سورية: المسكوت عنه في خطاب الرئيس
د. عبد الباسط سيدا
وانتظر السوريون الرئيس للمرة الثالثة منذ بداية ثورة الكرامة السورية التي دخلت شهرها الرابع قبل أيام؛ وقد تأخر هذه المرة أكثر من شهرين، كانت المدن والبلدات السورية خلالها عرضة لكل أنواع القتل والتجاوزات والاعتقالات من قبل وحدات من الجيش والأجهزة الأمنية وشبيحة السلطة. وقد سوّغ عدم ظهوره كل هذه المدة برغبته في التحدث عن المنجز، أو ما هو في طريقه نحو الانجاز، وذلك تحاشياً لإطلاق الوعود بشأن ما سينجز، على حد تعبيره.
لكن المتابع العادي، هذا ناهيك عن المدقق المتمعن، يدرك – من دون أي جهد- أن الرئيس كان يراهن مع مجموعة القرار في سورية على نجاح الحل الأمني في إرغام الناس على العودة مجدداً إلى دائرة الخوف والخنوع، والإقرار بسلطة الأمر الواقع المفروضة عليهم منذ عقود. ولكن لما بيّن استحالة إجبار الشعب السوري بكل مكوناته على العودة إلى القمقم ثانية، جاء الرئيس ليلقي خطابه الإنشائي الطويل الممل؛ خطاب خلط الحابل بالنابل، حاول صاحبه إعطاء انطباع زائف لغير المطلع على الشأن السوري بأن الرئيس هو بالفعل في طريقه نحو الإصلاح الحقيقي؛ وكل ما يحتاج إليه هو بعض الوقت والجهد، بالإضافة إلى الدعم الشعبي، ليتمكن من قيادة سورية نحو شاطئ الأمان.
وحتى لا نظلم الرجل، لا بد من الاعتراف بأن هذا الخطاب كان متقدماً من جهة الشكل على الخطابين السابقين؛ ولا غرابة في الأمر، طالما أن أنهاراً من الدماء، وجبالا من الآلام والعذابات تفصل بينه وبينهما.
الأمر الإيجابي في الخطاب الثالث هو إقرار الرئيس بوجود ما يشبه الأزمة في سورية – وفق وجهة نظره بطبيعة الحال – ولكن من دون تشخيص الأزمة كما هي فعلاً، وهذا فحواه الإصرار على التهرب من الاستحقاقات. فالرئيس لم يتجرأ على الاعتراف بوجود أزمة بنيوية عميقة تتصل بماهية النظام نفسه وهيكليته. كما أنه تجاهل واقع أن ما يدعو إليه الشعب السوري لا يتعدى مجرد مطالب وحاجات يريد أصحابها أن تقوم الدولة بتلبيتها. وحقيقة لا نعلم عن أية دولة يتحدث الرئيس، وهو يعرف – قبل غيره – آلية اتخاذ القرار في سورية، بعيداً عن المؤسسات الكلاسيكية التي من المفروض ان الدولة تقوم عليها، ونعني بها مجلس الشعب، ومجلس الوزراء، والمجلس الأعلى للقضاء.
ولكن إذا تركنا هذه الإيجابية الجزئية الشكلية جانباً، نرى أن الرئيس سرعان ما عاد مجددا إلى سياسة توجيه الاتهامات، ومحاولة إقناع الذات – قبل السوريين والعالم- بأن ما يجري إما هو بفعل الخارجين على القانون؛ أو بفعل أصحاب الفكر المتطرف والتكفيري، وأكد أن هذه المجموعة الأخيرة هي الأخطر على الرغم من صغر حجمها التي قال عنها: أننا اختبرناها منذ عقود وتخلصنا منها بفضل وعي الشعب وحكمته.
وهنا من الواضح أنه يشير إلى جماعة الإخوان المسلمين التي أعلن النظام عليها حرباً ضروسا في الثمانينات، وارتكب خلالها مجازر حماة، وأخرى في جسر الشغور، وهي المجازر التي ما زالت تبعاتها تلاحق بطانته، وتجعلهم يرتعدون هلعاً لدى مجرد تفكيرهم بفاتورة الحساب.
