صفحات سوريةهيثم مناع

في ذكرى استشهاد معن العودات الثالثة/ هيثم مناع

 

ابتعدتُ عن الإعلام والشبكة الاجتماعية منذ أيار/مايو 2014 مؤثراً العمل الصامت بعدما صار المشهد الإعلامي جزءاً من آلة الترويج للعنف الأعمى الذي يسود سوريا والمنطقة. وبرغم كل النداءات من أحبة ومخلصين يستفسرون عن هذا الغياب، آثرت الاحتفاظ بحصتي من الرصانة، في يوم صار الابتذال فيه سنّة، والكذب من عاديات الأمور. والحقيقة أن مأساوية الأوضاع فاقت في بلاغتها الكلمات… وماذا تعني الكلمة يوم يصبح العهر جزءاً من بقايا ممارسات سياسية همّشتها بقع الدم والدمار. وحتى عندما خاض بنيامين نتنياهو حربه القذرة على أحبائي وأهلي في قطاع غزة، سعيت للوقوف معهم، حيث تمكنت، من دون ظهور. فالمرارة كبيرة وشموس الألم والمرارة لا تغطى بغربال. فهل جال ببال الشهيد معن وكل شهداء الحراك المدني الشعبي الذي انطلق في درعا في 18/3/2011 أنه في اللحظة التي تهدم فيها قوى الاحتلال الإسرائيلي مشافي غزة ومدارسها ومساجدها، ثمة من يرسل جرحى للعلاج عند نتنياهو؟ كيف للمرء أن يتحدث وبماذا يتحدث؟ الشعب الفلسطيني يتعرض في شهر، لهجوم وحشي مجرم، ارتكبت فيه كل محرمات القانون الدولي، ولم نسمع طفلا أو كهلا، رجلا أو امرأة يطالب «الناتو» بالتدخل، فيما سمعنا من سياسيين سوريين يحملون كلمات كبيرة جدا مثل «الثورة» و«الإسلام» و«الديموقراطية» يستنجدون التدخل الخارجي من «أعلى» المنابر.

أخي الحبيب معن، لقد حماك الله يوم استشهادك من رؤية ما لا تطيق وتحتمل. فلم يكن بوسعك أن تسمع من كنت تصنفه بأنظف الإسلاميين في فلسطين (رمضان شلح) يتحدث عن مسقط رأسه (الشجاعية) برأس مرفوع وبعزة غزة، وقرب مثواك الأخير يعربد غرباء القرون الوسطى، في أم المياذن باسم الدين ونصرة الشعب السوري.

قالت لي شقيقتنا الصغيرة قبل أيام: «برغم عمق أوجاعي بخسارة أخي وأمي وأبي، أعزي النفس بالقول، فقدتهم وهم كبار وشعب سوريا كبير وأمل التغيير أكبر. لقد حماهم الله من المأساة التي نراها ونعيشها».

