مسيحيو دير الزور.. 100 عام من التهجير القسري
يراقب فادي مجرى نهر الألب في مدينة دريسدن بألمانيا، مساء كل يوم، يجلس في أقرب نقطة لمياه النهر لعل رذاذه ورياحا قادمة من بعيد تعيد له ذكريات ماضٍ دفن تحت التراب على ضفاف نهر الفرات في مدينة دير الزور شرق سورية، والتي هجرها قسراً قبل عامين.
خرج فادي من مدينة دير الزور في حزيران عام 2012 بعد اشتداد القصف من قبل قوات النظام السوري على المدينة التي بات القسم الأكبر منها تحت سيطرة كتائب المعارضة السورية وجبهة النصرة (فرع القاعدة في بلاد الشام).
لجأ حينها فادي رفقة عائلته إلى مدينة الحسكة التي كانت أكثر أمناً وقتها، ومع اقتراب الخطر إلى الحسكة انتقلت عائلة فادي إلى دمشق، في رحلة بحث جديدة عن الآمان الذي غاب عن الكثير من بقاع سورية.
وبعد أكثر من عام ونصف من النزوح، تلقى فادي وعائلته – مثل غيرهم من العوائل المسيحية النازحة من دير الزور – أنباء الاستيلاء على أملاكهم من قبل الجماعات المتطرفة التي سيطرت على المنطقة واعتبارها “غنيمة”، وهو ما أكدته بعض المصادر الخاصة والناشطين من مدينة دير الزور لـ”العربي الجديد”، مما جعل مسألة العودة أمراً في غاية الصعوبة.
يقول فادي لـ”العربي الجديد” لم يخطر ببالي أن المدينة التي حمت آلاف المسيحيين الأرمن من الموت، ولجأوا إليها بعد الهجرة القسرية الأولى التي لحقت بهم من شرق الأناضول بتركيا إلى سورية؛ ستشهد على الهجرة القسرية الثانية لهم بعد نحو مائة عام من ذلك التاريخ.
بالنسبة لفادي وبقية العائلات المسيحية أصبحت الحياة في مدينته مستحيلة بعد أعمال القتل والخطف من قبل اللصوص أو الجماعات المتطرفة.
رسالة واضحة
حاول ملك – اسم مستعار – أو “أبو محمد” كما يحب أصدقاؤه المسلمون أن يلقبّوه، الانضمام إلى قوات المعارضة السورية بعد مشاركته في العديد من الاحتجاجات السلمية في مدينة دير الزور ضد النظام السوري، لكن معارضة قادة الكتائب حالت دون انضمامه.
من أميركا روى ملك لـ”العربي الجديد” قصة هجرته قائلاً: قضيت أيام الطفولة والدراسة مع أصدقائي المسلمين دون أن يكون بيننا أي خلاف، بعد سيطرة الكتائب المتطرفة أصبحت في نظر البعض “خائنا” أو “كافرا”، وعمل تنظيم داعش على تغيير اسم المدينة إلى ولاية “الخير”.
يتابع ملك قائلاً “كانت تلك إشارة واضحة لنا، بأن سورية في الوقت الراهن، أو ربما بعد عشر سنوات، لن تكون مكاناً آمناً”.
العامل الحاسم في تهجير المسيحيين
كان لحادثة اختطاف الأب باولو دالوليو في 29 يوليو/تموز عام 2013 في مدينة الرقة، والتي كان يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بشكل كامل؛ أثر كبير على العوائل المسيحية في سورية عامة وفي شرقها خاصة، فيما أدت آخر المعلومات الواردة من الرقة، والخاصة بمقتل الأب باولو على يد عناصر التنظيم أثناء التعذيب، إلى إنهاء آخر أمل لدى المسيحيين في العودة إلى مدينتهم.
وحسب الناشط الميداني أبو عزام -من دير الزور- فإن اختفاء الأب باولو يفسر رحيل إبراهيم حشيشو عن مدينة دير الزور بعد عام ونصف قضاها برفقة عائلته في حي الحميدية الخاضع لسيطرة المعارضة السورية المسلحة، مضيفاً أن حشيشو ومع دخول تنظيم “داعش” إلى المدينة كأحد الفصائل المقاتلة في شهر يونيو/حزيران 2013، تعرض وعائلته لمضايقات من قبل عناصر جبهة النصرة كونهم يدينون بالمسيحية، بما اضطر إبراهيم إلى الهرب خوفاً من الموت، لتكون عائلته آخر الأسر المسيحية الهاربة من أحياء المعارضة بمدينة دير الزور.
تحتضن مدينة دير الزور أهم المعالم الأثرية للأرمن، ومنذ عام 1991 أصبح لـ”دير الزور” اسم في “الفاتيكان”، وأصبحت المدينة المقدسة لجميع الأرمن في كل أنحاء العالم، بعد ترميم الكنيسة التي كانت مقامة منذ عام 1900 تحت اسم جديد “كنيسة مقام الشهداء الأرمن” وتدشينها بحضور قداسة الكاثوليكوس “كاريكين الأول”.
فشل المعارضة في طمأنة الأقليات
لم يكن فادي يدخل في أي نقاش مع أصدقائه حول الأوضاع في سورية، وهذا ما جعل بعضهم يصنفه بأنه من النوع “الرمادي”، أي أنه لا يؤيد المطالبين بالحرية والكرامة، كما أنه لا يؤيد بقاء النظام السوري وأعماله.