ويقر الرئيس بان هذا الفكر تغيّر بعض الشيء، لكنه – وفق ما يذهب إليه – تغيير في الشكل دون المضمون؛ ويتهم أصحاب هذا الفكر بأنهم شوهوا صورة الوطن خارجياً، وفتحوا الأبواب، بل دعوا إلى تدخل خارجي، وهنا لا بد للمرء أن يتساءل: من الذي شوه بالفعل صورة الوطن؟ أهم أصحاب الفكر التكفيري – كما يسميهم في خطابه- أم أن أدوات القمع السلطوي هي التي شوهت الصورة المعنية، كما شوهت – وما زالت تشوه – نفسية وجسد الإنسان السوري؟ وبمناسبة الحديث عن الفكر التكفيري، يبدو أن الرئيس يتجاهل التمايزات الموجودة بين الحركات الإسلامية، ليختار من جانبه أشد وجوهها تطرفاً، بغية إلصاق التهمة بجماعة الإخوان المسلمين، التي هي في نهاية المطاف حزب وطني سوري سياسي، يؤمن بالعمل الوطني، ويقر بالدولة المدنية. أما الجماعات التكفيرية التي يتحدث عنها، فهي التي كانت – وربما ما زالت – تقيم أوثق العلاقات مع الأجهزة الأمنية السورية، خاصة في مرحلة تصدير فرق القتل إلى العراق.
ويتابع الرئيس خطابه موضوع البحث هنا، ويضيف: إن ‘أصحاب الفكر المتطرف هؤلاء هم الذين عملوا على استحضار خطاب مذهبي مقيت لا ينتمي إلينا ولا ننتمي إليه، ولا نرى فيه سوى التعبير عن فكر قبيح، حاشى ديننا وتاريخنا وتقاليدنا أن تربط به….’.
كلام مقبول بالنسبة إلى غير المطلع على الواقع السوري، وعلى ألاعيب مجموعة القرار التي تدير السلطة السورية؛ هذه المجموعة التي استولت على السلطة بالسلاح تحت شعارات قومية كبرى، ولكنها ما أن تمكنت من الإمساك بمفاصل الدولة والمجتمع، حتى عملت في الوطن تقسيماً وتفتيتاً بين ولاءات بدائية لا تتقاطع البتة مع الولاء الوطني السوري العام، الذي من المستوجب أن يكون موضع اعتزازنا جميعاً. فالسلطة ذاتها هي التي اختارت الطائفة لتتمترس خلفها، ولتغرقها في أوحال شراهتها وجشعها، حتى غدت الطائفة العلوية الكريمة – وهي جزء عضوي فاعل من النسيج الوطني السوري الذي نتباهى بتنوعه وتميزه – في وضع لا تُحسد عليه. سلطة تتخذ منها وقوداً لتسلطها؛ وغالبية تعاتبها لسكوتها وسلبيتها إزاء جرائم رؤساء الأجهزة القمعية والوحدات المختارة من الجيش، كونهم ينتمون في غالبيتهم إليها، وذلك بناء على حسابات خاصة بمجموعة القرار. وبطبيعة الحال فإن الاقدام على أعمال القتل والإذلال والإهانة والملاحقة والاعتقال بصورة منهجية في المدن والبلدات السورية المنتفضة يُحدث شرخاً – شعبويا إذا صح التعبير- بين مكونات المجتمع السوري، شرخ تسعى السلطة من أجل ترسيخه وتعميقه في إطار لعبتها القديمة – الجديدة، ومحورها ضرب المكونات السورية بعضها ببعض، حتى تتمكن من الاستمرار في الحكم والتسلط. ومن هنا فإننا نرى أن ما هدد به الرئيس في خطابه – ونعني بذلك مسألة الطائفية والمذهبية – إنما هو في أساسه جزء من إستراتيجية السلطة المعنية. وهي الإستراتيجية التي نبذها شعبنا باستمرار، وأعلنت ثورة الكرامة السورية إدانتها لها بوضوح وقوة عبر شعارها الوطني المعبر: ‘واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد’، وذلك في سعي أكيد هدفه القطع مع الذهنية الطائفية التي تمارسها السلطة وتكرسها في الداخل السوري، الأمر الذي يتناقض بالمطلق مع المصالح الوطنية العليا السورية التي تراعي بطبيعة الحال خصوصيات المكونات المجتمعية بجوانبها المختلفة.
وبعيداً عن الطائفية البغيضة المقيتة، يُلاحظ أن ما تحكّم بخطاب الرئيس هو تناقض أساسي تجسد في اتهام المتظاهرين من جهة بأنهم ينفذون أجندة خارجية، ويقبضون مقابل ذلك من الخارج. لكنه من جهة أخرى اعترف بأن التركة ثقيلة يمتد تاريخها إلى خمسين سنة مضت، وهي مدة حكم حزب البعث في سورية، وأقر بضرورة الإصلاح، ووعد بالحزمة ذاتها من الإصلاحات التي بشرنا بها منذ بداية الثورة. وهي إصلاحات – إذا كانت جادة كما يطالب بها الشعب – ستؤدي إلى تغيير بنـــية النـــظام. تحدث عن قانون الأحزاب، وتعديل قانون الانتخاب، وعن عصرنة الإعلام، ومكافحة الفساد وتغيير الدستور والنظام الاقتصادي…الخ، وفي ذلك كله إقرار ضمني بضرورة تغيير بنية النظام بصورة جذرية.
لكن اللافت الغريب في الخطاب المعني، أن صاحبه، وهو رئيس البلاد، والقائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة، ورئيس مجلس الأمن القومي.. الخ لم يلتزم بصراحة قطعية بضرورة وقف أعمال القتل والتعذيب والملاحقة بحق المتظاهرين السلميين من جانب قوات السلطة؛ ولم يتحدث عن ضرورة معالجة وضع الأجهزة الأمنية من جهة إبعادها عن الدولة والمجتمع، وتفكيكها، كونها مجرد إمارات سلطوية تستهلك طاقات البلد وتقمع تطلعات المواطنين في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية؛ وهذا فحواه أن مصطلح الدولة الذي شدد عليه الرئيس – لتيّقنه من عدم وجود دولة بالمعنى المتعارف عليه قانونياً في سورية – كان المعني به الدولة الشكلية التزيينية التي تظهر أمام وسائل الإعلام، وتخاطب العالم الخارجي؛ في حين أن الدولة العميقة التي يتحكم بمفاصلها الأمراء اللامرئيون هي الدولة الفعلية التي يبدو أن الرئيس تحاشى ذكرها، أو حتى مجرد تناول فكرة الحد من سلطانها. أما قوله بأن ‘الشيء الطبيعي هو أن يتعامل مع المواطن جهاز الشرطة والقضاء’، فهو قول يتناقض بالمطلق مع بنية السلطة التي أسس لها الأسد الأب، وتعامل معها الأسد الاين من دون أي تغيير، على الرغم من مضي أحد عشر عاماً على حكمه. فالسلطة المعنية تقوم على الأجهزة القمعية التي لا تخضع لأية مساءلة أو محاسبة، وذلك بناء على قواعد وضعت على مقاسها، وهذه الأجهزة هي التي تختار المسؤولين في الدولة والمجتمع من القمة إلى القاعدة بما يتناسب مع مصالحها. هذا في حين أن جهاز الشرطة بات موضعاً للتندر والسخرية من قبل السلطة ذاتها قبل المواطنين.
من جهة أخرى، يبدو أن الرئيس يحسب حسابه ليحكم سنوات طويلة؛ ولذلك فهو قلق على مصير الأطفال الذين عاشوا أيام الثورة، فهؤلاء سيمثلون مشكلة مستقبلا، لأنهم لن يكونوا موالين مثل أولئك الذين تخرجهم دورات الطلائع والشبيبة والصاعقة، وبالتالي لن يكون التعامل معهم سهلاً كما يرغب الرئيس.
ولم ينس الرئيس الدعوة إلى إصلاح المخـــربين أو عزلهم، ويبدو أن مصطلح المخرب هو الآخر هلامي ضبابي لدى الرئيس، وذلك تبعاً لأهواء وفبركات الزمرة اللامرئية المحيطة به. فيبدو أن كل مطالب جاد بالحرية والكرامة إنما هو مخرب حتى يثبت العكس.
إن طول الخطاب، وأسلوبه الإنشائي، وإغراقه في تفاصيل توجيهية مملة، كل ذلك يوحي بأن صاحبه لا يعيش الواقع كما هو، كما أنه لا يدرك أن بلاده تعيش حالة ثورية استـــــثنائية لم تشهدها قط؛ حالة جرّب معها الحل الأمني على مدى أكثر من ثلاثة أشهر وأخفق بصورة كارثية؛ وهو يحاول أن يجرّب حلاً مختلطاً يجمع بين السياسي والأمني. فهو من ناحية يعد بحزمة من الإصلاحات المراوغة التضليلية؛ لكنه من ناحية ثانية لا يتخلى عن الحل الأمني؛ وهذا مؤداه أن الإصلاحات المعنية لا مصداقية لها، طالما أن الأجهزة الأمنية القمعية فاعلة، تمارس إجرامها من دون أي رقيب أو حسيب ضد السوريين والسوريات في مختلف المدن والمناطق والبلدات.
لقد كان من المفروض بالرئيس – إذا أراد أن يكون بالفعل رئيساً لكل السوريين من دون استثناء – أن يعتذر للسوريين عن كل الجرائم التي اُقترفت من قبل أجهزة حكمه؛ ويأمر قطعات الجيش بالعودة إلى ثكناتها، ويقوم بحل الأجهزة الأمنية القمعية، ويعمل من أجل تعزيز دور جهاز الشرطة عبر زيادة إمكانياته المادية، ورفع رواتب عناصره، وتحسين مواقعه، ومده بعناصر إضافية مؤهلة نظيفة. والإقرار بالتعددية الحزبية القائمة واقعا، والإعلان الفوري عن تأسيس هيئة مؤقتة موسعة للحكم، تكون بمثابة حكومة وحدة وطنية، تضم الممثلين الحقيقيين لسائر مكونات وشرائح المجتمع السوري، وذلك بعد حل مجلس الشعب والحكومة. تقوم هيئة الحكم المعنية بتسيير أمور البلاد خلال المرحلة الانتقالية إلى حين كتابة دستور جديد، وعرضه بكل شفافية على الاستفتاء الشعبي العام، ليكون من ثم أساساً لانتخابات تشريعية ديمقراطية حقيقة بمراقبة عربية ودولية محايدة، انتخابات تؤدي إلى بروز برلمان يمثل بالفعل – لا بالقول- إرادة السوريين، ومن ثم تتشكل حكومة تحظى بثقة البرلمان، وتكون خاضعة باستمرار للمساءلة والمحاسبة وفق القواعد الديمقراطية المتبعة في سائر الأنظمة الديمقراطية في العالم؛ وكل ذلك يتم بإشراف قضاء سوري وطني نزيه.
إننا إذا شئنا إنقاذ البلد، وإنقاذ شعبنا بكل مكوناته، بكل طوائفه ومذاهبه وقومياته وتوجهاته، علينا أن نختصر الطريق؛ ونبحث عن الأنجع والأسلم، ولدينا الكثير من الكوادر المؤهلة القادرة على إيجاد المخارج للمسائل التي قد تبدو مستعصية اليوم.
الداء الأكبر الذي يعاني منه السوريون جميعاً منذ عقود، يتمثل في السلطة العميقة اللامرئية التي تتحكم بكل شيء، لا تتورع عن أي شيء، ولا تخضع لأي شيء. جوهر الموضوع هو هذا، وكل ما عداه يأتي لاحقاً. وكل الحلول المقترحة من قبل الرئيس بخصوص إمكانية تجاوز الأزمة من دون تناول موضوع الزمرة اللامرئية والأجهزة الأمنية إنما هو في خانة المماحكات اللفظية التي لا تمتلك أية قيمة فعلية.
السوريون قالوا كلمتهم بحزم، ودفعوا ضريبتهم بالدم. تحرروا من عقدة الخوف التي كانت السلطة اللامرئية قد أصّلتها في نفوسهم على مدى عقود. واليوم، وبعد تلاشي هذه العقدة، لم تعد هناك أية قوة قمعية في مقدورها قهر السوريين من جديد. وما يستشف من المعطيات والقرائن هو أن زمرة القرار تحاول بكل السبل تجاهل هذا الموضوع، أو القفز من فوقه. وهي تناور وتماطل على مختلف الجبهات، علها تفلح في الحصول على مدة حكم إضافية؛ ولكنها تنسى، أو تتناسى، أن الأفضل بالنسبة لها ولأبنائها وأحفادها وللسوريين جميعاً، بل وللمنطقة بأسرها، هو الاعتراف صراحة بأن الثورة حقيقية، وأن القديم يحتضر كونه لا ينتمي إلى العصر.
لنجنب شعبنا المزيد من المآسي والعذابات. هذا الشعب الذي أثبت وفق كل المقاييس أنه بات الرمز في ميادين البسالة والإباء؛ شعب جدير بسورية الحضارة والتاريخ والمستقبل. الشعب بدأ ثورته ولن ينتحر في منتصف الطريق، ولن تنطلي عليه الوعود والمجاملات الخاوية من أي مضمون. فالثورة إما أن تنتصر أو تكون الكارثة. والرئيس – انطلاقاً من موقعه وصلاحيات مسؤولياته – إما أن يكون قادراً على قيادة السوريين إلى بر الأمان ليدخل التاريخ من أوسع أبوابه؛ وإما أن يكون غير ذلك؛ وحينئذ عليه أن يعلن عن عجزه ويتنحى. أما إذا استمر بموجب شروط الزمرة اللامرئية – سواء من موقع القادر أو العاجز- فهو يتحمل المسؤولية الأولى والأخيرة أمام الله والتاريخ والشعب.
‘ كاتب سوري مقيم في السويد