شروط الانتقال إلى الديمقراطية
سليمان تقي الدين
يصعب الانتقال إلى الديمقراطية من طريق الحرب الأهلية في مجتمعات تعددية كما هي حال المشرق العربي . كلما توغلنا في العنف كانت النتائج أقرب إلى النموذج اللبناني والنموذج العراقي . نخرج من الاستبداد إلى شكل من الحرية السياسية لكننا لا نوفّر الكثير من مقومات الدولة الحديثة الديمقراطية .
المسؤولية عن العنف هي من دون شك مسؤولية الأنظمة التي تقاوم عملية التغيير، وهي التي تدفع الأمور في المسلك الخطير . لكن ذلك لا يلغي الحاجة لأن تقوم المعارضة بترشيد عملها لاحتواء العنف وتطوير أدائها السياسي . تتقن السلطة المناورة وحين تقدم بعض التنازلات تحاول ضمان استمراريتها . المسألة دائماً مرتبطة بموازين القوى لا بالاعتبارات الأخلاقية . حين تكسب المعارضة شرعية التغيير، وقد كسبتها في كل العالم العربي، عليها أن تعرف كيف تحوّل التغيير إلى مشروع وطني تحتضنه معظم الفئات الشعبية . واجب المعارضة أن تحاور وتفاوض وتناور بالشكل الذي تراه مناسباً لتعزيز حركة التغيير وتعميق مسارها . أحد أهم مناورات السلطة هو الطعن بإمكانات البديل الديمقراطي .
العنف الذي تمارسه يهدف، إضافة إلى قمع وضرب قوى المعارضة، استدراجها إلى الزاوية التي تبدو فيها عبئاً على المجتمع، أي الفوضى بكل وجوهها . الإضرار بالاستقرار والأمن والاقتصاد والممتلكات والحريات والحقوق والتوترات الاجتماعية والأهلية . تنجح المعارضة بمقدار ما تستطيع الحد من الممارسات السلبية وإدارة المواجهة السياسية بذكاء .
انكسرت هيبة النظام الأمني في سوريا رغم كل العنف الذي استخدمه . يقر النظام بالحاجة إلى التغيير وبالعناوين الأساسية لبناء الدولة الحديثة الديمقراطية . يفاوض النظام على شروط التغيير وطبيعته وحدوده . يصنع وقائع ملائمة له كما تفعل المعارضة . المعارضة معنية بأن تحدد موقفها من طروحات النظام وتصورها لمشروع الدولة . ليس مقتنعاً باختصار المسألة في عدم الثقة بالإجراءات والشعار البسيط “على النظام أن يرحل” . النظام انحسرت شرعيته وتراجعت سلطته وهو يفاوض على البديل . البديل هو عقد وطني اجتماعي جديد يرسي قواعد الدولة ويشكل نظامها . لم يكن أي نظام سلطة معلقة في الهواء . لكل نظام قواه السياسية والاجتماعية . التغيير الحقيقي هو بنية السلطة والمصالح لا مجرد تغيير الأشخاص . فشل النظام السوري في إدارة الدولة والمجتمع بدليل ما يحصل الآن . لكنه في الواقع لا يزال يعبر عن مصالح فئة من الناس ليست ثانوية أو هامشية . التغيير معركة صراع بين القوى وليس بين الأفكار والشعارات والبرامج وحدها على أهميتها .
ضعف الاندماج الوطني وضعف المكونات السياسية المؤطرة وطنياً جزء مهم من عملية التغيير بل من أزمة التغيير في مجتمعات تعددية . في كل مكان من العالم على قوى التغيير أن تعطي الآخرين الثقة، ليس النظام بل الجمهور . الهاجس الانقلابي موجود في العالم العربي من إزاحة الاستبداد لمصلحة شكل آخر من الاستبداد . الحذر من ضمانات المشروع الديمقراطي ليس وهماً ولو أنه مبالغ فيه . يضاعف الحذر كون الديمقراطية هي نظام الأكثرية في مجتمعات لا تمتلك بعد كل المعطيات الضرورية للفرز السياسي . هذه مجتمعات تحتاج إلى قدر كبير من الضمانات والتطمينات . لا نتحدث في الإطار النظري أو التوقعات بل في قلب ما يجري من حراك في كل البلدان العربية . الإسلام السياسي “الحركي” إذا تحول إلى سلطة أكثرية مُطالب بأن يقدم تصوره للدولة . الاستبداد الأيديولوجي هو شكل آخر من الاستبداد أشد وأصعب . واقعاً ليس الإسلام السياسي الحركي وحده في الميدان، وليس هو المحظور الوحيد المحتمل أن يؤدي إلى تشوهات في العملية الديمقراطية . كل هوية فئوية أخرى قبلية جهوية طائفية اجتماعية هي مصدر من مصادر السلبية . إعادة تكوين السلطة لا يتم وفق العناوين والمبادئ بل في مجرى التفاوض بين المواقع والمصالح . الخيارات الدستورية والقانونية ليست بريئة وليس هناك من نموذج يؤدي إلى مجتمع العدالة . لا يبحث العرب عن الديمقراطية فقط في صندوق الاقتراع، هم يريدون بنية دولة تستوعب طموحاتهم . أولوية مطلب الحرية والديمقراطية لا تلغي الحاجة إلى التفكير في أي خيار اقتصادي اجتماعي وفي أي سياسات تؤمن الاندماج والوحدة الوطنية، وتؤمن الاستقلال الوطني والتنمية .
أهمية الحدث العربي أنه أخرج الناس من عزوفهم أو استنكافهم أو تهميشهم وكبتهم إلى الشارع . هذا هو الإنجاز الذي لا بديل عنه لكل عمل آخر . لكن لم يعد ممكناً تأجيل الحوار الوطني في كل بلد حول البدائل الملائمة ليس لحاكم بذاته بل للسلطة . ليس الاستبداد ظاهرة فردية وشخصية بل بنية .
ذهب زمن تأجيل مطلب الحرية والديمقراطية باسم أي هدف آخر . تأكد بالتجربة التاريخية أن حرية الشعوب شرط لكل مهمة أخرى والمدخل الطبيعي لإنجاز المطالب الأخرى . نريد البحث عن أفضل شروط بناء الاجتماع السياسي العربي على قواعد سليمة للحرية والديمقراطية، لا خوف ولا إكراه ولا هيمنة . ليس ترفاً فكرياً أن نبحث في المعايير والشروط والظروف التي توفر مقومات الانتقال إلى الديمقراطية . ليس مسألة ثانوية شكل النظام وطبيعة الأحزاب والنظام الانتخابي ولأي أهداف تمثيلية ووطنية . وليس تفصيلاً البحث عن توازن وطني لا يؤدي إلى شكل آخر من التهميش والإقصاء أو يغذي النزاعات الأهلية .