الاعتدال السنّي وتقليص التطرف الشيعي/ منير الخطيب
تنتمي المنظومتان الخمينية والقاعدية معاً إلى مرحلة الثمانينات من القرن الماضي، وإلى السياقات الأيديولوجية- السياسية والمجتمعية ذاتها التي نجمت عن إفلاس «دولة» ما بعد الاستقلال، واجتثاث مظاهر «الحداثة» السطحية التي وفدت إلى مجتمعاتنا بعد ارتسام حدود سايكس- بيكو. وإن كانت المنظومة القاعدية أقدم زمنياً، إذ تمتد جذورها إلى السلفية التي خرجت من عباءة الإمام محمد عبده، فقد ارتبط صعودهما بشروط الحرب الباردة وظروفها، وما نجم عنها من عمليات توظيف أو احتواء أو دعم لكلتا المنظومتين.
وعلى رغم أن الإعلام يركز على التطرف بشقه السنّي، وبخاصة بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر)، كان اختراق الخمينية للمشرق العربي في العقود الثلاثة الماضية من الأسباب التي عززت التطرف السنّي، بما في ذلك الحرب العراقية- الإيرانية، ذات النتائج الكارثية على الشعبين العراقي والإيراني. صحيح أن صدام حسين هو من بدأها، لكن الصحيح أيضاً أن العراق الصدامي كان في موقع الهجوم تكتيكياً وعسكرياً، ولكنه في الباطن كان في موقع الدفاع على المستوى الاستراتيجي أمام شعارات تصدير الثورة الإيرانية. في المقابل، كانت إيران في موقع الدفاع تكتيكياً وعسكرياً، لكنها كانت في موقع الهجوم أيديولوجياً واستراتيجياً، وكان بإمكان الخميني أن «يتجرع السم» في سنة الحرب الأولى، بدل أن ينتظر ثماني سنوات، حتى كوت الحرب بنارها الشعبين العراقي والإيراني.
صاقب اتجاه التاريخ، خلال العقود الثلاثة الماضية، اتجاه الاندفاع الإيراني نحو المشرق العربي. فلعبت تغيرات كبرى لمصلحة هذا الاندفاع، يمكن أن نذكر منها: انكفاء مصر بعد اتفاقيات كامب- ديفيد، والحرب الطائفية اللبنانية في تداخلها مع دخول القوات السورية إلى لبنان عام 1976، ومع الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، وما نجم عن ذلك من إعادة تشكيل للتوازنات الطائفية في لبنان، بحيث، صار «حزب الله» ممسكاً بالوضع اللبناني بدعم إيراني مطلق. وتراكب الدور الإقليمي السوري مع عملية التوسع الإيرانية في الإقليم، وما سببته الرعونة الصدامية باجتياح الكويت من فتح مسار حصار العراق وصولاً إلى الاجتياح الأميركي عام 2003، الذي حول العراق إلى حديقة أمامية لإيران، من دون أن ننسى المسألة الحوثية المتفجرة في اليمن، ووضع الشيعة المحتقن في الخليج، وبخاصة في البحرين، وكذلك الانقسام الفصائلي الفلسطيني، الذي كان موضع استثمار إيراني مهم.
شكلت ثلاثة عناصر رئيسة محتوى السياسة الإيرانية في الإقليم، هي: أولاً- العنصر الإمبريالي المرتبط بالشوفينية القومية والعصبية المذهبية والنزعة التوسعية الامبراطورية. ثانياً- العنصر المذهبي الذي استثمر في البنى المجتمعية المفككة لبلدان المشرق العربي. ثالثاً- العنصر الأيديولوجي، وتمثل بـ «تشليح» العرب جلباب القضية الفلسطينية، ومارس هذا العنصر دور القناع للعنصرين الآخرين، بهدف تلطيف عملية السيطرة والاستتباع. لكن سرعان ما ظهر «مكر التاريخ» في وجه الإيرانيين، وبدأ القناع الأيديولوجي يتهتك بوتيرة مطردة، ليصبح العنصران الإمبريالي والمذهبي عاريين من أي شرعية أيديولوجية. وشكّل اغتيال الحريري وما تلاه، وعلى الأخص اجتياح «حزب الله» بيروت الغربية والجبل في ما عرف بـ»غزوة 7 أيار»، مفصلاً مهماً في مسار تهتك هذا القناع. ثم، جاء وقوف إيران المطلق خلف النظام السوري ودفعها «حزب الله» إلى القتال في سورية، ووقوفها وراء سياسات المالكي المذهبية، ومشاركة الميليشيات الشيعية في الحرب في مواجهة السنّة السوريين والعراقيين، ليضع كل ذلك إيران في موقع القوة الإمبريالية الغازية، ويضع ملاحقها من الأنظمة والميليشيات والطوائف في موقع التابع لهذه القوة الغازية.
إن العنصرين الإمبريالي والمذهبي في السياسة الإيرانية هما ما جعل السنّة في الإقليم يشعرون بالغبن والغلبة، وهذا الشعور، يشكل موقد النزاعات المذهبية، وكانا أيضاً وراء تصفية آثار ونتائج انتصار العشائر السنية في العراق على تنظيم القاعدة، وكانا من الأسباب المباشرة في التحاق التجربة البعثية في فرعها العراقي بالداعشية، والتحاق فرعها السوري بالخمينية. لذا، فإن بداية تحرير الاعتدال السنّي المحتجز تكون بتقليص التطرف الشيعي. فلن يســتطيع الشيعة تشييع السنّة، ولن يستطيع السنّة تسنين الشيعة، وسيبقى الجميع أبناء أوطان واحدة حتى فناء النوع البشري، وستبقى إيران جارتنا، تربطنا بها علاقات الجوار والتاريخ والدين المشترك، وفي هذه البلدان من الثروات والطاقات والإمكانات ما يؤهلها أن تكون أفضل بقاع الأرض، شرط إقامة الحد على التطرف بكل أشكاله الطائفية والمذهبية والقومية.
* كاتب سوري
الحياة