الممانع يهتم في هذه الآونة بثلاثة أمور. هو أولاً يتحدث عن توبة حماس الى مفهوم المقاومة، مع انها الحركة التي تواجه عدواناً اسرائيلياً للمرة الثالثة، في مقابل هدوء الجبهة اللبنانية الاسرائيلية منذ 2006، بصرف النظر عن الصخب الكلامي، في وعود «الحرب المفتوحة» و»التأهب للسيطرة على الجليل»، و»الاستعداد لتحرير الجولان»، التي اطلقها امين عام «حزب الله» في مناسبات مختلفة.
وثانياً، اذا كان بعض المعتدلين يبخسون المقاومة الفلسطينية المسلّحة حقها، بشكل مجاني، فان الممانعين يغالون في اسباغ صنيعها بالقوالب الانتصارية كي يكون بالمستطاع تبرير عدم تدخل «حزب الله»، وعدم الحاجة لاعادة خلط الامور ان في سوريا او في لبنان، اي على قاعدة ان حماس كفيلة لوحدها بتعليم اسرائيل درساً تموزياً جديداً.
وثالثاً، ما يهمّ الممانعة هو توظيف الحدث حيثما امكنها ذلك في المسائل الداخلية، مثلاً لأجل «التشطيب» على كل نقاش لبناني يتعلّق بسلاح «حزب الله»، اي على قاعدة انه لما كانت اسرائيل تواجه كل من له ترسانة عسكرية بعدوان دموي فلا مساءلة بعد اليوم لترسانة «حزب الله» العسكرية حتى ولو كانت موجهة ضد صدور السوريين، وحتى لو كنا نرى بأم العين في البقاع، خطورة هذا التداخل بين الوضعين السوري واللبناني، على خلفية تمدد التنظيمات الجهادية المذهبية في اتجاه الجانب اللبناني من الحدود، بعد ان صار لـ»حزب الله» حزام امني في الجانب السوري منها.
هذا «الفصل الميتافيزيقي» بين حماس «عدوة المقاومة» وبين حماس «بنت المقاومة»، وبين «حزب الله» المقاوم وبين «حزب الله» كحزب ديني مذهبي يتبع الأيديولوجيا الرسمية الايرانية، يستتبع من ثمّ عملية «إبدال» لا تقل تعسفاً وخرافة: خوض الفتنة السنية الشيعية كما لو كانت فتنة في الظاهر، وتكملة للصراع العربي الاسرائيلي في الباطن. طبعاً، ينبغي المحاذرة من المقلب الآخر: التعامل مع مقاومة «حزب الله» لاسرائيل كما لو انها مواجهة لها في الظاهر وخوض لغمار الفتنة المذهبية في الباطن. فهذا ايضاً تسطيح عاجز عن الفصل بين المستويات حيث يتوجب ذلك، وعن الوصل بين العناصر بالشكل المناسب. وكما ان الممانعين يحطمون ارقاماً جديدة في الرياء بموجب مقاربتهم التوظيفية للعدوان، كذلك غير الممانعين من النمطيين. اولئك الذين يريدون اقناعك بأنه لولا حماس لغدت غزة دبي ثانية، بل لاس فيغاس، او انه لو وجد ياسر عرفات لكان اخرجنا من المأزق الحالي بسحر ساحر. مصيبة اللاممانعين النمطيين هي انهم، ساعة يقرّون بعدوانية اسرائيل، يتعاملون مع الموضوع مباشرة بوضعه بين هلالين تعطيليين. فيجري التعامل مع هذه العدوانية كما لو انها من العوامل الطبيعية، كالزلازل والبراكين، وعلى الناس التعامل مع هذه العوامل بواقعية.
نحن أمام عدوان اسرائيلي يحدث في ظروف استثنائية اقليمياً وبكل المقاييس، ومع ذلك تصرّ معظم حكومات الاقليم ومعظم تياراته السياسية والثقافية النافذة على ان ترى فيه ما سبقت رؤيته او ما هي تراه في اماكن أخرى. هذا الاجماع، الممانع، اللاممانع، الحكومي، اللاحكومي، على عدم رؤية هذا العدوان بأنه قد سبقت رؤية مشاهده يمنعنا عن الرؤية، رغم انه يشغل الى جانب الحروب الاهلية في العراق وسوريا وليبيا حيزاً اساسياً على الشاشات. في مكان ما، هذا الامتناع عن الرؤية رغم الشاشات، ليس مرده التشوش المبهم، بل يعود الى اننا نعيش فائض «جغرافيات متخيلة». هذا يتخيل انه يقاتل اسرائيل في القصير او يبرود، وذاك يتخيل بأنّه يواجه عملية فض اعتصام «رابعة» او بأنه يفضّ اعتصام «رابعة»، وما بينهما مثقف ليبراليّ يريد ان يخبرك انه لو استجمعنا ملكات العقل والرشد لكنا نرى في قطاع غزّة الآن موسم استصياف عامر بالسياحة. مدد!
وسام سعادة
القدس العربي
مصر أمام الموضوع الفلسطيني – الإسرائيلي/ حازم صاغية
في تناول الموقف المصريّ من الحرب الإسرائيليّة على غزة، ركّز البعض على «إخوانيّة» حركة «حماس» في مقابل مناهضة «الإخوان» بوصفها السياسة التي يعتمدها الرئيس عبدالفتّاح السيسي. وهذا اعتبار لا يمكن إهماله طبعاً، وهو ربّما فسّر التعالي الذي شاب السلوك المصريّ حيال «حماس» وامتناع القاهرة عن إطلاعها على وساطتها وعن التداول معها فيها.
لكنّ الأمر، في أغلب الظنّ، يتجاوز في أهميّته ذاك التفصيل المهمّ. فمنذ مبادرة أنور السادات في 1977 حتّى اليوم تعاقب على حكم مصر أربعة رؤساء أحدهم من جماعة «الإخوان المسلمين»، من دون أن تشهد السياسة المصريّة حيال الموضوع الفلسطينيّ – الإسرائيليّ تغيّراً يُذكر ممّا يتعدّى الشكليّات. صحيحٌ أنّ «إخوانيّين» غير مصريّين عوّلوا على محمّد مرسي وراهنوا على إحداثه انقلاباً نوعيّاً على السياسة التي أسّسها السادات ثمّ سهر عليها سنة بعد سنة حسني مبارك. وصحيحٌ أنّ بعض بقايا العروبيّين والناصريّين من غير المصريّين عوّلوا هم أيضاً على أن يضطلع السيسي بمهمّة تحويليّة كهذه. إلاّ أنّ ما عزف عنه مرسي هو ذاته ما عزف عنه السيسي الذي ناجاه البعض بوصفه عبد الناصر الثاني، وقبلهما كان قد عزف مبارك عنه من دون أن يردعه اغتيال السادات يوم 6 أكتوبر 1981 فيما كان هو نفسه جالساً لصقه. وحتّى الناصريّ حمدين صبّاحي حين تقدّم إلى الانتخابات الرئاسيّة، بدا مستعدّاً لتقليد الرؤساء الذين سبقوه في سياستهم هذه. هكذا استحقّ صبّاحي من بعض الناصريّين العرب غير المصريّين قدراً من الانتقادات وصل بعضها إلى حدّ الشتائم والتخوين.
ويدفع هذا الثبات المصريّ الممتدّ نحواً من أربعة عقود حيال الموضوع الفلسطينيّ – الإسرائيليّ، على رغم التقلّب والاختلاف في أشياء كثيرة أخرى، إلى الجزم بأنّ مصر موضعت نفسها نهائيّاً في دور «الوسيط». ففي هذا الدور الضيّق وحده ينحصر اختلاف نظام مصريّ عن الآخر، وهو ما لا يحجبه، بل يظهّره، وجود الوفد الفلسطينيّ في القاهرة اليوم.
والحال أنّ السياسة الاقتصاديّة المصريّة في حقبة ما بعد الناصريّة هي وحدها ما يصحّ فيه الثبات الذي يصحّ في الموضوع الفلسطينيّ – الإسرائيليّ. فهذان الشأنان باتا من الثوابت والإجماعات في ذاك البلد المتنازع على كلّ شيء آخر تقريباً. ويقتضي البعد عن الأوهام وعن الحماسات أن يُنظر إلى ما يفعله الحكم المصريّ على هذا الصعيد بالعين ذاتها التي يُنظر بها إلى مواقف بلدان العالم الأخرى، الغربيّة وغير العربيّة، والتي لا تنفع أيّة مناشدة «قوميّة» و «أخويّة» في تغييرها. فمصر، منذ 1970، وخصوصاً منذ 1977، لم تعد «العروبة» و «القوميّة العربيّة» صالحتين لتحريضها لأنّها، ببساطة، لم تعد تريد لنفسها «العروبة» و «القوميّة العربيّة». وبغضّ النظر عمّا إذا كانوا مصيبين أو مخطئين، فإنّ المصريّين كلّهم يعودون أدراجهم، حيال الموضوع هذا، إلى زمن ما قبل عبد الناصر.
بيد أنّ العجز عن رؤية هذا التحوّل يقول أشياء عدّة عن تسمّر بعضنا في ماضٍ لا يستطيع إلاّ الله نفخه حاضراً أو مستقبلاً، وعن سطوة مثال سوريّ – مشرقيّ، مُصاب بفلسطين، يراد إلباسه لمصر. فكيف وأنّ المصريّين اليوم مهجوسون بقضايا لا يقبلون التعامل معها بوصفها أدنى هميّة من الموضوع الفلسطينيّ – الإسرائيليّ. فهم بعد أن يضخّموا رقم ضحاياهم في الحروب السابقة مع الدولة العبريّة ويجعلوه مئة ألف، يذكرون أزمتهم الاقتصاديّة، وما يسمّونه الإرهاب في سيناء، وخوفهم من آثار قد تصلهم من ليبيا التي تتفجّر وتتصدّع، والجهود التي يتطلّبها التكيّف مع سودان انقسم سودانين في جنوبهم. وإذ يرى بعضهم في «الإخوان» خطراً يحتكر كلّ الأخطار ويلخّصها، يرى بعضهم الآخر في سلطة الجيش مثل هذا الخطر الشامل والماحق.
فهناك في مصر شيء انتهى حقّاً، وآن الأوان أن نفهم أنّ المصريّين، المتنازعين في ما بينهم، قتلوا كلّهم أباهم ويوليوس قيصرهم عبد الناصر.
الحياة
بخصوص الحرب الإسرائيلية على غزة/ ماجد كيالي
من حق الفلسطينيين أن يعبّروا عن اعتزازهم وافتخارهم ببطولات مقاومتهم، فهذا أمر طبيعي، فالمقاومة بالنسبة إلى شعب مظلوم، ويعاني من الاستعمار والعنصرية، هي بمثابة تعبير عن حيويته، ورفضه للظلم والامتهان، وتوقه للحرية والكرامة والعدالة.
بيد أن الصراع مع إسرائيل لا يعتمد فقط على الحماسة والتعاطف، أو على التضحيات والبطولات، مع أهمية كل ذلك، وإنما على موازين القوى، والتفوق في إدارة الموارد، ووضعية المجتمع، كما على المعطيات الدولية والعربية، وهذا غاية في الأهمية، بالنظر إلى الضمانة التي تحظى بها إسرائيل، في شأن وجودها وأمنها وتفوقها، من جانب الدول الكبرى.
ولعل الفلسطينيين في صراعهم، المديد والمضني والمعقّد مع إسرائيل يواجهون معضلتين أساسيتين، أولاهما تكمن في أنهم لا يستطيعون بإمكاناتهم الذاتية تغيير موازين القوى لمصلحتهم، لأن ذلك يحتاج إلى وضع عربي ملائم، وهذا لم يتشكّل ولا مرة، منذ أكثر من ستة عقود. وثانيتهما، أنهم مع كل تضحياتهم وبطولاتهم لا يستطيعون للأسف تثمير فوزهم على إسرائيل، أو ترجمة انتصارهم ولو الجزئي عليها، إلى مكاسب أو إنجازات سياسية، إلى الدرجة المناسبة، لأن ذلك يتطلب تغيّراً إيجابياً لمصلحتهم في المعطيات الدولية والعربية، إلى الدرجة التي تمكّنهم، أو تسمح لهم بذلك.
هذا يفسّر، بين عوامل عدة، عدم تمكّن الفلسطينيين من تحقيق إنجازات ملموسة طوال قرن من الصراع ضد المشروع الصهيوني، ونصف قرن من الكفاح المسلح، بعد إقامة إسرائيل، مع انتفاضتين كبيرتين. إذ تمكّنت إسرائيل من وأد كفاحهم من الخارج (1982)، بحكم التوافق العربي والدولي على ذلك، وإجهاض الانتفاضة الأولى (1987 – 1993) بعقد اتفاق أوسلو المجحف، وبإقامة كيان سياسي هزيل، في حين تمكنت من إجهاض الانتفاضة الثانية (2000 – 2004) باستفرادها بالفلسطينيين، وإمعانها البطش بهم، بحكم ضعف التعاطف الدولي والعربي معهم، في تلك الظروف.
يجدر التذكير بأن تلك الانتفاضة كانت شهدت ذروة الصراع المسلح، الفلسطيني – الإسرائيلي، مع خسائر بنسبة 1 إلى 4، وهو أمر غير مسبوق. فحتى في الحرب الحالية، وعلى رغم البطولات المتضمّنة فيها، فإن نسبة الخسائر بين الطرفين ما زالت كبيرة، وتقدر بحوالى 1 إلى 16 (100 للإسرائيليين و1600 للفلسطينيين وفق مصادر المقاومة)، أو 1 – 25 (63 للإسرائيليين و1600 للفلسطينيين وفق المصادر الإسرائيلية).
يذكر أنها كانت في الحرب الأولى على غزة (2008) بنسبة 1 إلى 150 (9 – 1400) وفي الحرب الثانية (2012) بنسبة 1 – 31 (6 – 190)، أي أنه مع كل هذا التأهيل، والإمكانات والبطولات، ومع تقلص الفجوة بالقياس إلى الحربين السابقتين، إلا أنها لم تصل إلى الحد الذي بلغته إبان الانتفاضة الثانية التي كبدت إسرائيل خسائر بشرية أكثر من أي مرة في تاريخها (بالمعنى النسبي ربما باستثناء خسائرها في حرب 1973).
هكذا، وفي خضم كل ما يجري، وفي ضوء كل هذه التجربة، فإن الفلسطينيين معنيون بإدراك هذه الحقائق، والانطلاق من واقع أنهم إزاء صراع طويل الأمد مع إسرائيل، وأن هذا الصراع لا يمكن حله بالحسم العسكري الفلسطيني فقط، لأنهم لا يمتلكون أدواته، وفقاً لمعطيات المدى المنظور. وأنهم في هذه الجولة مثلاً، في حرب غزة، ليسوا في مرحلة حسم للصراع، ولا على مستوى جزئي، وأن إسرائيل هي التي قررت هذه الحرب الإجرامية المدمرة، لوأد روح المقاومة عندهم، وليسوا هم. وأن مشكلتهم، على رغم تضحياتهم وبطولاتهم، تكمن في أن المعطيات الدولية والعربية، السائدة الآن، غير مواتية لهم، ولا تمكّنهم، أو تصعّب عليهم، تثمير نجاحاتهم إلى انتصارات، وهذا ما نلحظه من الاستفراد الإسرائيلي بهم أكثر من أي فترة مضت.
ويبدو من بعض خطابات المقاومة، أنها تقدر ذلك بدليل استعدادها للتهدئة أو الهدنة، على أساس وقف العدوان ورفع الحصار، فحتى بالقياس إلى تجربة «حزب الله»، مع إمكاناته، وكل عوامل إسناده، لم يخرج مع إسرائيل إلا بتفاهم نيسان (أبريل) 1996، وبالرضوخ للقرار الدولي الرقم 1701 (2006) الذي التزم معه بوقف المقاومة.
القصد هنا أن إسرائيل هي التي تمتلك قرار الحرب وأدواتها، بينما يمتلك الفلسطينيون إرادة المقاومة وروحها وأدواتها، وأنه لا ينبغي في غمرة الحماسة والعواطف، الخلط بين الحرب والمقاومة، فهذا ما تحاول إسرائيل الاستفادة منه، لتغطية تماديها في البطش بهم، لاستنزاف طاقتهم على المقاومة، وإطاحة إنجازاتهم السياسية وزعزعة مجتمعهم.
على أية حال من المفهوم أنه في لحظة الحرب تسود اللغة العاطفية والحماسية والانتصارية، كأن الحرب تخاض باللغة، بحيث راجت الأحاديث عن غزة التي قهرت «الجيش الذي لا يقهر»، وعن انتصار المقاومة، وفرضها حالاً من «توازن الرعب»، وهي تعبيرات متسرعة لا تعكس الواقع، ولا تميّز بين قدرة المقاومة على صد العدو والانتصار عليه، ولا بين هزيمة عدوانه وتحقيق هزيمته الكلية أو الجزئية، إذ ليس من الحكمة عدم ملاحظة الفلسطينيين اختلال موازين القوى والمعطيات المحيطة لمصلحة إسرائيل، وثبات علاقات القوة ومعادلات السياسة بينها وبينهم.
مع ذلك، فإن هذه الإدراكات لتعقيدات الصراع ضد إسرائيل لا تفترض القعود عن مقاومتها بكل الأشكال، بما فيها الكفاح المسلح، لكنها تفترض البحث، في كل مرحلة، عن السبل الأجدى للمقاومة، والتي تضمن استمرارها، وانتظام وتيرتها، في معركة طويلة الأمد، والتي تراعي قدرة الشعب على التحمل، وتمكن من استنزاف إسرائيل، واستثمار التناقضات في مجتمعها، لا العكس. وبدهي أن إسرائيل دولة عدوانية ومتوحشة، وأن أية مقاومة تتضمن أثماناً باهظة، لكن مهمة المقاومة هي الانتباه إلى عدم الاستدراج إلى المربع الذي تريده، مثلاً بالانزياح من مربع المقاومة إلى مربع الحرب، واقتصادها بتصريف مواردها، وضمنه تقليل الأكلاف التي يتحملها شعبها، ما أمكن. ولعله ليس صدفة أن يتحدث خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لـ «حماس»، عن تنويع خيارات المقاومة، وتبني المقاومة الشعبية، وتمييزه أخيراً بين الإسرائيليين المدنيين والإسرائيليين المستوطنين. وهو ما حاولته الثورة الفلسطينية في بدايتها حينما تبنّت فكرة تحرير اليهود من الصهيونية، وإقامة دولة واحدة ديموقراطية في فلسطين/ إسرائيل لجميع المواطنين، من دون أي تمييز، لا بسبب الدين ولا لأي سبب آخر.
وبالتأكيد، فإن الانطلاق من كل ذلك لا يتعارض مع حقيقة أن إسرائيل دولة مصطنعة، وغير شرعية، تاريخياً وأخلاقياً، وأنها نتاج للصهيونية الاستعمارية والعنصرية والدينية، وآخر ظاهرة استعمارية في العالم. لذا مفهوم، أيضاً، أن إسرائيل هذه لا أفق لها في هذه المنطقة، بالمعنى التاريخي، فهي نشأت في ظروف دولية وعربية معينة، وستنتهي، أو تتجه نحو الأفول، في ظروف مغايرة، لا سيما أنها لا تستمد عوامل وجودها واستمرارها وتفوقها من قواها الذاتية فقط، إذ هي تعتمد في ذلك أيضاً على دعم الغرب، وهشاشة العالم العربي إزاءها، وقدرتها على صوغ عقل اليهود في العالم لمصلحة مشروعها.
طبعاً، لا يعني كل ذلك الاتكاء على الحتمية التاريخية، إذ إنه يفترض أيضاً مقاومة هذا المشروع، وفق الإمكانات والظروف المتاحة، وهذا ما يسمى «الشرط اللازم» الذي لا بد من وجوده وإنضاجه بانتظار توافر الظروف والمسارات التي تسمح بتضافر العاملين الذاتي والموضوعي، ما يؤمّن الظرف التاريخي، أو ما يسمى «الشرط الكافي»، الذي يسمح بهزيمة إسرائيل الاستعمارية والعنصرية والدينية، بصورة جزئية أو كلية.
لذا، السؤال المطروح على الفلسطينيين، في هذه الظروف والمعطيات الدولية، ومع الاضطرابات الحاصلة في العالم العربي، يتعلق بالمستوى الذي يمكّنهم من الاستمرار في مقاومة إسرائيل من دون تمكينها من البالغة بالبطش بهم، وتدمير كياناتهم ومجتمعهم.
إذا ينبغي على الفلسطينيين تحديد ما يستطيعونه وفق إمكاناتهم، ووفق معطيات العالم من حولهم، ووفق ما يتوقعونه من مقاومتهم في كل مرحلة، فإذا كانت المعطيات تفيد بإمكان تحرير فلسطين وهزيمة إسرائيل كلياً، أو حتى جزئياً (بالمعنى الاستراتيجي)، عندها فقط يمكن أن يزجّوا بكل طاقتهم في هذه المعركة التاريخية. لكن، إذا كانت المسألة أقل من ذلك، وتتعلق بتهدئة أخرى، أو بمكسب ما، فالأجدى موازنة مستوى المقاومة وفق دراسات الجدوى وحسابات الربح والخسارة والكلفة والمردود، وعدم التسهيل على إسرائيل كسر المجتمع الفلسطيني، أو استنزاف طاقته على التحمل والمقاومة. ولا ننسى في غضون ذلك أن إسرائيل هي التي في موقع الصراع على وجودها، في الزمان والمكان، لا الفلسطينيون الذين ينتمون إلى أمة ممتدة في الزمان والمكان.
باختصار لا ينبغي للحماسة إلى المقاومة أن تصرف الفلسطينيين عن التحسّب للاستهدافات الإسرائيلية، لا سيما في هذه المناخات العربية والدولية، وهذا ما حاولت قوله في مقالة سابقة، في بداية العدوان (إسرائيل والفلسطينيون وتغيير الخرائط،، «الحياة»، 8/7).
* كاتب فلسطيني
الحياة
تحسَّن أداء حماس فلجأت إسرائيل إلى “عقيد الضاحية”/ حسين عبد الحسين
أربك الانهيار المفاجئ والسريع للقوات الحكومية العراقية في مدينة الموصل غالبية المتابعين الاميركيين، الذين لاحظوا تقديم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش) أداءً مميزاً في القتال، دفعهم الى تعليله بالقول إن غالبية كوادر هذا التنظيم سبق ان خدموا في جيش الرئيس الراحل صدام حسين.