“الرمادية” التي يوصف بها فادي هي ذاتها التي تنطبق على غالبية الطائفة المسيحية في سورية، ويشرح فادي ذلك بالقول: “إن النظام السوري فاسد، ولكن كان يوجد الأمان، وهذا هو المطلوب”، بينما لم يجد الأمان لدى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة السورية والكتائب المسلحة.
وعن ذلك قال عضو الائتلاف الوطني المعارض جورج صبرا لـ”العربي الجديد” إن المعارضة فشلت في إيصال صورة واضحة عن أهدافها ومشاريعها، وإيصال رسائل تطمين لكافة الأقليات الدينية أو العرقية في سورية، على الرغم من الشعارات الكثيرة التي كان الثوار يرفعونها خلال احتجاجاتهم التي تعبر عن توحيد الشعب السوري مثل “الشعب السوري واحد”.
صبرا أضاف، أن هذا الفشل لحقه قيام ثورة مضادة من قبل اللصوص وقطاع الطرق الذين نسبوا سرقاتهم للثورة، مما جعل المناطق المحررة (الخاضعة لقيادة المعارضة) عرضة للسلب والنهب، وضاع منها الأمن والأمان.
نتائج استبيان “العربي الجديد”
حسب التقديرات فإن ما يقارب 1200 نسمة من المسيحيين كانوا يسكنون في مدينة دير الزور (إجمالي عدد سكانها 500 ألف نسمة)، غالبيتهم من الأرمن، يعملون في التجارة والصناعة وبيع الذهب، من أجل الكشف عن السبب الحقيقي وراء هجرة المسيحيين؛ وزع “العربي الجديد” عبر الإيميل استبيان خاص على 60 عائلة مسيحية هاجرت من دير الزور إلى أميركا ودول مجاورة وأوروبية.
بيّن الاستبيان أن العوائل الستين المهاجرة تتفق على أن توسع التنظيمات المتطرفة في المدينة أحد أسباب الهجرة، فيما أضافت 39 عائلة سببين آخرين هما؛ الخوف من القصف العشوائي على المنازل، والهرب من عمليات النظام السوري.
وأظهرت النتائج أن جميع المشاركين في الاستبيان يتفقون على أن الاستيلاء على أملاك المسيحيين الخاصة في مدينة دير الزور له دور في عملية الهجرة الجماعية، ويرى المصوتون أن الوضع في سورية في حال استمرار توسع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) يتجه إلى ذات الأوضاع في العراق من تهجير للمسيحيين والطوائف الأخرى.
القانون والتهجير القسري
يشرح الدكتور في القانون المقارن وعضو اللجنة القانونية في الائتلاف السوري المعارض، هشام مروة لـ”العربي الجديد “، أنواع التهجير القسري من الناحية القانونية قائلاً “النوع الأول يتم بشكل مباشر عن طريق مجموعة مزودة بالقوة الكافية لإجبار مجموعة ما على ترك أماكن استقرارها باتجاه أماكن أخرى قد تكون محددة أو غير محددة، أما النوع الثاني فهو تهجير غير مباشر، وهو ما يحدث في ظل النزاعات الدولية، أو النزاعات المسلحة (دولية – محلية)، والتي يشعر الكثير من الناس بالخطر خلالها ويتجهون لمغادرة مناطق النزاع إلى أماكن أكثر أمناً”.
وأوضح مروة أنه في حال وجود الأدلة القانونية الكافية على قيام بعض المجموعات المسلحة المتطرفة بالاستيلاء على الممتلكات الخاصة للمسيحيين في دير الزور، بعد إجبارهم على مغادرة بيوتهم، يعتبر الفعل هنا تهجيراً قسرياً مباشراً، وجريمة ضد الإنسانية تدخل في نطاق جرائم الحرب بحسب الاتفاقيات الدولية.
الدكتور مروة أشار إلى أن الشعب السوري اعتاد منذ زمن طويل على التعددية المذهبية والدينية والقومية وتعامل مع ذلك بكل أريحية، مضيفاً أن النظام السوري هو من يتحمل إثارة النعرات الطائفية التي حصلت في سورية، والتي عمل على تغذيتها منذ نحو أربعة عقود، فضلاً عن ما قام به من استخدام للسلاح الكيماوي والبراميل المتفجرة أو صواريخ سكود، وهو السبب المباشر للتهجير الذي لحق بملايين من أبناء الشعب السوري، ومن ناحية قانونية فهو مسؤول عن جرائم حرب وأخرى ضد الإنسانية وهذا ما يجعله يتحمل العبء الأكبر من المسؤولية عن التهجير المباشر وغير المباشر الذي حصل للسوريين من كافة المذاهب الدينية والمكونات القومية.
رسالة من العالم الآخر
“انقذوا ما تبقى” رسالة يسعى السوري المهجر ملك لإيصالها للعالم، وحسب رأيه فإن جميع أهالي المدينة يتعرضون للتهجير على أيدي التنظيمات المتطرفة، بالإضافة إلى الإرهاب الأساسي الذي يتعرضون له من قبل قوات النظام السوري. أما أبو عزام فيرى أن مدينة دير الزور وأهلها “خسارتهم كبيرة بعد هجرة المسيحيين”، في حين يستمر فادي باللعب بحصى نهر الألب على أمل العودة يوماً إلى مدينته التي ولد ونشأ فيها.
العربي الجديد