ما من وسيلة للقمع الوحشي للنظام إلا وعرفتَها.. وما من قبو من أقبية الأمن إلا وزرته. واجهتَ الرصاص مع صحبك وأنتم تحاولون بصدوركم العارية إيصال الغذاء والدواء لدرعا المحاصرة. في 140 يوما اكتشفت السجن والتعذيب والملاحقة والتخفي وكل أشكال المقاومة المدنية السلمية مع صحبك، قبل أن تعطيك رصاصة الاغتيال شرف الشهادة… وبقيت تصرخ: «سلمية ولو قتلوا كل يوم مية». «طالبناهم بالإصلاح واجهونا بالسلاح… ما في بحوران عصابات، وإرهاب ومؤامرات». قدّمَت الديكتاتورية وأنتم تناضلون بمدنية وشموخ أسوأ ما عندها… وأبيتم إلا أن تقدموا أجمل ما في الإنسان من طموح للانعتاق. كان اغتيالك واغتيال من حمل صوت التغيير السلمي من أجل الكرامة والحرية يا أخي ضروريا لفتح الباب لأسوأ ما تحمل الثورة المضادة، في يوم هزت القيم الثورية كل العروش وكل معالم النظام القديم. كنتم معا من كل الملل والنحل تحت راية واحدة اسمها المواطنة. وكيف يمكن لعالم الطغاة والرعايا أن يتحمل ما كنتم فيه تتحدثون. كانت المؤامرة تنسج خيوطها للخلاص منكم وسقط في الشباك من سقط. بعضهم ممن سألتني عنه يوم اجتماع الدوحة قبيل استشهادك بأيام. ما زلت أذكر ما قلته لي بالحرف: «يجب أن يعود للبلد كل من شارك من الداخل. وإن شاء الله تعود مع الآخرين بأقرب فرصة. لا نريد معارضة في الخارج… الشباب الذين هربوا للأردن لا يفيدوننا بشيء». كان النظام قد أطلق سراح معتقلي صيدنايا من السلفيين، وكان التكفيريون يتسللون للبلد. بدأ شهر رمضان يومها بهجوم كاسح لقوات النظام على المسيرات السلمية في درعا وحماه ودير الزور وحمص واستثمر المتطرفون الأمر ليعلنوا الحرب، ليس على النظام، بل على منطلقات الشباب الثائر. كنا في جلسة عزاء بك يا أخي في العاشر من آب يوم أطلقوا (نعم للعنف، نعم للطائفية ونعم للتدخل الغربي) ردا على لاءاتنا الثلاث. وبعد أسبوع بالضبط استضافت قناة «الجزيرة» ستة عشر سورياً كلهم من الإسلاميين. بدأ الحصار على الحراك المدني باغتيالاتكم وترك العنان لكل المتطرفين. وإلا كيف يمكن الحديث عن مؤامرة كونية ومطالبكم بالكرامة والعدالة الاجتماعية والديموقراطية لكل السوريين يسمع صداها في عموم المعمورة؟

المؤلم في الأمر كان في السقوط المريع لبعض من وثقنا بهم. وتعاملنا معهم كرفاق وإخوة مصير.

ماذا أقول لك وقد قدمت وصحبك كل ما تملكون من أجل نجاح الحركة المدنية في يومٍ صار المال السياسي بوصلة النضال في فنادق النجوم الخمسة. هل أحدثك عن صفقات الانضمام لهذا الجسم المكون في اسطنبول أو ذاك المعمّد في الدوحة؟ هل سمعت بقيادة «الفور سيزون» في عمان ومن يعين في تركيا قيادة الأركان ومن يعطي صكوك التمثيل للثورة والشعب والغفران؟ هل وصلتك أخبار البراميل المتفجرة ومدفع جهنم؟ لقد صار لدينا بحمد الله لواء اسمه أبو الفضل العباس وهو مع الشبيحة، ولواء آخر شاشاني وقد اصطف مع «داعش». هل وصلتكم أخبار أبو البراء البلجيكي وأبو لقمان الألماني وأبو حذيفة الكويتي وأبو حجامة السعودي وكتيبة حمد؟ ألم تصلك صور الرؤوس المقطوعة والسيوف المرفوعة وأناشيد الفن الجهادي… أخي الحبيب لقد حرمتك الشهادة من رؤية قدماء الضباط في جيش صدام يحملون راية الإسلام، ويعلنون قيام الخلافة الإسلامية على نهج النبوة المحمدية. لقد حطموا كل التماثيل وليس فقط تمثال الأسد الذي حطمتموه في درعا، ولم ينسوا من «فضلهم» مقامات الأنبياء. وعاهدوا الله على تحطيم تمثال يوسف العظمة يوم دخول عاصمة الأمويين.

أخي الحبيب معن، نحن في سوريا بخير طمنونا عنكم.