لكن مفاجأة أخرى تلت مفاجأة الموصل، فالأداء العسكري الكبير لحركة “حماس” الفلسطينية منذ اندلاع الحرب في غزة، في الثامن من الشهر الماضي، حمل المراقبين الاميركيين، كما الإسرائيليين، على محاولة فهم السر الكامن خلف التقدم الهائل في الأداء القتالي للمجموعات غير النظامية في مواجهة الجيوش النظامية الاحسن تسليحاً وتنظيماً. فعلى مدى ثلاثة أسابيع من المواجهات في غزة في العام 2008، تخللها اجتياح إسرائيلي بري جزئي، خسرت إسرائيل 10 جنود فقط، أربعة منهم عن طريق الخطأ، أي “بنيران صديقة”.
في هذه الجولة في غزة، وفي غضون ثلاثة أسابيع، خسرت إسرائيل 64 جندياً، أي أكثر من ستة اضعاف ما خسرته في المواجهة البرية الأخيرة قبل ستة أعوام، وهو ما اثار قلق بعض الخبراء العسكريين في إسرائيل، وفي عواصم الدول الغربية، وخصوصاً واشنطن، التي تخشى ان تضطرها الظروف يوماً الى خوض مواجهة برية مشابهة تكون فيها خسائرها البشرية مرتفعة.
“عندما كان الارهابيون مجانين كفاية للخروج والمواجهة، قاتلوا كأفراد رعاع: اطلاق نار كلاشينكوف حتى افراغ المخزن او اطلاقة واحدة من قاذفة آر بي جي… وعندما كانوا يقفون لإعادة التذخير، كانوا يتعرضون للتصفية على ايدي خصومهم الاميركيين الاحسن تدريباً وتسليحاً”، يقول الجنرال الأميركي المتقاعد بوب سكايلز عن المواجهات الأميركية في العراق.
“اليوم، الوضع مختلف”، يتابع الجنرال الأميركي في مقالة في صحيفة “واشنطن بوست”، “فنحن نرى المقاتلين الإسلاميين يتحولون الى جنود مهرة، فهجوم الدولة الإسلامية في الفرات نزولاً يظهر أسلوباً حربياً يمزج القديم والحديث”. ويضيف أن الجنود الأميركيين في العراق كانوا يقولون عن المسلحين “شكراً لله انهم لا يعرفون كيف يطلقون النار”.
لكنهم “الآن يعرفون”، حسب سكايلز، الذي يقول إن المسلحين اليوم صاروا “يناورون في تشكيلات منضبطة، غالباً، مستخدمين عربات بيك آب أو همفي استولوا عليها من الجيش العراقي، وهم يستخدمون قذائف مورتر والصواريخ بإطلاقات مميتة”.
ويعتقد الجنرال السابق أن هذه المجموعات القتالية في المشرق العربي وجدت نفسها مضطرة إما أن تتحسن أو أن تفنى، عملاً بالمبدأ الدارويني المعروف. ويقول إن حزب الله اليوم “هو من أكثر (وحدات) المشاة الخفيفة براعة على سطح الكوكب”، وأن “حماس” تقاتل في غزة في مجموعات “حسنة التنظيم وفرق متراصة تحت امرة قادة على اتصال ببعضهم ولديهم معلومات دقيقة”.
ويصف سكايلز المواجهات في غزة على الشكل التالي: “تقف وحدات حماس للقتال مختبئة خلف مبان وفي مداخل الانفاق، وينتظرون الإسرائيليين حتى يمرون قبل أن ينقضوا عليهم من الخلف”. ويضيف: “مثل حزب الله والدولة الإسلامية، يظهر مقاتلو حماس تحسناً في استخدام الجيل الثاني من قاذفات آر بي جي -29، وحسب تقارير غير مؤكدة بعد من غزة، صواريخ مضادة للدروع وموجهة عن بعد”، وهي تشبه التي استخدمها حزب الله في حرب 2006، وألحق بالدبابات الإسرائيلية خسائر فادحة.
ويختم سكايلز بمخالفة اقوال رئيس الأركان الجنرال مارتن ديمبسي، ان الحرب في سوريا بين القاعدة وحزب الله هي في مصلحة أميركا، فيقول ان الحرب السورية شكلت في الواقع أرضاً تدريبية لداعش وحزب الله، وسمحت لهم باختيار قادة ووضع خطط موضع التجربة، وبناء مؤسسات عسكرية، وهو ما لم تكن وحدات الجيش العراقي مستعدة لمواجهته في الموصل.
في غزة، يقول خبراء أميركيون إن الجيش الإسرائيلي، الذي أرسل قوات النخبة، وجد نفسه غير مستعد للتعامل مع تكتيكات حماس، التي تركزت حول إقامة “كماشات” تلتف حول المجموعات الإسرائيلية وتمطرها بالرصاص والقنابل من كل ناح وصوب.
في العراق، لم يكن الاميركيون مستعدين لحرب استنزاف مع مجموعات غير نظامية، فعكف قائد القوات هناك، الجنرال دايفيد بترايوس، على وضع دليل لكيفية خوض هذا النوع من المعارك، والمبني الى حد كبير على استمالة فئات مقاتلة من بين المتمردين، وهكذا قامت “قوات الصحوة” العشائرية العراقية، بتمويل وتدريب وتسليح ودعم أميركي، ونجحت، بالاشتراك مع الجيش الأميركي في القضاء على القاعدة وتفتيتها.
لكن الدليل الأميركي لا ينفع في غزة، وهو ما يعني ان على الإسرائيليين استنباط أساليبهم، ومنها ما يعرف اليوم بـ “عقيدة الضاحية”، نسبة الى حرب لبنان في العام 2006 وقيام الإسرائيليين بإيقاع أكبر كمية من الخسائر في ضاحية بيروت الجنوبية كوسيلة لردع حزب الله من الخوض في أي مواجهة مسلحة مستقبلاً.
أما “عقيدة الضاحية” في غزة، او إعادة احتلال إسرائيلية كاملة والعمل على تفكيك البنية التحتية لحماس، وهذا خيار غير مضمون أصلاً، يعني أن إسرائيل وجدت نفسها امام خيار وحيد: الحاق أكبر نسبة من الأذى بالسكان والعمران الفلسطيني، على أمل ان يؤدي السعر المرتفع للحرب الى ردع الفلسطينيين وابعادهم عن الخوض في مواجهة مستقبلية.
ولأن لدى إسرائيل مقاتلات “اف -16″، فهي لن تحتاج لبراميل بشار الأسد المتفجرة التي تلقيها مروحياته على رؤوس المدنيين في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، لكن الأسلوب العقابي نفسه، والخسائر البشرية والعمرانية متشابهة، أو حسب القول الغربي المأثور “هذه هي الحرب”.
المدن
العرب وحروب غزّة: عجز عن التدخّل… وعن الصمت!/ عبدالوهاب بدرخان
دم الأطفال، أجسادهم وأشلاؤهم المكفّنة والمكدّسة في ثلاجات بدائية بلا كهرباء. عائلات تحوّلت بأكملها جثثاً هامدة. أحياء وأبنية سوّيت بالأرض. مدارس تُخضَع للقصف المستَهدَف تجريباً لأسلحة جديدة ومحظورة… لم تخرج حرب غزّة عمّا كان متوقعاً لها. مقتلة، مجرّد مقتلة، موسم لمجرمي الحرب الاسرائيليين. فتصفية الأطفال كانت دائماً «استراتيجية» عندهم. يظنّون أنها تردع من يبقون أحياء، وتخفض عدد المعادين مستقبلاً. لم تستقم هذه المعادلة يوماً، ولا في أي صراع، بين ظلم خالص وإرادة تحرّر.
هذا الكمّ من الجرائم تحت أنظار الكاميرات صدم ملايين حول العالم، أثار السخط والغضب، واستذرف الدموع أحياناً كثيرة، فهذا يحدث كما لو أن الوحوش العسكرية نالت ترخيصاً للصيد في حقول القتل. كانت ردود فعل بشرية حيال بشر يُنذرون بمغادرة مساكنهم ويُطاردون حيث يلجأُون ويُقتلون كذبائح معدّة للاستهلاك السياسي ومساومات الهدنات الهشّة.
للأسف، لا يبدو ان هذا الكمّ من الخزي الانساني استدرَّ ولو مجرد عطف لدى بعض – ولو بقي محدوداً – من الاعلام العربي، تحديداً في مصر، اذ راحت أفاعيه تفحّ حقداً وعيباً. شكّل بعض المذيعين والمذيعات عينة صغيرة لكنهم تحوّلوا «عيّنة عار» غير مسبوقة. لم يعبّر هؤلاء عن موقف فكري أو سياسي أو ديني أو ايديولوجي، فهذا حقّهم، بل عبّروا بإصرار عن انحطاط أخلاقي وإسفاف معنوي لا يشرّفان أي اعلام. لا يمكن أن يقنعوا أحداً بأن الشعب المصري يريدهم أن يبيعوه «تعظيم سلام للاسرائيلي»، أو أنه يرحب بمناشدتهم اسرائيل ضرب الغزّيين بالنعال، أو أنه يستعذب سيول الشتائم التي آذروا بها آلاف الصواريخ الاسرائيلية على غزة، أو أنه يجاريهم أخيراً في مبالغاتهم باعتبار هذه الحرب استكمالاً لـ «حربهم» على «جماعة الاخوان» وبالتالي على حركة «حماس». كان أضعف الايمان أن يصمتوا، أن يخرسوا بالأحرى، لا أن يتفوّهوا بهذه التفاهات التي تشوّه الحقائق، فلا أحد طلب منهم أن يخوضوا حرب الشعب الفلسطيني من مواقعهم الاعلامية.
لا، ليس الشعب المصري من يهبط الى مثل هذا المستوى حتى لو لم يشعر بأنه مضطر للتفاعل – «قومياً»! – مع حرب لم يردها جيشه ولم يكن لحكومته رأي فيها. نعم، لدى الشعب المصري (والسوري والعراقي واللبناني واليمني والليبي والـ…) من الانشغالات الداخلية المصيرية ما يحدّ من اندفاعه العاطفي تجاه غزّة وضحاياها. هذه شعوب أمضت أعواماً عدّة متوالية في رؤية الكثير من الدم والويلات والاغتصابات والانتهاكات والانقسامات، ومن الكفر والتكفير والإثم والتأثيم والارهاب والترهيب. هذه شعوب ترى مأساة فلسطين تتكرر في كل مدينة من مدنها، وترى بلدانها تتفكّك ومجتمعاتها تتمزّق ووجدانها يتبدّل، ولا شك في أن غزّة استشعرت عجزها حيال ما شهدته من محن الآخرين، مثلما يستشعر هؤلاء عجزهم حيال محنتها، فكل نظام مستبد قاتل أصبح في أنظار هذه الشعوب «اسرائيل»، نسخةً طبق الأصل عنها.
طبعاً، المسألة ليست في إسفاف حفنة من الاعلاميين أو المغرّدين والفايسبوكيين فحسب، فهؤلاء من اسقاطات بوصلة عربية خربة لم تعد ترشد إلا الى التيه والضياع. لم تأتهم الأفكار من فراغ بل من تكاذبات متشعّبة ومتقاطعة، عربية – عربية وعربية – فلسطينية وفلسطينية – فلسطينية وعربية – اميركية… ولا يعلم أحد متى تتوقف أو يُوضع لها حدّ. لكن أخطر ما انتاب التفاعل العربي مع حرب غزّة كان استحضار الصراعات المنبثقة من تحوّلات «الربيع العربي» بما فيها الخلاف المتعاظم مع تيار الاسلام السياسي، وإضافتها الى صراعات «الممانعة» و «الاعتدال» بما فيها من انتهازية ايرانية فاقعة، ثم وضعها في سياق هذه الحرب، وأخيراً الوصول الى استخلاص مفاده أن «حماس» يجب أن تُهزم، وأنه اذا ضربت اسرائيل «حماس» و «الجهاد» وغيرهما، فإنها تسدي خدمة للداعين الى «دولة المواطنة» أو «الدولة المدنية»، بل إنها ستثأر بشكل أو بآخر للمتضررين من صعود التيار الديني أو المناوئين لتعاظم النفوذ الايراني. لكن هذا الانزلاق يتناسى حقيقتين: الأولى أن فلسطين هي قضية شعب مثلما هي مصر وسورية والعراق وغيرها. أما الثانية والأهم أن اسرائيل طرف لا يُرجى منه أي أمل، فإرهابها ووحشيتها وجرائمها سمّمت المنطقة العربية وسرطنتها ومثّلت نموذجاً للأنظمة المستبدة، ثم انها غير معنية بحل مشاكل عربية داخلية بل بمفاقمتها واستغلالها، فهي استغلّت «حماس» الاسلامية لإدامة الانقسام الفلسطيني وتعميقه كما تستغلّ النظام السوري «العلماني» و «الممانع» وتدعم بقاءه طالما أنه ينوب عنها بتدمير منهجي يعيد سورية الى عصور غابرة.
عودة الى التكاذبات. ذاك أن حرب غزّة سلّطت مزيداً من الأضواء على سرّين شائعين: أولهما مرتبط بـ «اتفاق اوسلو» وما بعده، اذ لم تتكشّف عناصره لتوضح مواقف «النظام العرب الرسمي» من القضية الفلسطينية. والآخر يتعلّق بسلسلة وعود وتعهدات اميركية (غير موّثقة؟) للعرب باعتبار السلام «هدفاً استراتيجياً اميركياً» والسعي الى تحقيقه ولاحقاً بالعمل على تصويبه بعد انتكاسات متتالية أدّت أخيراً الى انهياره ودفنه، وتبيّن أن هذه التعهدات كانت واهية بينما حصلت اسرائيل في المقابل على تفاهمات مع واشنطن مكتوبة وموثّقة وموقّعة تتحكّم بمفاهيم السلام والمفاوضات والتنازلات المطلوبة من العرب والفلسطينيين و «اللاتنازلات» الاسرائيلية.
يمكن اختصار السر الشائع الأول بعبارة مباشرة مفهومة وغير تكاذبية هي أن تبنّي «النظام العربي الرسمي» للقضية الفلسطينية صار مجرد التزام سياسي معنوي، وإلى حدٍّ ما اخلاقي، فيما أُخضعت الالتزامات المالية لقيود وضغوط، وأحياناً للمساءلة والنهي القاطع عنها. أما السر الشائع الآخر فعنى أن العرب دخلوا «عملية سلام» من دون خطة، معتمدين فقط على الاميركيين الذين منحوهم صفة مراقب لمجريات العملية غير مخوّل التدخل فيها، لذا راح دورهم واهتمامهم يتضاءلان تدريجاً برغبة منهم أو بسبب انشغالاتهم الداخلية أو خصوصاً بدفع من التقنين الاميركي، إلا في المنعطفات التي ترى واشنطن أن يتدخلوا لتسهيلها وفي النطاق الذي تحدّده لهم. ومع التوصّل الى «اتفاق اوسلو» بمفاوضات سريّة وُضع العرب أمام واقع جديد يدعوهم الى الابتعاد أكثر فأكثر، لكن وقائع الفشل عادت تستدعيهم بعدما أصبحوا عاجزين عن التدخل وبعد فشل رهانهم على الولايات المتحدة التي أصبحت تطلب منهم تنازلات لتغطية عجزها عن الضغط على اسرائيل. واستخدمت اسرائيل ميزان القوى وثغرات «اوسلو» لتغيير مفاهيم «عملية السلام» (بمباركة اميركية) وإخضاع تطبيق الاتفاق لاعتباراتها الخاصة بالأمن والتوسع بالاستيطان والتحكّم بكل تفاصيل حياة الشعب الفلسطيني.
فتح الانكفاء العربي وفشل الاسرائيليين (والاميركيين) في التوصل الى سلام مع الفلسطينيين ومع سورية، ثغرة واسعة لدخول ايران على الخط وإحياء خيار المقاومة المسلّحة من خلال «حماس» والفصائل الاسلامية. وكلما راكم الاسرائيليون والاميركيون الأخطاء (قتل ياسر عرفات، تهميش سلطة محمود عباس، قطع المساعدات، زيادة الاستيطان، تجميد المفاوضات…)، تعزز منطق المقاومة مقابل خيار التفاوض الذي فقد كل منطق، وكلما تعزز أيضاً دور ايران ونفوذها على قراري الحرب و «التهدئة». ومع الوقت تحوّل هذا الدور من كونه تدخلاً ايرانياً غير مقبول الى كونه وضعاً تتعايش اسرائيل معه ذريعة جاهزة ومرغوباً فيها تمكّنها من تعميق الهوّة التي سقطت فيها ما تسمّى «عملية السلام».
في كل حروب غزّة وجد العرب المنكفئون أنفسهم مرتبكين بلا خيارات، فهي تعيدهم الى حقيقة لا يريدونها مكشوفة مفضوحة، الى هزيمتهم الفلسطينية، قبل أن تتوالى الهزائم الاخرى التي تتفجّر وقائعها حالياً في أكثر من بلد. انهم يواصلون الابتعاد عن قضية فلسطين وشعبها ولا يجرؤون على الجهر بأنهم أضاعوا البوصلة والوجهة، يستنكرون انتهازية ايران ولا يريدون أن يكونوا بديلاً منها، يلومون الشعب الفلسطيني أينما كان، في الضفة أو القطاع أو الشتات، اذ يرفض السكوت والاستسلام، ولا يضعون أمامه أي خيار آخر. وفي غمرة تناقضاتهم هذه يصعب عليهم قول الحق لكنهم ينسون أن ثمة فضيلة في الصمت.
* كاتب وصحافي لبناني
الحياة
حماس» واسرائيل خسرتا الحرب/ حسان حيدر
عاد الوضع في قطاع غزة الى نقطة الصفر مجدداً. حصيلة من الفي قتيل وثمانية آلاف جريح وخسائر مادية هائلة تقدر بالبلايين لم تسهم في إخراجه من الحصار المضروب عليه منذ سنوات او من حال المراوحة السياسية العالق فيها، ولا يرجح ان تحقق اياً من الشروط الاخرى التي وضعتها الحركة ثمناً لوقف اطلاق الصواريخ. وفي المقابل منيت اسرائيل بأكبر خسارة بشرية في تاريخ حروبها مع غزة، لكن الاهم كان خسارتها المعركة الاعلامية التي طالما استخدمتها للظهور بمظهر الضحية المحاصرة التي تتعرض لهجوم «الارهابيين» وتبرير عدوانها، بعدما تسببت صور اشلاء الاطفال الفلسطينيين في فضح همجيتها.
وفد «حماس» الذي يفاوض في القاهرة يعرف انه لن يستطيع ان ينتزع من الاسرائيليين ما يبرر سقوط كل هؤلاء الضحايا الفلسطينيين، وانه سيضطر الى التفاوض مع الجانب المصري فقط لفتح معبر رفح، وبشروط القاهرة التي تريد ضمان انه لن يستخدم لتسريب الاسلحة والمقاتلين المتطرفين الى الاراضي المصرية. ويعرف ايضا ان اقصى ما يمكن فرضه على اسرائيل هو تهدئة متبادلة مثلما كان الوضع عليه قبل جولة القتال الحالية.
شروط «حماس» وطريقة ادارتها للمعركة ونقاط القوة التي تكشفت لديها أوحت ان الحركة كانت تتحين الفرصة لدخول الحرب وتستعد لها منذ سنوات، وهو ما وفرته لها اسرائيل عندما قررت معاقبة غزة على مقتل ثلاثة مستوطنين في عملية غامضة الظروف والتوقيت، حتى ان بعض المعلقين الاسرائيليين اعتبر ان اسرائيل وقعت في الفخ الذي نصبته لها الحركة وانجرت الى الحرب. لكن «حماس» كشفت وخسرت الورقتين اللتين كان يفترض بها استغلالهما في تحقيق نتائج افضل، أي الصواريخ البعيدة المدى والانفاق.
فبالنسبة الى الصواريخ، صحيح انها تمكنت لفترة وجيزة من تعطيل حركة الملاحة الجوية في اسرائيل وطاولت بها مناطق لم تقصفها من قبل، لكن اضرارها البشرية والمادية كانت متواضعة للغاية، وخصوصا اذا قورنت بخسائر غزة. كما انها ساعدت اسرائيل في الحصول على دعم اميركي اضافي لتطوير منظومة «القبة الحديد» المضادة لها، بعدما اثبتت نجاحها في التصدي لمعظم الصواريخ الفلسطينية. ومع ان تهديد الصواريخ كان قائماً قبل الحرب الاخيرة وسيظل قائماً بعدها، لكن الاسرائيليين يقولون ان «حماس» خسرت نصف ترسانتها الصاروخية وتحتاج الى سنوات لتعويضها.
اما بالنسبة الى الانفاق، فقد تبينت نجاعتها في حالات التوغل البري الاسرائيلي داخل غزة، لكنها لم تحقق الغرض الذي كانت ترجوه «حماس» منها في إلحاق خسائر كبيرة بالاسرائيليين خارج حدود القطاع. وهذا يعني ان جهداً استمر سنوات وبكلفة عالية انتهى عملياً لحظة اللجوء اليه، على رغم ان اعلان اسرائيل عن ازالة تهديد الانفاق ليس نهائياً.
«حماس» ربحت فقط المعركة الاعلامية، ليس لأن لديها إعلاماً ذكياً ومتطوراً، بل لأن العالم صار اكثر حساسية لعمليات القتل الجماعي التي ترتكبها اسرائيل واكثر رفضاً للاستخدام المفرط للقوة، واكثر تأثراً بسيل الصور عن القتلى المدنيين وخصوصاً الاطفال. ولأن اسرائيل تعمدت إلحاق خسائر بشرية كبيرة لردع «حماس» عن مواصلة الحرب، فقد خسرت تأييد الرأي العام العالمي بعدما صدمت حتى حلفاءها واصدقاءها.
أظهرت هذه الجولة ان «حماس» واسرائيل خسرتا المعركة كلاهما، ولم يحقق أي منهما سوى جزء بسيط من «بنك الاهداف» الذي وضعه عندما دخل القتال، ما يعني ان الحرب لم تعد تفيد في تحسين موقع «حماس» في الخريطة السياسية الاقليمية، كما لم تعد تفيد اسرائيل في سعيها الى تدجين الحركة وفرض شروطها عليها، ولعل ذلك يدفع الطرفين الى الاقتراب اكثر من مقاربة وخيارات السلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله، مثلما يفعلان في مفاوضات القاهرة حالياً.
الحياة
فلسطين: معارك أخرى ليست حربية/ نهلة الشهال
لم يزل التفاوض دائراً في القاهرة حول غزة. وهو شاق جداً على الطـــرف الفلــسطيـــني بسبب الاختلال العميق في موقف «الوسيط» المصري، وبسبب الشك في وجود مضمرات لدى بعض قوى السلطة الفلسطينية، على رغم قيام حكومة وحدة وطنية تجمع كل الفصائل تحت سقفها، وعلى رغم وحدة الوفد الفلسطيني المفاوض. وهو شاق أيضاً بسبب ما يعصف بالمنطقة من فظائع، مما يتدخل في مشهد المجازر التي ارتكبتها اسرائيل ويضعها في تنافس ومقارنات مع فظاعات أخرى ترتكب في العراق وسورية (وسواهما)، وما يلحق اضطراباً في تراتب المشاغل ويجعل سلم أولويات الأخطار نسبياً!
لكن العنصر الأكثر مشقة في تلك المفاوضات يتعلق بإسرائيل التي يهم قيادتها في شكل وجودي أن تثبت أنها خرجت من عدوانها المروع ذاك، بـ «نصر». فهي حركت قدرات هائلة وأقدمت على توغلات برية، وارتكبت مجازر مشهودة، وســقط لها جنــود وضباط بأعداد اكبر مما تعـــودت. ولا بد من معادِل يتولى تبرير كل هذا، ما يجعل ساستها اليوم يعرِّفون النصر بقولهم إنهم باتوا يتحكــمون بالموقف تماماً. لذا لا يرغبون في التوصل إلى اتفاقات بل يســـعون الى تثبـــيت «الهدنة» التي تــترك أيديهم طليقة، ويتوعدون بضربات جديدة متى يروق لهم.
وهم يبررون الإقدام على هدنة من دون حسم المشهد بتحقيقهم «غاية» العملية (تغيرت بحسب النتائج الممكنة)، فدمروا 32 نفقاً كانت تستخدم لشن هجمات ولنقل السلاح وتخزينه. وهي الأنفاق التي تعدت جغرافيتها المعهودة، أي الحدود مع مصر، والتي كانت مستخدمة خصوصاً للتهريب المدني والعسكري، فانتشرت على طول «الحدود» مع إسرائيل كمواقع قتالية. واكتشاف هذا التوسع اصاب اسرائيل بالجنون. وهي على أية حال مهيأة تكوينياً للسقوط في الرُهاب، لأنها تأسست على فكرة متناقضة، حيزها الأول يتعلق بانتزاع ما تقدمه سرديتها كحق تاريخي- وعد الهي، بالقوة وبالتفوق العسكري الكاسح، وبعسكرة هذا الكيان (فالجيش والخدمة فيه هما عماد الحياة، بالمعنى الحرفي والعملي للكلمة الذي يستمر حتى آخر لحظة من عمر الأفراد ويطاول كل تفاصيل يومياتهم). أما الحيز الثاني فبدأ بإنكار وجود الفلسطينيين (المعادلة الشهيرة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»)، لينتهي الى قناعة راسخة بأن الوضع الآمن الوحيد يتمثل في رضوخهم التام، وتصور ذلك في العقل الإسرائيلي يتعدى الشروط المعتادة في الاجتماع البشري، ويعود مجدداً إلى إنكار وجودهم، معنوياً هذه المرة. والفلسطينيون، مهما فعلوا، موضع ريبة دائمة، وتفحص للنوايا قبل الأفعال. واختلاط الحيزين ينتج معضلة إسرائيل الذاتية والتي لا حل لها، في ما يتعدى سائر الحالات الاستعمارية المختبرة.
لكن ذلك شأن آخر، بينما في المدى المباشر، وفي القاهرة اليوم، يبدو الموقف غير قابل للحل، لأن ما أطّر الفعالية القتالية للمقاومة الفلسطينية كما صمود الناس في غزة، وارتضاءهم دفع ذلك الثمن الهائل في الأرواح والممتلكات، يتلخص بفكرة أساسية هي انتزاع فك الحصار المستمر منذ سبع سنوات، مما يتطلب اتفاقات مع مصر ومع إسرائيل.
ووسط كل هذه الاستعصاءات التي تحيط باللحظة، يبرز عنصر مهم هو الشكوى التي قدمتها الحكومة الفلسطينية إلى محكمة الجزاء الدولية في لاهاي بتاريخ 25 تموز (يوليو) الماضي. فهناك ميل في الوجدان السائد لدينا للاستخفاف بهذا المجال واعتباره شكلياً ومن دون طائل، أو لوضعه في تضاد مع الفعل الميداني وللاندفاع الى افتراض أن مَنْ يقاوم لا يحفل بالمعارك القانونية أو الديبلوماسية (والفكرية والثقافية)، تماماً كما يوجد ميل لدى أوساط نخبوية إلى اعتبار تلك المعارك القانونية والديبلوماسية هي الأصل. وفي كلتا الحالتين، تسود مقاربة تبسيطية لأدوات النضال، أحادية المنطق ونابذة لغير الميدان المختار لفعل أي جماعة. هناك ميل رسمي فلسطيني إلى الحذر من الانخراط في المعارك القانونية والديبلوماسية الكبرى، يتجسد في التردد الكبير قبل الإقدام عليها، والتلويح بها كتهديد (ما يحيلها الى تكتيك). كما هناك ميل إلى رميها في سوق المساومة مع إسرائيل.
في عام 2009، وإثر عدوان إسرائيل آنذاك، قُدِّمَت شكوى الى محكمة الجزاء الدولية. وقتها كانت فلسطين لم تحز بعد على صفة الدولة المراقِب في الأمم المتحدة (حصلت عليها في 29 تشرين الثاني- نوفمبر 2012)، ولم تنتمِ بعد الى المنظمات والمعاهدات الدولية الـ15 التي انتسبت إليها في نيسان (ابريل) الفائت، ومنها اتفاقية جنيف الرابعة (لماذا نخوض معارك كهذه إن لم نستثمرها ونثمّرها، فتبنى الواحدة على الأخرى وفق منطق الترابط والتراكم؟).
هذه الصفة وتلك الانتسابات، علاوة على الاعتراف بأهلية المحكمة الدولية على مجمل تراب فلسطين من قبل السلطة الفلسطينية (بعد أيام على وقف العدوان على غزة مطالع 2009) تضع الطرف الفلسطيني في موقع قوة لجهة حقه في اللجوء الى المحكمة التي ستُقْدم بداية على تحقيق أولي (ما فعلته أصلاً في 2009 ونتج منه تقرير غولدستون الشهير)، ثم يتدرج تعاملها مع الشكوى حتى مرحلة الحكم والإدانة (للمرتكبين وليس للدولة) لو ثبت وجود جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية.
وما ارتكبته إسرائيل في غزة يقع في منطوق تلك الجرائم وفق تقديرات المختصين. ولا يعطل الأمر أن إسرائيل لم توقع «ميثاق روما» المقر في 1989 والمؤسِّس للمحكمة (أو هي وقعت ولم تثبّت التوقيع).
صحيح أن محكمة العدل الدولية دانت الجدار الذي بنته إسرائيل في الضفة الغربية وطلبت إزالته وتعويض المتضررين، وأنه مضت عشر سنين ولم يختف الجدار ولم ترضخ إسرائيل، بل العكس، وســـعت عدوانها وارتكاباتها. لكن الصحيح ايضاً أن معركة نزع الشرعية عنها لن تُكسب بالضربة القاضية، بل بتضافر أدوات كما واقعات لا حصر لها، ومن كل نوع. وبالمناسبة، ترافق التقدم بهذه الشـــكوى حــملة شعــبية عالمية داعمة لها، تتمثل بالتوقيع على عرائض موجهة إلى محكمة الجزاء، تلاقي صدى هائلاً وتتحول مناسبة ليعبر الناس عن إدانتهم للعدوان الاسرائيلي على غزة، والأهم، عن رفضهم إفلات إسرائيل من المحاسبة والعقاب… وهذا جزء من المعركة معها، وإن بأدوات غير حربية، ولا تناقض.
الحياة
إسرائيل تخسر، ولا أحد يربح/ حازم صاغية
تناول عدد معتبر من المعلّقين العرب والإسرائيليّين وسواهم تحوّلات الرأي العامّ الأوروبيّ بعد حرب غزّة. ولئن ساد نوع من الإجماع المُحقّ على أنّ إسرائيل خسرت معركة الرأي العامّ الأوروبيّ، وهذا مكسب كبير من حيث المبدأ، لم تظهر آراء جازمة في ما خصّ الطرف المستفيد من خسارة إسرائيل أو القادر على توظيفها واستثمارها.
ففي أواخر الستينات وفي السبعينات، كان الكلام على الرأي العامّ الغربيّ وضرورة كسبه يستند ضمناً إلى وجود طرف يمكنه، ولو نظريّاً، أن يكسب. وكان الطرف المذكور والمعوّل عليه هو «منظّمة التحرير الفلسطينيّة» في ظلّ قيادة غير دينيّة على رأسها، وفي ظلّ اندراجها في حركات التحرّر الوطنيّ من روديسيا (زيمبابوي) وجنوب إفريقيا إلى أنغولا والموزامبيق انتهاء بفيتنام وكمبوديا ولاوس. فعلى اختلاف هذه الحركات، والتباين بين واحدتها والأخرى، تضافر وجود الحرب الباردة والطلب العالميّ الواسع على نزع الاستعمار لتوسيع مؤيّديها وخدمة أغراضها.
لكنّ «منظّمة التحرير الفلسطينيّة» لم تستطع أن تكسب المعركة التي كسبتها الحركات الأخرى، ليس فقط لأنّ الرأي العام الغربيّ رفض تصنيف إسرائيل استعماراً، بل أيضاً بسبب الحماقات والأعمال الإرهابيّة الفاقعة، بل المطنطنة، التي اعتمدتها فصائل وجماعات تابعة للمنظّمة أو محسوبة عليها. فسياسة خطف الطائرات لوديع حدّاد و»جبهته الشعبيّة»، منذ أواخر الستينات، ودورها في تفجير حرب الأردن في 1970، ثمّ عمليّة ميونيخ لـ «أيلول الأسود» في 1972، في بلد يداري حَرجه بالنازيّة وشعوره العميق بالذنب الناجم عنها، كانتا تعبيرين عن استراتيجيّة ليست مهمومةً إلاّ بتنفير الرأي العامّ الغربيّ وبدفعه للتضامن مع… إسرائيل.
لكنّ الكارثة اليوم تتعدّى السياسات الخرقاء التي اعتمدتها أطراف من منظّمة التحرير، لتطال فقدان كلّ أداة يمكن أن تستثمر تراجع إسرائيل أو أن تفيد منه.
فهل تستطيع ذلك حركة «حماس»، دع جانباً حركة «الجهاد الإسلاميّ» الإيرانيّة الهوى؟ بالتأكيد لا، وهي التي تجمع بين «إخوانيّتها» وإدارتها المقيتة والمتزمّتة لقطاع غزّة ولطخة ميثاقها الصادر في 1988 والموغل في لاساميّته المترجمة عن أدبيّات اللاساميّة المسيحيّة في أوروبا.
وهل لـ «حماس» أن تكون، لدى الرأي العامّ الأوروبيّ، ذاك البديل الذي تنجذب إليه العواطف والعقول؟ الجواب قطعاً لا، ولا فارق هنا أكانت «حماس» مرعيّة من طهران ودمشق، أم من أنقرة والدوحة.
وهذا الواقع المُرّ معطوف على أنّ الوضع العربيّ الأعرض لا يخدم ولا يفيد. فهو أيضاً لا يجذب العواطف والعقول بتاتاً، إلاّ أنّه، فوق ذلك، لا يستطيع أن يستثمرها إذا ما انجذبت إليه. وهذا كي لا نقول إنّه أكثر انشغالاً بهمومه الذاتيّة والمباشرة من أن يلتفت إلى مواقف الرأي العامّ الأوروبيّ من غزّة وفلسطين.
وما يزيد الصورة قتامةً تلك الأسلمة المتعاظمة التي تعرّضت لها القضيّة الفلسطينيّة في العقود الثلاثة الماضية، في ظلّ الحضور الواسع للمهاجرين المسلمين في أوروبا والوعي الذي يتسلّح به أغلب ناشطيهم وفاعليهم. فيُخشى دائماً، والحال هذه، أن تظهر أفعال لاساميّة في باريس ولندن وبرلين لا تفعل إلاّ التخفيف من حجم الهزيمة الإسرائيليّة في الرأي العامّ الأوروبيّ.
ويتكفّل بالباقي مناخ الانعزال الصاعد في الغرب، الأميركيّ منه والأوروبيّ على السواء، والانكفاء عن سياسات وحروب يرونها مكلفة وغير مفهومة معاً. وهذا ما يغلّب اللون الإنسانيّ للدعم في حال قدومه، فيما يُضعف اللون السياسيّ حيال مشكلة يزداد وجهها السياسيّ ضموراً وشحوباً.
الحياة
مراجعات خالد مشعل/ ماجد كيالي
في أحاديثه الكثيرة التي ألقاها في السنوات الثلاث الأخيرة، طرح خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»، عديد الأفكار التي تعتبر بمثابة خروج عن مألوف الخطابات الحمساوية المعهودة، والتي تتّسم بالجرأة قياساً إلى ذلك، أو بالمرونة وربما التطور، نسبة إلى مقاربتها التكيّف مع الواقع والعالم.
فقبل أيام وإبان العدوان الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزة، تحدث مشعل بصراحة عن تمييزه بين المدنيين في إسرائيل والمستوطنين في الضفة، وعن التفوق الأخلاقي للمقاومة التي لا تستهدف المدنيين، في حين أن إسرائيل تُمعِن في قتل الفلسطينيين المدنيين وتدمير عمرانهم، قائلاً: «شهداؤنا مدنيون وقتلاهم عسكريون». وأكد أن «المقاومة لا تستهدف، ولم تستهدف يوماً، المدنيين». بل ذهب ابعد من ذلك: «لا تقولوا لي إن المستوطنين مدنيون. هؤلاء يقيمون على ارض غير مشروعة لهم وهم مسلحون ويقتلون ويخربون… ومطالب حماس هي إنهاء الاحتلال وإنهاء الاستيطان ونزع سلاح إسرائيل».
هذه الأفكار هي بمثابة انقلاب على أفكار «حماس»، أو بمثابة مراجعة نقدية لها، ذلـــك أن الحركة عرفت دوماً برفضها هذا التمـــييز بين الإسرائيليين، إذ عندها لا يوجد مدنيـــون في إســرائيل، وتبعاً لهذه النظرة كانت تبـــنّت نهج العمليات التفجيرية في المدن الإسرائيلية، لا سيما إبان الانتفاضة الثانية (2000-2004)، ناهيك عن انها لم تتحدث بلغة التفوّق الأخـــلاقي على إســـرائيل، ولم تكن تقبل بأي مقاربة تتضـــمن الاعتراف بها، أياً تكن.
لذا فالسؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل هذه مراجعة نقدية من «حماس» لوجهات نظرها السابقة، لا سيما في شأن عدم التمييز بين الإسرائيليين، وفي شأن العمليات التفجيرية- «الاستشهادية» في المدن الإسرائيلية؟ ثم هل باتت «حماس» تميّز، ولو لأغراض التكيّف مع الشرعية الدولية، بين واقع استعمار إسرائيل للأراضي المحتلة (1967)، وبين إسرائيل ذاتها؟ والأهم من كل ذلك، لا سيما مع غياب أي رد فعل من «حماس» على هذه التصريحات: هل باتت هذه الأفكار بمثابة ثقافة عامة لدى هذه الحركة، أم مجرد تعبير عن حالة مزاجية موقتة ولتوظيفات معينة؟
هذه ليست المرة الأولى التي يثير فيها مشعل الانتباه بالأفكار التي يطرحها. ففي مقابلة أجرتها معه الإعلامية المعروفة كريستيان أمانبور، في قناة «سي إن إن» (21/11/2012)، قال مشعل: «أنا أقبل بدولة على حدود 1967، مع حق العودة للاجئين… أريد قيام دولة للفلسطينيين، وبعد قيامها ستقرر (هذه الدولة) موقفها (من إسرائيل). لا يمكن توجيه هذا السؤال لي (الاعتراف بإسرائيل) وأنا في السجون وتحت الضغط الصهيوني». وقال: «فلسطين من النهر إلى البحر… أرضي وحقي. ولكن بسبب ظروف الإقليم، وتوقاً إلى وقف الدماء، وافق الفلسطينيون، اليوم وفي الماضي، ووافقت «حماس»، على برنامج يقبل حدود 1967». أما عن اشكال النضال المعتمدة، وفي هذه المقابلة أيضاً، فطرح مشعل للمرة الأولى فكرة التمييز بين الإسرائيليين، بقوله: «المقاومة لا تستهدف المدنيين… أنا قائد «حماس» أقول عبر «سي. إن. إن.» نحن على استعداد لسلوك سبل سلمية من دون سفك دماء أو استخدام أسلحة إذا حصلنا على مطالبنا الوطنية».
وشرح وجهة نظره قائلاً: «ليس أمامنا إلا طريق من اثنين، إمّا وجود إرادة دولية من أميركا وأوروبا والمجتمع الدولي تدفع إسرائيل إلى مسار السلام وإقامة دولة فلسطينية على حدود 1967 مع حق العودة، وهذا أمر محل توافق فلسطيني، وإما أن تواصل إسرائيل رفض ذلك فنستمر في خيار مقاومتها. أنا أقبل بدولة على حدود 1967، ولكن كيف يمكنني أن أقبل بإسرائيل وهي تحتل أرضي؟ أنا الذي أحتاج إلى اعتراف وليس إسرائيل».
وكان مشعل أثار الانتباه في أجواء اجتماع للمصالحة الفلسطينية، جمعه بالرئيس محمود عباس (القاهرة 25/11/2011)، في حديثه عن حق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال «بكل أشكال المقاومة»، وضمنها المقاومة الشعبية والمسلحة. وقال: «وصلنا إلى الانتفاضة الأولى بفعل المقاومة الشعبية». وفي حينه اعتُبِر هذا الكلام بمثابة تطور جديد في مواقف «حماس»، في ما يتعلق بإدراكاتها لتعقيدات الوضع الفلسطيني، ولمحدودية القدرات الفلسطينية في المجال العسكري، وفي شأن حرصها على تسهيل المصالحة وإنهاء الانقسام الفلسطيني.
اللافت أن مراجعات مشعل لم تقتصر على قضية الصراع ضد إسرائيل، إذ شملت نظرته إلى طبيعة النظم العربية، وانتقاد سلطة حركته «حماس» ذاتها في قطاع غزة. ففي ندوة «الإسلاميون والديموقراطية» (الدوحة، 10/8/2012)، نبّه إلى ضرورة تمييز حركته من بين حركات الإسلام السياسي، في البلدان العربية الأخرى. فعنده، «حماس حركة تحرر وطني أولاً، وليست حركة إسلام سياسي فحسب». ووصل مشعل إلى حد توجيه النقد إلى طريقة ادارة حركته للسلطة في غزة، بقوله: «لم تعد هناك حالة يمكن أن تسمّى تجربة حكم إسلاميين في غزة. لكنّنا في «حماس» نشير إلى أننا خضنا التجربة ونتعلّم منها… أخطأنا في أشياء ونتعلم من ذلك… «حماس» حاولت الجمع بين المقاومة والسلطة… وهذا أمر صعب».
وفي هذا السياق ذهب مشعل إلى حد مطالبة القوى السياسية العربية، وضمنها حركات الإسلام السياسي، بأن تؤسس لنموذج معاصر للديموقراطية، موضحاً أن «هناك فرقاً بين موقع المعارضة والحكم، بين التخيّل والافتراض والمعايشة والمعاناة، وفرقاً بين الناقد والممارس». ورأى أن «على الإسلاميين الاعتراف بأن الحكم أعقد مما كانوا يتصورون»، وتوجه إلى الحركات السياسية الإسلامية وغيرها ونصحها بضرورة «التواضع في الوعود للناس وفي ادعاء امتلاك الحقيقة».
عموماً، تعكس هذه المقاربات، أو المراجعات، حال الازدواجية التي تعيشها «حماس»، في كونها حركة اسلامية وحركة تحرر وطني، وتعبر عن استعداد بعض التيارات الاسلامية للتكيف، او التصالح، مع الواقع والعالم، لا سيما مع انفجار هذه الحركات التي بدت، في غالبيتها، كأنها تنتمي الى الماضي اكثر من الحاضر، وتقطع مع العالم بدل أن تتواصل معه، والتي تظهر التطرف بدل المرونة والتسامح.
طبعاً، يمكن «حماس»، من موقعها كحركة تحرر وطني، وفي ضوء تعزّز مكانتها بعد حرب غزة، ان تشكل حالة متقدمة بين الحركات الاسلامية، لكن ذلك مرهون بقدرتها على تعزيز هذه الافكار في ادبياتها، وتحويلها الى ثقافة سياسية عامة في اوساطها.
الحياة
تأشيرة دخول من سورية إلى غزة/ سامر فرنجيّة
شكّلت استقالة الوزيرة البريطانية سعيدة وارسي من منصبها في وزارة الخارجية إشارة إضافية إلى الانعطاف في الرأي العام الغربي تجاه مسألة الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي. وكان سبق هذه الاستقالة عدد من الأحداث الدالة، من تظاهرات داعمة لغزة في عدد من المدن الأوروبية إلى تصريحات لإعلاميين ومشاهير كسرت الصمت حول إسرائيل، تدّل كلها إلى أنّ شيئاً ما قد تغيّر في صورة هذا الصراع. فمهما كانت النتائج السياسية أو العسكرية لعملية «الجرف الصامد»، يبقى أمر واحد شبه أكيد هو أنّ حصانة إسرائيل الغربية باتت مهتزة نتيجة تغيّر هذا الرأي العام.
لم يأت هذا التحوّل في المناخ العام الغربي نتيجة جهود عربية أو فلسطينية فحسب، كما أشار حازم الأمين («الحياة»، ٢٠١٤/٨/٣)، بل هو قد يعبّر عن تحوّل أعمق في تركيبة هذا الرأي العام. فعلى رغم أنّ أكثرية الأميركيين ما زالت داعة لإسرائيل، يشير بعض الإحصاءات الى انقلاب الصورة عند الفئات الشابة أو الأقليات العرقية، ما ينذر بتحوّل تجاه هذه المسألة. بهذا المعنى، ربما بدأ يثمر الصراع الطويل الأمد الذي أطلقته الجاليات العربية في الولايات المتحدة ومثقفوها، ولربما نجح في توطين هذه القضية وتكريسها كمسألة داخلية في الغرب.
تمحور الدعم الغربي المتزايد للقضية الفلسطينية حول تلك النقاط التي تربط الصراع بسياسات الدول الغربية. فالاعتراض على الحرب على غزة أخذ شكل اعتراض على بعض المواقف الرسمية أو على سياسات التمويل والتسليح الأميركية أو على التغطية الإعلامية المنحازة الى إسرائيل، على الأقلّ لدى المؤسسات الإعلامية الأساسية. وجاءت حملة المقاطعة لإسرائيل لتؤكد التشابك بين الغرب ومسألة فلسطين وتوسع هذا الارتباط. بهذا المعنى، لم تأتِ استقالة وارسي نتيجة القتل فحسب، بل كتشديد على أنّ المسألة الفلسطينية باتت، بمعنى ما، غربية.
وأشار بعضهم إلى التفاوت في المواقف بين غزة وسورية لدى الرأي العام هذا. فلم تحظَ القضية السورية، حتى في أيامها الأولى السابقة على التسليح و «النصرة» و «داعش»، بهذا الزخم من الدعم، ولم تتحوّل، على رغم المجازر والفظائع، إلى قضية رأي عام في الغرب. وقد يكون الأمر عائداً، كما أشار نعوم تشومسكي، إلى قلة الخبرة في التنظيم لدى الجاليات السورية في الغرب أو إلى قِصَر عمر الثورة الســورية ومآسيها (موقع الجمهورية، ٢٠١٣/٦/٢١). ولربما أمكن تفسير هذا الفشل في اجتذاب التضامن إلى تخبّط المعارضة السورية قبل بروز مجموعات جهادية يستحيل دعمها، أو إلى ربط هذه القضية ببعض رموز الحرب على العراق ممن هم منبوذون شعبياً.
هكذا لم تستطع الثورة السورية ابتكار مكان ما لها ولقضيتها لدى الرأي العام الغربي، وبقيت قضية خارجة عنه، أقرب إلى مأساة بعيدة ذات أسباب غير سياسية. وتجلّى الفارق بين غزة وسورية في طبيعة التضامن وأشكاله. فإذا كانت مسألة الحرب على غزة سياسية، تتطلب ردود فعل سياسية كالمقاطعة الاقتصادية والتنديد بالإعلام ومعارضة السياسات الخارجية وتفكيك خطابات العدو ومحاولة استمالة الرأي العام، بقيت المسألة السورية أقرب إلى كارثة خارجة عن السياسة لا تحتاج إلى أكثر من ردود فعل إنسانية نابعة من إحساس فضفاض بمسؤولية أخلاقية ما. هكذا، إذا كان المعنى السياسي لغزة هو إعادة النظر في سياسات الغرب، فمعنى سورية ينحصر في سياسات تأشيرات الدخول لأجيال من المهجرين الجدد.
والمقارنة بين كيفيتي التعاطي مع تينك المسألتين ليست دعوة إلى محاسبة هذا الرأي العام على معاييره المزدوجة، أو مطالبة ما تبقى من الثورة السورية بمراجعة لأسباب هذا الفشل. ذاك أن الاستنتاج الأول خاطئ فيما الثاني بات مستحيلاً. غير أنّ تلك المقارنة تسلّط بعضاً من الضوء على مسألة التعاطي مع قضايا الشرق الأوسط السياسية. فمنذ حقبة صراعات التحرر الوطني توالت أشكال من التضامن، من محاربة الاستعمار إلى مساندة القضية الفلسطينية، وصولاً إلى مناهضة الحرب على العراق ثم الإرهاب أخيراً. وبالمقارنة مع ذاك التاريخ، تبدو المرحلة الحاضرة فاقدة لأية نقطة ارتكاز يمكن أن تبنى عليها أي شبكة من الدعم والمساندة، أو بمعنى آخر، أي إمكانية لتسييس الحدث. فغزة، على رغم كل مآسيها، ربما ما زالت تمكث في عالم السياسة. أما باقي المنطقة، فتُرِك محبوساً في عهد الصراعات الأهلية، وبات منطقة منكوبة لا تصلح لأكثر من الشفقة وبعض تأشيرات الدخول لأقلياتها.
والفارق بين غزة وسورية يضع طرفي علاقة التضامن أمام تحدٍ. ففي وجه المتضامِن الغربي، يرفع ذاك الفارق تحدي انحسار بقعة التخاطب مع العالم العربي، لينحصر فعل التضامن بقطاع غزة فقط، تاركاً باقي المشرق العربي في عالمه ما قبل الخطابي، أي ما قبل الصياغة. أما في وجه المتضامَن معه، فيبدو أنّ مدخله الوحيد للسياسة بات يمرّ بتأشيرة الدخول التي قد تعيده إلى عالم الخطاب.
الحياة
حرب غزة: فشل إدارة أوباما في امتحان خارجي جديد
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
مع بدء إسرائيل عدوانها على قطاع غزة في 7 يوليو/ تموز 2014، أعلنت إدارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، تأييدها ما أطلقت عليه “حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، مع التشديد “اللفظي” على ضرورة ممارسة أقصى درجات ضبط النفس حيال المدنيين. ويبدو أنّ إدارة أوباما لم تكن راغبةً في عملية عسكرية إسرائيلية بهذا الحجم؛ فبعد أقلّ من يومين من بدء العدوان، اتصل أوباما برئيس الحكومة الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وعبّر عن قلقه من التصعيد العسكري ضدّ غزة، وأبلغه أنّ الولايات المتحدة مستعدة للتحرّك دبلوماسيًا من أجل العودة إلى اتفاق عام 2012، والذي قامت الولايات المتحدة ومصر تحت حكم الرئيس السابق محمد مرسي بدور الوساطة فيه لوقف إطلاق النار بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة.
ولكن، مع تصاعد العمليات العسكرية الإسرائيلية، وأداء المقاومة الفلسطينية الذي فاجأ كلًا من إسرائيل والولايات المتحدة، بالغت إدارة أوباما – الواقعة بين انتقادات جمهورية وضغوط الكونغرس من أجل دعم إسرائيل – في رفع سقف الانحياز لمصلحة إسرائيل، وحمّلت حركة المقاومة الإسلامية “حماس” المسؤولية كلها بشأن ما يترتب على العدوان الإسرائيلي من جرائم. بل سارعت إلى تقديم طلبٍ إلى الكونغرس، لتخصيص تمويلٍ إضافي بمئات ملايين الدولارات، لدعم النظام الصاروخي الإسرائيلي وتطويره، والمعروف بـ “القبة الحديدة” المخصّصة لاعتراض صواريخ المقاومة الفلسطينية. وبالفعل، أقرّ مجلس الشيوخ الأميركي في مطلع أغسطس/آب تخصيص 225 مليون دولار كتمويلٍ عاجلٍ لهذه المنظومة، ويُتوقع أن يقرّها مجلس النواب أيضًا. وقبل ذلك، أعلنت وزارة الدفاع الأميركية، أواخر الشهر الماضي، أنّ الولايات المتحدة سمحت لإسرائيل بالحصول على ذخائر من مخزونٍ محلي للأسلحة الأميركية، ضمن برنامج يديره الجيش الأميركي ويطلق عليه: “مخزون احتياطيات الحرب – إسرائيل”؛ لإعادة تزويدها بالقنابل وقذائف الهاون. وسمحت الولايات المتحدة لإسرائيل بالدخول إلى المخزون الإستراتيجي لإعادة التزوّد بقذائف من عيار 40 ملليمترًا وقذائف هاون من عيار 120 ملليمترًا لاستنزاف المخزونات القديمة التي سيتعين في نهاية الأمر تعويضها. وحسب ناطق باسم وزارة الدفاع، فإنّ واشنطن تتعامل، أيضًا، مع طلبات إسرائيلية إضافية لذخائر مصنعة في الولايات المتحدة.
لا يحتاج موضوع الانحياز الأميركي التاريخي لإسرائيل، والتحالف معها، إلى أدلة كثيرة، فهو يعدّ فوق الخلافات السياسية والأحزاب. ولا تعدّ إدارة أوباما استثناءً في هذا السياق. ولكن، ما يميّز انحياز إدارة أوباما إلى إسرائيل كونه يأتي في سياق العجز أكثر منه في سياق الاقتناع؛ فالرئيس وأركان إدارته، شدّدوا، غير مرة، على أنّ سياسات إسرائيل وتعنّتها في ملف التسوية مع الفلسطينيين تؤدي إلى نتائج سلبية تجاه المصالح الأميركية في الشرق الأوسط. وقد ألحّت إدارة أوباما على الجانب الإسرائيلي، بشكلٍ غير مسبوقٍ، لتحقيق تقدّم في هذا المسار، لكنها اصطدمت بالعناد الإسرائيلي المدعوم من تيارات وقوى أميركية إعلامية وسياسية واقتصادية ودينية، ساهمت في ترويض “جموح” إدارة أوباما نحو إسرائيل – كما يتهمها خصومها – وأسهمت في المزيد من إضعافها. ولم تمارس إدارة أوباما ضغوطًا على إسرائيل، بعد فشل مسعاها، وثبت أنّ أوباما يتكيّف بسهولة مع الواقع، ويسايره بحماسة، إذا لزم الأمر.
“سارعت إدارة أوباما إلى تقديم طلبٍ إلى الكونغرس، لتخصيص تمويلٍ إضافي بمئات ملايين الدولارات، لدعم النظام الصاروخي الإسرائيلي وتطويره، والمعروف بـ “القبة الحديدة” المخصّصة لاعتراض صواريخ المقاومة الفلسطينية.”
سياق التدخل الأميركي المتأخر وظروفه
يعدّ تحرّك إدارة أوباما المتأخّر لاحتواء التصعيد في قطاع غزة إحدى علامات الإعياء التي عانتها هذه الإدارة. فعلى الرغم من عدم انقطاع الاتصالات الأميركية – الإسرائيلية، والأميركية – العربية، وتحديدًا مع مصر في ظلّ حكم عبد الفتاح السيسي، الساعية إلى إعادة تأكيد النفوذ الأميركي الإقليمي، عبر مدخله الفلسطيني – الإسرائيلي، فإنّ إدارة أوباما تركت، فترة طويلة، إدارة ملف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة ومحاولات التوصل إلى تهدئة إلى مصر، بالتوافق مع إسرائيل. ولم تتخلّ عن سياسة “القيادة من الخلف”، ولم تبادر إلى التحرّك المباشر، إلا بعد نهاية الأسبوع الثاني من العدوان. وقد تمثّل ذلك بإرسال وزير الخارجية، جون كيري، إلى المنطقة في 21 يوليو/ تموز. لكنّ المهم هو السياق الذي جاء ضمنه هذا التحرك؛ فقد جاء، أولًا، بعد سقوط مئات الشهداء من المدنيين الفلسطينيين، جرّاء استهداف الآلة الحربية الصهيونية التجمعات السكنية في القطاع الصغير جغرافيًا والمكتظ سكانيًا. وقد عبّر أوباما، ضمنيًا، في مؤتمر صحفي في البيت الأبيض، في 21 يوليو/ تموز، عن امتعاضه من حجم الخسائر في صفوف المدنيين الفلسطينيين، وأبدى “القلق العميق” جراء ذلك، لكنّه – ضمن الانحياز المبدئي الأميركي – أكد على ما أسماه “حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها”. وقد فعل كيري الأمر نفسه، قبل ذلك بيومٍ، عندما التقط ميكروفون مفتوحٌ، في أثناء مقابلة تلفزيونية مع محطة فوكس نيوز، حوارًا هاتفيًا له مع أحد مساعديه، يتهكم فيه على مزاعم إسرائيل بقيامها بعمليات دقيقة تستهدف المقاتلين وليس المدنيين. وسواء أكانت تلك “مصادفة” التقطها الميكرفون والكاميرا التلفزيونية، أم أنها أمر محسوب، بهدف ممارسة ضغوط على إسرائيل، فإنها، في كل الأحوال، تعبّر عن اقتناع هذه الإدارة بأنّ إسرائيل ذهبت بعيدًا في عدوانها على قطاع غزة، حتى إن لم تكن إدارة أوباما قادرة على قول ذلك علنًا. وجاء هذا التحرّك – ثانيًا – بعد الأداء الفلسطيني المقاوم المشرِّف الذي فاجأ الجميع، وتمكّن من إيقاع خسائر عسكرية كبيرة في صفوف جيش الاحتلال الإسرائيلي، بعد أن بدأ معركة برية في 17 يوليو/ تموز، بعد فشل هجماته الجوية والمدفعية والبحرية في وقف إطلاق الصواريخ الفلسطينية التي طالت مدن إسرائيل الرئيسة.
وثالثًا، لم يأت هذا التحرّك إلا بعد فشل نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي في إرغام حماس، وفصائل المقاومة الفلسطينية الأخرى، على الموافقة على “مبادرته” للتهدئة بين الطرفين، والتي لم تُستشر فيها هذه الفصائل، وساوت بين المعتدي والضحية، وتجاوزت كل ما ترتّب من آثارٍ على العدوان الأخير من قتلٍ وتدميرٍ واعتقالات، واقترحت “هدوءًا مقابل هدوءٍ”، وبعد ذلك يجري التباحث في القضايا الأخرى.
وهكذا، ومع تزايد التكاليف البشرية الباهظة فلسطينيًا بسبب العدوان، وفشل إسرائيل في سحق المقاومة، وفشل ضغوط نظام السيسي على حماس، لم يعد أمام الإدارة الأميركية إلا التحرّك مباشرة. ولكنّ هذا التحرك توِّج بفشل مهين، واجهه كيري شخصيًا، وإدارة أوباما عمومًا، لا على يد إسرائيل فحسب، بل، أيضًا، على يد حلفاء عرب ضغطوا من أجل إفساح المجال والوقت أمام إسرائيل لتدمير حركة حماس وسحقها. لقد تعلّمت بعض الأنظمة العربية التحالف مع إسرائيل في وجه النقد الأميركي في أثناء الثورات العربية، لأنّ إسرائيل تعرف المنطقة أكثر من أميركا، ولأنها تدرك أنّ الخطر على الأنظمة يعدّ خطرًا عليها أيضًا.
“ما يميّز انحياز إدارة أوباما إلى إسرائيل كونه يأتي في سياق العجز أكثر منه في سياق الاقتناع.”
حلفاء ضد ضغوط حليفهم
وفي سابقةٍ قد تكون الأولى من نوعها في تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي، تقف مصر الرسمية مع إسرائيل ضد الولايات المتحدة في ما يتعلق باتفاقات التهدئة المقترحة لإيقاف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. فقد اصطدم جهد كيري، في أثناء زيارته المنطقة، من أجل الوصول إلى هدنة أو تهدئة بين الطرفين، بالرفض الإسرائيلي لما قدمه من أفكارٍ ومقترحات في أثناء جولته في المنطقة. إذ أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في سلسلة من اللقاءات مع محطات التلفزة الإخبارية الأميركية، في 27 يوليو/تموز، بأنّ المبادرة الوحيدة التي تقبل بها إسرائيل هي المبادرة المصرية. والمفارقة الأكثر أهمية، هنا، إعلان الرئاسة والخارجية المصريتين غير مرةٍ، وفي تناغمٍ واضحٍ مع الموقف الإسرائيلي، أنهما لا تقبلان بأيّ تعديلاتٍ على مبادرتهما الأصلية لوقف إطلاق النار، حتى بعد زيارة كيري إلى القاهرة في 21 يوليو/ تموز. فما هي الأفكار التي تضمنتها وثيقة كيري، وسربتها الحكومة الإسرائيلية إلى الصحافة العبرية بشكل أثار الجانب الأميركي، ووصف كيري ذلك بأنه “تصرفٌ مؤذٍ”، وبماذا تختلف عن المبادرة المصرية؟
استنادًا إلى الخطوط العامة للمبادرة الأميركية المسربة إسرائيليًا، والتي سُلِّمت لنتنياهو في 25 يوليو/تموز بوصفها “مسودةً خاصةً” تحت عنوان “إطارٍ لوقف إطلاقِ نارٍ إنساني في غزة”، اقترح كيري وقف إطلاق النار من الجانبين، مدة أسبوع، ابتداءً من يوم 27 يوليو/ تموز. وبعد 48 ساعة من دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، توجه القاهرة دعوة إلى إسرائيل والفصائل الفلسطينية للدخول في مفاوضات حول “وقف إطلاقِ نارٍ مستدامٍ” و”حلٍ دائمٍ” لما وصفتها الوثيقة بـ “الأزمة في غزة”، وبما يتضمن ترتيبات لفتح المعابر، والسماح بدخول البضائع وحركة الناس، وضمان الأحوال المعيشية والاجتماعية لسكان غزة، فضلًا عن السماح بتحويل الأموال إلى غزة، لدفع رواتب الموظفين العموميين. كما أشارت الوثيقة المسربة إلى أنه، خلال “وقف إطلاق النار الإنساني”، ستمتنع الأطراف كلها عن القيام بأي عمليات عسكرية أو أمنية، تستهدف الطرف الآخر، كما أنها ستسمح بإيصال المساعدات الإنسانية، والتي تتضمن، من دون أن تكون مقتصرة على، الطعام والدواء والمأوى للفلسطينيين في غزة. وأكدت وثيقة كيري أنّ أعضاء الأسرة الدولية، وتحديدًا الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وقطر وتركيا وغيرهم، سيدعمون أيّ وقف لإطلاق النار بين الطرفين، وسيساهمون في المبادرات الإنسانية للاستجابة للحاجات العاجلة لشعب غزة.
وفي مقابل ذلك، أشارت وثيقة كيري إلى أنّ المفاوضات المقترحة في القاهرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بدعوة مصرية، “ستناقش كلّ القضايا الأمنية”. وكان الرهان الأميركي على أنّ العبارة الأخيرة: “ستناقش كل القضايا الأمنية”، بالإضافة إلى الإحالتين السابقتين لـ “وقف إطلاقِ نارٍ مستدامٍ” و”حلٍ دائمٍ”، يمكن أن تسهم، مجتمعةً، في تجاوز أي اعتراضات أو عقبات من إسرائيل وحركة حماس. فحسب منطق مساعدي كيري، عند تقديمهم الوثيقة، قد تقرأ حماس مثل هذه الإحالات على أنها تتضمن رفع الحصار عن قطاع غزة، في حين يمكن لإسرائيل أن تقرأها على أنها دعوة لنزع سلاح المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة.
لكنّ إسرائيل رفضت المبادرة، واعتبرت أنها تساوي بينها وبين حماس في الخطاب والمطالب. وأبدت امتعاضًا كبيرًا، وخصوصاً لجهة عدم إشارة مقترحات كيري إلى مسألة أنفاق المقاومة الفلسطينية، والتي كان لها دور كبير في إحداث إصابات في صفوف جيش الاحتلال الإسرائيلي، على الرغم من أنّ الوثيقة لم تشر، أصلًا، إلى ضرورة توقف إسرائيل عن البحث عن هذه الأنفاق وهدمها في فترة التهدئة الأولية التي تقترحها مدة أسبوع.
تمثلت المعضلة الأخرى التي واجهها كيري، في هذا السياق، في ضغط مصر وحلفائها من دول “الاعتدال” العربية عليه لعدم “إنقاذ” حماس من “ورطتها”، وضرورة الإصرار على المبادرة المصرية، والتي هي، في حقيقتها، وثيقة استسلام ينبغي فرضها على المقاومة الفلسطينية. ومما زاد في استفزاز القاهرة اجتماع باريس الذي ضم في 26 يوليو/ تموز، بالإضافة إلى كيري، وزراء خارجية كل من فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا وقطر وتركيا، إضافة إلى وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي، ولم تُدعَ له إسرائيل ولا مصر ولا حتى السلطة الوطنية الفلسطينية. وبرّرت واشنطن دعوة قطر وتركيا بحاجتها إلى قنوات اتصال مع حماس. وعلى الرغم من أنّ الأميركيين ظلّوا يشددون على “الدور المركزي” لمصر في جهد “التهدئة”، وعلى أنّ المبادرة المصرية تشكِّل الإطار للمقترحات الأميركية، فذلك لم يغيّر موقف مصر ولا إسرائيل. فالمبادرة المصرية تقدّم لإسرائيل أكثر مما تقدمه المقترحات الأميركية، كما أنها تعزّز جهد نظام الرئيس السيسي في حربه على جماعة الإخوان المسلمين، والتي تعدّ حماس، برأي القاهرة، أحد امتداداتها. ولذلك، لم يكن مستغرباً أن نقرأ في الإعلام الأميركي أنّ إسرائيل ومصر هما من أخّرتا قدوم كيري إلى المنطقة أسبوعين، بعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، على أساس أنّ مصر تتولى مسألة “الوساطة” بين الطرفين. بل إنّ السفير الإسرائيلي السابق في أميركا، مايكل أورين، لم يتردّد عشية إعلان كيري نيته زيارة المنطقة في القول إنّ الأخير “غير مدعوٍ” للمحادثات بشأن مبادرات التهدئة في غزة، منتقدًا إدارة أوباما، بسبب ما وصفه توتر علاقاتها مع مصر وإسرائيل، وموقفها من “الربيع العربي”، وتحميلها إسرائيل مسؤولية انهيار المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية في إبريل/ نيسان الماضي.
“لم يكن مستغرباً أن نقرأ في الإعلام الأميركي أنّ إسرائيل ومصر هما من أخّرتا قدوم كيري إلى المنطقة أسبوعين، بعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، على أساس أنّ مصر تتولى مسألة “الوساطة” بين الطرفين.”
آفاق التسوية واحتمالاتها
في ضوء تصاعد التكلفة البشرية المترتبة على العدوان الإسرائيلي، وامتعاض الرأي العام الدولي جراء ذلك، وعجز إسرائيل عن حسم المعركة التي بدأتها أو إنهائها بشروطها أمام بسالة المقاومة الفلسطينية، وعجز مصر عن إخضاع المقاومة الفلسطينية لشروطها، خصوصًا بعد تبني السلطة الفلسطينية في رام الله مطالب المقاومة، واعتبار معركة غزة معركة الشعب الفلسطيني كله، فمن المتوقع أن تسعى الولايات المتحدة إلى الضغط على الجانب المصري، لإجراء تعديلات على مبادرته، بالتعاون مع كلٍ من قطر وتركيا، في محاولة للاستجابة لبعض شروط حماس. وسيكون هذا ممكنًا فقط لحفظ ماء الوجه لمصر، ودعم نظامها، كي يبدو أنّ ذلك كله قد لبّى رغباتها. وضمن هذا السياق، من المتوقع أن تضغط الولايات المتحدة لتخفيف الحصار على قطاع غزة، ووضع آلية جديدة لفتح معابره مع الخارج. وقد يساهم في تسهيل ذلك حقيقة أنّ ثمة حكومة “وحدة وطنية” فلسطينية كانت حركتا فتح وحماس قد توصلتا إليها في إبريل/نيسان الماضي، وقبلت بها إدارة أوباما ضمنًا، بوصفها حكومة الرئيس محمود عباس. لذلك، وبغض النظر عن التفاصيل، إنّ أي اتفاق هدنة لن يكون المبادرة المصرية نفسها بمضامينها الحالية، وإن كانت ستبقى تشكل إطاره العام، بحيث تجري الاستجابة لبعض شروط المقاومة، وإن كانت محاباة إسرائيل ستكون أكبر.
على المدى البعيد، لن يكون هذا الاتفاق أكثر من هدنة مؤقتة، قبل انفجار الوضع من جديد؛ فما دام الاحتلال الإسرائيلي مستمرًا، والوضع العربي متشرذمًا ومترهلًا، وبعض أنظمته متواطئة، وما دامت الولايات المتحدة تتعامل بمنطق “إطفاء الحرائق”، وعاجزة عن الضغط على إسرائيل، ومنحازة إليها دائمًا، فإنّ جميع أسباب الانفجار المقبل ستبقى قائمة ومتوافرة.