من يقتل شعبه خائن.. كنتم تقولون.. الدم السوري مقدس.. كنتم تكررون: واحد واحد واحد الشعب السوري واحد… عزيزي معن، ما زال الشعب السوري واحدا لكن، في المأساة. وقد صار من الضروري معرفة المذهب والطائفة لتحديد مع أي واحد أنت؟

حافظنا على قيمكم النبيلة وسنخلص دائما لها. ولكن ماذا نقول لإخوتنا المسيحيين وهم يرحّلون من الموصل؟ من حسن حظك يا أخي لم تر معلولا وصدد وكسب ولم تسمع مشعوذا «ديموقراطيا» يتحدث عن استضافة الراهبات لحمايتهن في يبرود 24 ساعة؟ سألتني عن عبد العزيز الخير آخر مرة.. لقد اختطفه الفرع الذي خطفك على حاجز المطار في 20/9/2012 وما زال مصيره مجهولا مع إياس عياش وماهر طحان. كذلك حال رجاء الناصر وآلاف المناضلين.

«جماعتي» كما تسميهم (نشطاء حقوق الإنسان) أيضا يستفيدون من فضائل رفع حالة الطوارئ وراء القضبان. خليل معتوق ومازن درويش وزملاؤه متهمون بدعم الإرهاب التكفيري. لا تستغرب ذلك، ففي دوما، جرى أيضا اختطاف رزان زيتونة وسميرة الخليل وزملائهما من قبل التكفيريين. ولا أخفيك أننا نخجل من ممارسات بعض الحقوقيين. منهم من أعمته الدولارات ومنهم من تحول لخدّام على أبواب السفارات.

اليوم يا أخي قصف الأحياء المدنية والعمليات الانتحارية تستهدف المدنيين باسم الثورة وقصف المدن يستهدف المدنيين أيضا باسم القضاء على الإرهاب. وأرخص ما في سوريا اليوم هو الإنسان. خرج أبناء الريف دعماً لمدينة درعا يهتفون «الموت ولا المذلة».. الشعب السوري يعيش يا أخي اليوم في المذلة والموت.

ماذا أقول لك… هناك شبيبة في المعتقلات وفي المخيمات ومراكز اللجوء وأشباه البيوت يقاومون هذا العنف الأعمى.. وهناك من يتظاهر ضد الدواعش ويدفع الثمن بالجلد أو الصلب… وقد دخلت سوريا موسوعة غينيس بأعلى رقم لعدد المعتقلين برغم صدور «عشرين» عفواً رئاسياً. وما زلنا في موضوع الرئاسة، لقد نجحت السلطات المعنية في إنجاح انتخابات رئاسية بصناديق اقتراع ترتدي قبعة الإخفاء. وصار السوري اليوم يصوّت غيابيا ومن دون وكالة أو وكيل. ففي بصرى الشام صوّت للرئيس (الرئيس الذي تعرفه لم يتغير) نال 16 ألف صوت وعدد من بقي في المدينة اليوم أقل من ستة آلاف.

هذه الصورة القاتمة لن تستمر طويلا. فالدم لا يصنع التاريخ ولا الجغرافيا.. وتجار الحروب لا يمكن أن يستمروا في بغيهم وقتلهم ونهبهم للبلد والناس. هناك حالة وعي جديدة تعود بقوة لكي ترفع اسم معن وجهاد وإياس وخليل وعبد العزيز ورجاء في مواجهة شذاذ الآفاق الجدد حملة أفيون التكفير وجراد الغلو المختبئ وراء سمو الروح لتغطية غرائز الجنس والمال والسلطة بثوب طهراني خادع.

معركتنا اليوم أصعب يا أخي ولكن لن نيأس ولن نترك الوطن والإنسان لمحترفي الجريمة… لقد دفع السوريون من التضحيات ما لم يدفع شعب، في كل بيتٍ جندي أو مدني أو مقاوم أو طفل شهيد… لقد وحّد الموت السوريين وآن الأوان لكي يستعيدوا وحدتهم في الحياة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى