داعش» والجوار المتنازع ولغة مسيحيّة – شيعيّة تحوّل «السوريّ» عدوّاً مُـجمَعاً عليه/ حازم صاغيّة وبيسان الشيخ
بعد أن تناولت حلقة الأمس الحياة الرحبانيّة على جمر القلق، بين «هنا» و«هناك» وبين «ليل» و«نهار»، هنا الحلقة الثانية والأخيرة:
< في فندق دانا، في إبل السقي المجاورة لجديدة مرجعيون، والذي افتُتح بسبب إقامة الجنود الدوليّين هناك، ثمّة ما يذكّر بالمنطقة الخضراء في بغداد: فتيات أجنبيّات يسبحن في «البيسين»، وجنود من القوّات الدوليّة يتوزّعون طاولات البهو، وأزيز طائرات حربيّة إسرائيليّة تُسمع في عموم المنطقة، تتخلّلها أصوات المروحيّات التي تستخدمها القوّات الدوليّة.
إذاً، نحن لسنا في سويسرا كما تتخيّلها جديدة مرجعيون. فهناك يواجهنا فيلم سينمائيّ عن قيامةٍ قد لا تكون الآن. وإذ لا تتبدّى الحياة المدنيّة على ما يرام، يلوح كما لو أنّ قبضة من حديد تمسك بكلّ شيء وتؤجّل حدوثه. فوق هذا، يتراءى أنّ تلك الرقعة المنتزَعة من الحرب والمنتزَعة في الآن نفسه من السلم، مُصفّاة أيضاً من الأمم والشعوب والأوطان والهويّات. إنّها، بالتالي، وحتّى إشعار آخر، «نومانز لاند».
يضاعف الشعور هذا ندرة البشر الذين تقع العين عليهم، وذاك الهدوء المريب في حركة السيّارات والشاحنات القليلة والبطيئة. وهو ما يزيد في تظهيره انخفاض نسبة السكّان وفراغ الطبيعة المشرّعة بسهولها وجبالها المحيطة، فكأنّها فائضة عن بشرها أو مُخبّئة إيّاهم في مكان ما. فحين تغنّي فيروز في بهو الفندق، يتراءى كأنّ الصوت لا يشبه المكان ولا مزاج أهله «اللبنانيّين». فهو هناك يأتي مجرّداً من كلّ أوجه الطبيعة والاجتماع، الفعليّة أو الوهميّة، التي حفّت بالغناء الرحبانيّ. هكذا تغدو فيروز – إبل السقي محاولة تقرّب من «لبنان الذي كنّا ننزل إليه» في سنوات الاحتلال، كما يقول سكّان القرى الحدوديّة.
ولا يطرد القلقَ الآتي من طبيعة الأشياء اتّفاقُ معظم الناس على أنّ «منطقتنا – التي يعيش فيها الشيعة والمسيحيّون والسنّة والدروز – منطقة تعايش نموذجيّ». فهذه اللازمة المتكرّرة، والتي ربّما كانت العبارة الوحيدة التي تردّدها أكثريّة اللبنانيّين، لا تصمد، هنا أيضاً، أمام اختبار جدّيّ.
أحزاب المسيحيّين
وبالتسميات يبدأ الخلاف الذي يصفه الفولكلور الوطنيّ بأنّه اتّفاق. فمسيحيّو المنطقة الحدوديّة يسمّون «سهل مرجعيون» ما يسمّيه شيعتها «سهل الخيام». ولا تكاد تُذكر بلدة أو قرية في المنطقة، ما بين الخيام وشبعا، إلاّ ويُذكر أنّ نسبة كبيرة من سكّانها كانت مسيحيّة ذات يوم ثمّ تقلّصت، كما في الخيام، أو اندثرت، كما في شبعا.
بطبيعة الحال، لا يجهر موارنة المنطقة بولائهم للأحزاب المسيحيّة الـ 14 آذاريّة. فالانتساب إلى «القوّات اللبنانيّة» أقرب إلى العمل السرّيّ، وهو ما يبدو أنّ «الكتائب» استفادت منه، لاعتبارها «أكثر اعتدالاً» من القوّات، فباتت أقوى تلك الأطراف الضعيفة وأشدّها علنيّة. أمّا ميشال عون، فلم يُقلع تيّاره في المنطقة الحدوديّة، على رغم الوجود التقليديّ والكثيف للمؤسّسة العسكريّة في قرى مارونيّة كالقليعة. ووفقاً لأحدهم، كان أكثر ما أساء إلى «التيّار الوطنيّ الحرّ» اختياره رموزاً محليّين هم إمّا معروفون بالتعاون مع الإسرائيليّين إبّان الاحتلال، وإمّا وافدون إلى الجنوب بعد قطيعة وغياب مديد.
لكنّ مسيحيّي تلك المنطقة لا يفوّتون فرصة إلاّ يعبّرون فيها عن إعجاب ما بـ «حزب الله»، إعجابٍ يتاخم الحبّ أحياناً. وهنا أيضاً يستدرجنا التمحيص.
ذاك أنّ إزعاج الحزب للمسيحيّين يبقى من النوع غير المرئيّ. فهو اكتفى، في عموم المنطقة، بتشكيل المناخ المضبوط على إيقاعه السياسيّ الذي ينفي إيقاعات سواه. ويعرف الجميع أنّ ذاك المناخ محميّ بتوازن قوى شديد الاختلال، يخفض موقع الآخرين ويعدم خياراتهم. هكذا لا يكتفي المسيحيّون بكلام ذمّيّ عن حسن نصر الله يكاد يكون ودّيّاً، بل يمدّون لطفهم ليشملوا به نائب القضاء والوزير عن «حركة أمل»، علي حسن خليل، الذي «يزفّت طرقات في القرى المسيحيّة».
فـ «حزب الله»، وبذكاء يُحسب له، آثر أن يبتعد عن التفاصيل الأخرى، الاستفزازيّة والثأريّة. ولمّا كان وحده الممسك بلبّ السلطة، فلماذا، بعد ذاك، التمسّك بقشورها؟
يعزّز إيجابيّةَ الأمر الواقع حياله أنّ ما من شيء جدّيّ يحصل، منذ صدور القرار 1701 في 2006، مع إسرائيل. فلا الحزب يزجّ السكّان في حرب، ولا إسرائيل تجبرهم على اختيار. ويبقى أهمّ من كلّ ما عداه ما يفعله خطر «داعش» المستجدّ. فالمسيحيّون هناك، كما في مناطق لبنانيّة أخرى، يسكنهم خوف هذا التنظيم المخيف. إلاّ أنّ الأعرف بينهم والأكثر تجربة أو حنكة يضيفون في غرفهم المغلقة: لكنّ «حزب الله» يبالغ في نشر هذا الخطر، وهو قائم، لإشعارنا بأنّ «داعش» أقرب ممّا هو فعلاً.
وعلى العموم يُلحظ أنّ لغة سياسيّة مسيحيّة – شيعيّة يتمّ تأليفها هناك، لغةً تغرف من الهواجس الأقلّيّة حيال السنّة، والتي درج نقّادها في الماضي على وصمها بـ «الانعزاليّة».
دروز وسنّة
وبعض ما يرتّبه الهلع الذي استثمرت فيه صحف ومحطّات تلفزيون غير بعيدة عن «الحزب» شيوع لغة حربيّة وسلاحيّة. فأحد سكّان الشريط الحدوديّ، مثلاً، حدّثنا عن «الحماية الضروريّة التي يوفّرها حزب الله»، ليضيف كما لو أنّه يطرد خوفه: «ثمّ إنّ الدروز الذين يتسلّحون في حاصبيا يشكّلون خطّ دفاعنا الأوّل في وجه داعش».
وتسلّح القرى الدرزيّة لم يعد سرّاً على أحد، خصوصاً وقد استولت «جبهة النصرة» على أجزاء واسعة من القنيطرة. فالمؤيّدون لطلال أرسلان، وهم كثر بين دروز حاصبيّا، كرهوا الثورة السوريّة منذ بداياتها، وكان من السهل إقناعهم بأنّ الأمر كلّه لا يعدو التعبير عن تعصّب سنّيّ مقلق. ومع التحوّل الأخير لوليد جنبلاط واعتباره أنّ العداء لـ «داعش» يعلو كلّ عداء آخر، وهو ما عاد وعدل عنه، صارت غالبيّة الدروز الكاسحة في صفّ متجانس.
فالمناطق هنا، في حاصبيّا الدرزيّة وفي العرقوب السنّيّ، امتداد جغرافيّ للجولان، وعلى الضفّة السوريّة قرى كعرنة وبيت جنّ ومجدل شمس وسواها، كانت دائماً على تواصل، ودّيّ أو عدائيّ، مع بعضها ومع مثيلتها على الضفّة اللبنانيّة.
ووفق محمّد أبي سمرا، «راح أهل شبعا السنّة، مع نشوب الثورة السوريّة، ينقلون على بِغالهم جرحى الجيش الحرّ، لا سيّما أبناء قرية بيت جنّ، إلى مستشفيات لبنانيّة. غير أنّهم ما لبثوا أن تعرّضوا إلى مكمن نصبته لهم في الجبل مجموعة مسلّحة من أبناء قرية حضر الدرزيّة السوريّة قتلت عدداً من النازحين». ويبدو أنّ العداء قديم بين القريتين اللتين لا يخلو تاريخهما من أعمال ثأريّة متبادلة. وهذا لئن فاقمه تباين موقفيهما من الثورة، فقد تولّى المكمن المذكور، ومن بعده مهاجمة «جبهة النصرة» قريةَ حضر، وضع المنطقة كلّها على حافّة الاحتراب.
وإذ أُمعن في انتهاك الحدود بين البلدين حتّى أضحت لزوم ما لا يلزم، بات الحدث السوريّ حدثاً لبنانيّاً، مثلما صار دروز حاصبيّا امتداداً آليّاً لدروز سوريّة، وغدا سنّة العرقوب أيضاً امتداداً للسنّة السوريّين.
والراهن أنّ علاقات السنّة في قرى شبعا وكفر حمام وكفر شوبا والهبّاريّة بالسوريّين وراء الحدود، قديمة ووثيقة، بعضها شرعيّ وبعضها غير شرعيّ، فيما بغال المكاريّين تبقى أدات تواصلها الأنجع. وهم، الذين يعيشون في زاوية منزوية نسبيّاً، وجدوا أنفسهم دائماً يختارون في السياسة خيارات تتعارض مع ما تختاره بقية طوائف المحيط الأعرض.
فلقد تعاطفت أكثريّتهم مع الثورة السوريّة في مقابل التعاطف الشيعيّ الغالب مع نظام الأسد. وكانت العلاقات بين الجماعتين قد شرعت تتدهور مع مقتل رفيق الحريري في 2005، فيما كان «تيّار المستقبل» أقوى الأطراف السياسيّة في العرقوب السنّيّ. فلم يكد الغضب يخبو قليلاً حتّى جاءت حركة أحمد الأسير وذيولها تؤجّجه. آنذاك، ووفقاً لعلي ضيا، طبيب الأسنان ومدير «المركز الإعلاميّ»، بات «النفور» يهيمن على العلاقات الأهليّة التي أصابتها الثورة والحرب السوريّتان في الصميم.
واليوم، ومن دون أن يخلو الأمر من تهويل يعزوه بعضهم إلى «التضخيم الإعلاميّ»، يتردّد على ألسنة كثيرين تشبيه شبعا وجوارها السنّيّ بعرسال. فإلى التجاور مع سوريّة، يوصف آل الزغبي الذين كانوا أكثر الشبعاويّين حضناً للاجئين السوريّين وأبكرهم، بتعاطف سلفيّ أحدثته لديهم هجرة بعضهم إلى الخليج. وثمّة من يشير إلى عناصر من «الجماعة الإسلاميّة» في الهبّاريّة، من آل عطوي، تحوّل بعضهم إلى تكفيريّين، وكان أحد هؤلاء، حسين عطوي، من أطلق الصيف الماضي صاروخاً على إسرائيل. وفي المعرض هذا يشار إلى دور دعويّ نشط اضطلع به عدد قليل من المشايخ المصريّين انتقلوا، في 2006، إلى لبنان، وأقاموا في تلك المنطقة تحديداً.
وثمّة محطّات سابقة في التنافر: ففي الستينات والسبعينات كانت شبعا أساسيّة في حضور المنظّمات الفلسطينيّة المسلّحة وفي تمدّدها، وهي ظلّت على ولائها هذا بعد انفجار التنازع الشيعيّ – الفلسطينيّ. وإبّان الحرب الأهليّة الصغرى في 1958، منح العرقوب السنّيّ قلبه لعبد الناصر و»الجمهوريّة العربيّة المتّحدة»، ومن دمشق وصل إليه المدعوّ علي الوحش، الذي يُرجّح أنّه كان يعمل لمخابرات «العربيّة المتّحدة»، فجنّد شبّاناً من شبعا وقتل بعض القوميّين السوريّين المسيحيّين من إبل السقي ممّن كانوا يحالفون كميل شمعون الذي التفّت حوله عصبيّة المسيحيّين.
العدوّ: «السوريّ»
تحت هذه الأرض، وفي موازاة صدوعها، تنهمك اللغة المسيحيّة – الشيعيّة في صنع العدوّ الذي يراد التوحّد حول عداوته، وهو «السوريّ». وهنا يُلحَظ تقسيم عمل ينمّ عن توازن القوى القائم، من دون أن يخفى خبث أحد طرفيه وسذاجة الطرف الآخر. ذاك أنّ «حزب الله»، وهو طبعاً السلطة الفعليّة، يتولّى تأليف القاموس، فيما يتولّى المسيحيّون ترداد مصطلحاته وإعلانها.
وأغلب الظنّ أنّ الأخيرين، لا سيّما أبناء القرى المارونيّة الذين شُهّر بهم بذريعة «العلاقة بإسرائيل»، يجدون في هذا العداء الجديد ما يصالحون به جوارهم فيما يكفّرون عن الذنب الإسرائيليّ الذي يؤاخَذون وحدهم عليه. وطبعاً يجتمع الطرفان، الشيعيّ المتحفّظ والمارونيّ المجاهر، عند اشتقاق صورة السوريّ «الغريب» من صورة الفلسطينيّ «الغريب» في الستينات والسبعينات. فـ «الناس متخوّفون لأنّ السوريّين جاؤوا مثلما جاء الفلسطينيّون قبلهم، لاجئين وهاربين، وإذا بهم يحملون السلاح ضدّنا». أمّا القاسم المشترك الثاني فالولاء المتفاوت الفولكلوريّة للجيش اللبنانيّ. وهذا، بدوره، كلام يبيعه «حزب الله»، وهو جيش نفسه الذي لا يحتمل جيشاً فعليّاً آخر، للمسيحيّ الذي لا يملك إلاّ أن يشتريه.
وهذا ما يبدو على أجلى صوره في القليعة حيث النزاع الراهن مع السوريّين، والشراكة فيه مع الشيعة، هو وحده ما قد يساعد في طيّ صفحة الماضي. ذاك أنّ أبناء القليعة الذين انتسبوا بكثرة إلى الجيش اللبنانيّ حملتهم الظروف المعروفة على الانضمام إلى قوّات لحد، قبل أن ينتهي بعضهم في إسرائيل.
وليس بلا دلالة أنّ تلك البلدة التي انصبّ عليها معظم النقمة، هي اليوم الأشدّ عداءً للسوريّين. فقد طالب أهلها بجلائهم كلّهم، وهم 13 عائلة، عن بلدتهم. ومن دون أن ينفّذوا ذلك، استقبلوا عائلات مسيحيّة من العراق قيل إنّهم سيحلّون محلّ المنبوذين من أبناء الملّة الأخرى.
وإذ نتحدّث إلى شابّ من القليعة آثر عدم ذكر اسمه، يُخيّل إلينا أنّنا نتحدّث إلى واحد من المزارعين البيض المستوطنين في جنوب أفريقيا إبّان الستينات. فهو لا يجد ما يجمعه بـ «هؤلاء السوريّين» بتاتاً، لا في الملبس ولا في السلوك ولا في العادات والتقاليد ولا في النظافة والترتيب ولا في معاملة النساء والأطفال. ولحسن الحظّ لا يبدو صاحبنا على بيّنة من الأفكار العلمويّة التي كان في وسعها أن تؤدلج مشاعره البدائيّة وتحوّلها «عِلماً» عنصريّاً.
في المقابل، يزوّدنا علي ضيا بمطالعة تحاول أن تكون على شيء من التماسك. فهو يقول إنّ ظاهر المنطقة هادىء إلاّ أنّ ثمّة توتّرات تقيم تحت أرضها. وفي استطراده يذكر محدّثنا الهمّ المعيشيّ والهمّ الأمنيّ، لأنّ «جيرة إسرائيل ليست مسألة بسيطة. يكفي أنّ المنطقة تفرغ بمجرّد أن يسمع الأهالي بأنّ أحداً قصف إسرائيل». إلاّ أنّه لا يلبث أن يتوقّف مطوّلاً عند كثرة السوريّين.
تسييس العداوة
يقول ضيا: «في كلّ الجنوب لا توجد مخيّمات للسوريّين إلاّ عندنا. فهنا تجمّعُ خيم مرج الخوخ القريب من إبل السقي، والذي يضمّ 170 خيمة يقيم في واحدتها ما بين الأربعة أشخاص والسبعة. إنّهم سوريّون من المناطق كلّها وأكثرهم من إدلب، ومن الرقّة جاءت آخر الدفعات. في البداية كانت العلاقة ممتازة بوصفها ردّ جميل على استقبالهم الجنوبيّين في 2006، أمّا اليوم فسيّئة، خصوصاً وأنّ ما ظُنّ أنّه موقّت طال كثيراً».
وإذ نسأل محدّثنا عن تسييس هذه العداوة، يردّ بأنّ التسييس بدأ مع إعدام التنظيمات السوريّة المتطرّفة جنوداً لبنانيّين. وفي مجملها كان لأحداث عرسال دور أساسيّ في ذلك كلّه.
لكنّ ضيا لا يلبث أن يضيف: «كون منطقتنا فقيرة يجعل التنافس حادّاً في مجالَي الزراعة والبناء. لقد باتوا في القطاعين يطردون اللبنانيّ ويأتون بالسوريّ الذي يرضى بأجر أقلّ. وهناك أيضاً الغيرة من مساعدات المنظّمات غير الحكوميّة للسوريّين، وهو ما لا يصيب المعوزين اللبنانيّين شيء منه».
والحال أنّ الجيش يدهم تجمّعات السوريّين في الجنوب، لا سيّما خيم مرج الخوخ. وفوق هذا، توزّع يوميّاً مناشير ضدّهم في معظم القرى والبلدات على اختلاف ألوانها الدينيّة والمذهبيّة. ويبدو أنّ السوريّين في المنطقة باتوا كلّهم ممنوعين من التجوّل بعد الثامنة مساء. فهناك في ساحة الجديدة يافطة تقول: «يمنع تجوال العمّال غير اللبنانيّين في جديدة مرجعيون من الثامنة مساء حتّى السادسة صباحاً»، والتوقيع: بلديّة مرجعيون. وحين سألنا أحد أعضاء البلديّة عن ذلك، ردّ بأنّ النهار عندنا ينتهي في الخامسة، وهذا يعني أنّ السوريّين يتمتّعون بفائض من الحريّة!.
لكنّ المدهش، وبسبب العدوى والمزايدات، أنّ بلدة كشبعا، أيّدت وتؤيّد الثورة السوريّة، باتت في عداد الـ 45 قرية وبلدة التي تمنع تجوّل السوريّين بعد الثامنة. فأن تكون مؤيّداً لثورة ما شيء، وأن تكون مؤيّداً لناسها شيء آخر.
تحوّلات التذكّر
لقد نجح «حزب الله»، ومن دون أن يتدخّل مباشرة، في أن يحوّل الناس عن العداء لإسرائيل إلى العداء للسوريّين. وشيئاً فشيئاً يتبدّى اليوم كأنّ العداء الأوّل ينضمّ إلى الأرشيف أو ينسحب إلى الخلفيّات.
وربّما لم يكن من المصادفة البحتة أن يترافق التحوّل هذا مع ظهور اعتراضات أوّليّة بين سكّان مدينة النبطيّة، وربّما في سواها، على مشاركة الحزب القتاليّة في سوريّة. إلاّ أنّ علامات الاستياء ما لبثت أن خبت تباعاً، واستأنفت بيئة الحزب الأعرض سيرها وراءه، خصوصاً مع ظهور «داعش» الذي جعل الجمهور أشدّ تطلّباً وأكثر جذريّة من حزبه.
إلاّ أنّ التحوّل هذا ينهي محظوراً يتعلّق بالكلام عن الاحتلال الإسرائيليّ وسنواته. فإلى الإشارات المتفرّقة إلى القسوة والعدوانيّة الإسرائيليّتين، لم يعد من المحرّم الإشارة إلى دورة اقتصاديّة أحدثها ذاك الاحتلال في تلك المنطقة ونجمت عنها بحبوحة لم تتكرّر. ذاك أنّ حديث الأجور التي كانت تُدفع للمنضوين في جيش لحد، ومعها الأجور الأخرى التي تُدفع للعمّال اللبنانيّين في إسرائيل وتُنفق في الشريط الحدوديّ، بدأ يصير تذكّراً مشروعاً ومستقلاًّ عن التذكّر السياسيّ للاحتلال.
فـ «الناس كانوا يذهبون إلى إسرائيل للطبابة وقضاء شهر عسل والتسوّق وقضاء ما يلزم، أكان في الخيام أم في حاصبيّا»، لكنْ أيضاً «لا يزال اليوم في إسرائيل ما بين ألفين وثلاثة آلاف لبنانيّ أوضاعهم معلّقة مثل أوضاع السلام في المنطقة».
لقد كتب أنتوني شديد، وأصله من جديدة مرجعيون، عاش في أوكلاهوما سيتي وغدا مراسلاً لـ «واشنطن بوست» ثمّ لـ «نيويورك تايمز»، كتاباً عنوانه «بيت من حجر: مذكّرات منزل وعائلة وشرق أوسط مفقود». وعاجل الموت شديد في نوبة ربو على الحدود السوريّة – التركيّة، فيما لم يكتمل بناء البيت، وبقي الشرق الأوسط «مفقوداً»، على ما تُظهره، ببلاغة وشفافيّة، قرى الشريط الحدوديّ وبلداته.
ماذا يُعمل؟ «ما من شيء يُعمل»، كما تقول العبارة التي افتتح بها صموئيل بيكيت «في انتظار غودو». أمّا سكّان جنوبيّ الجنوب فلا يعرفون ماذا ومَن ينتظرون.
الجزء الأول
حياة رحبانيّة على جمر القلق: بين «هنا» و «هناك» وبين «ليل» و «نهار»
لا تنفعل جديدة مرجعيون ولا تغضب. هي تمقت السياسة، ولديها صيغ كثيرة في إعلان مقتها هذا. وحين يتناول أهلها التطوّرات الكبرى لتاريخهم، يبدون كمن يؤرّخ ببرودة الجيران أحداثاً حصلت في غرف نومهم. فوق هذا، تراهم دائماً يصوّرون تلك الأحداث كما لو أنّها فاتت وصارت وراءنا.
يقول واحدهم: «نعم، كان هناك احتلال إسرائيليّ…»، أو يقول آخر: «نعم، حصل تحرير…»، ثمّ يمضي كلّ منهما في تقريريّته التي يتساوى فيها كلّ شيء بكلّ شيء آخر.
حياد سويسريّ!
فالحقب الحادّة المثيرة للانفعال أو للانحياز، وتاريخُ جنوبيِّ الجنوب كلّه كذلك، يعالجونها بنزعة تكاد تكون سويسريّة. فكأنّهم، هناك في تلك الرقعة، قرّروا أن ينكروا، وأن يعلنوا الحياد من طرف واحد عن هذا الصخب حولهم وفي تاريخهم. فهم، مثلاً، حين يعمدون إلى تفسير عزوفهم عن الانخراط في جيش لحد، يقولون إنّ الأوضاع الاقتصاديّة لمن بقي من سكّان الجديدة فيها لم تحوجهم إلى ذلك، وهي الأوضاع نفسها التي أحوجت الآخرين الأفقر، من مسيحيّي القرى المجاورة ومن الشيعة والدروز، إلى الانخراط فيه. هكذا، تتداعى حلقات منطق وظيفيّ جدّاً، لا مكان فيه للقضايا الكبرى ولا لأيّة اعتذاريّة حيال مقدّس مفترض.
وكانت حرب 2006 لسكّان الجديدة، ولعموم مسيحيّي المنطقة، مشهداً برّانيّاً قد يثير التعاطف مع الذين لجأوا إليهم من القرى الشيعيّة المنكوبة، إلّا أنّها لم تكن تورّطاً مباشراً، ذاك أنّ الإسرائيليّين «كانوا يقصفون النقاط التي يُقصف منها عليهم، وهي شيعيّة ينتشر فيها حزب الله. لهذا لم تُضرب القرى المسيحيّة»، كما رأى أحدهم بدقّة وصفيّة تتجرّد من أحكام القيمة.
والكلام الذي يتردّد هنا مختلف عن السائد المعمّم. فهم لا يحبّون إسرائيل لأنّهم يكرهون الاحتلال، وقد كان انتقال معظم أهل الجديدة إلى بيروت ما بين 1982 و2000، مثلهم مثل باقي الجنوبيّين، تصويتاً بالأقدام ضدّ المحتلّين. بيد أنّهم ليسوا مستعدّين لمقاتلة إسرائيل أو لمقاتلة أيّ طرف كان، لأنّ القتال يحصل لآخرين في أمكنة أخرى. أمّا أن يلقي أحدهم صاروخاً عليها، فهذا اليوم أشدّ ما يكرهونه ويخافونه، كما يخافه باقي جيرانهم، لأنّه نذير بكابوس الاحتلال وباحتمال رجوعه.
إلّا أنّ مقارنات الباحث، المُرّ حيناً والسينيكيّ حيناً والمحايد أحياناً، تتسلّل إلى بعض كلامهم. فهناك تسمع مثلاً أنّ المنظّمات الفلسطينيّة فجّرت مضخّة المياه لدى دخولها جديدة مرجعيون أواخر الستينات، وفي أوائل الثمانينات، أصلح الإسرائيليّون «الطامعون بمياهنا» تلك المضخّة وعزّزوها بتمديدات جديدة لا تزال تعمل حتّى اليوم. ولأنّ الجديدة لم تُعانِ قسوة إسرائيل كما عانتها قرى أخرى انتسب أبناء منها إلى مقاومة «حزب الله»، تسمع فيها من يشير إلى «حريّة التعبير» في زمن الاحتلال. فالإسرائيليّون «لا يعنيهم مَن معهم ومَن ضدهم، وتستطيع التعبير عن رأيك ما شئت طالما أنّك لم تنتقل إلى العمل العسكريّ ضدّهم».
لكنّ الاستعارة الكبرى التي تكثّف الفوارق والمقارنات لديهم تبقى مستشفى مرجعيون. فهو، إبّان الاحتلال، شُغّل بكامل طاقته كما ضُمّ إليه مبنيان كبيران وكان يصرف عليه حوالى مليوني دولار سنويّاً. وحتّى الحالات الصحيّة المستعصية كان أصحابها يُنقلون إلى داخل إسرائيل عبر ما سمّي آنذاك «الجدار الطيّب». وهذا كلّه صار من الماضي، إذ أتى التحرير مصحوباً بعودة ظافرة للإهمال اللبنانيّ الشهير. فجديدة مرجعيون تقيم إذاً بين نفيين، عدم الانتساب إلى جيش لحد وعدم الانخراط في المقاومة. وللوفاء بمهمّة الحياد هذه، لا بدّ من أن تُدفع أكلاف، ولا بدّ كذلك من تعديل يطاول المكان نفسه: فالـ «هنا» تراها مخفّفة دائماً فيما الـ «هناك» كثيرة جدّاً. ذاك أنّ بيوتاً عدّة في الجديدة فارغة من أهلها المقيمين في أوروبا وأميركا، وبيوتاً عدّة يتخلّل أحاديثَ أهلها ذكرُ أقارب في الجامعة الأميركيّة في بيروت أو في أوكسفورد أو ستانفورد، يتواصلون معهم يوميّاً ويزورونهم هناك ويستقبلونهم هنا. فعندما يتحدّث أحد أعضاء البلديّة عن ضمانات بلدته، يشير إلى القوّات الدوليّة والقرار 1701، موحياً بأنّ العالم كلّه موصول بهذه الرقعة التي يحقّ لها أن تقلق من نزاعات الأهل المباشرين.
وقد كان لافتاً، لدى اتّصالنا بأفراد من الجديدة لتحديد موعد معهم، أنّ أكثر من نصفهم تحدّثوا إلينا بالإنكليزيّة. وللّغات دائماً أجنحة تحمل إلى «هناك» أو تستحضره وتبثّه في الـ «هنا». وهذا فضلاً عن أنّ كثيرين منهم كانوا عائدين للتوّ من سفر إلى بريطانيا أو أميركا، أو كانوا يتهيّأون لسفر إليهما.
«دفن» الأمّيّ الأخير
وإذ يلتفت الزميل والروائيّ محمّد أبي سمرا إلى ورائه، يذكّرنا بأنّ الجديدة كانت في السبعينات حاضرة المنطقة الممتدّة من الخيام غرباً إلى شبعا في الشرق. فهناك المدارس وهناك المقاهي، وفيها يتمرّن الشابّ على أوّل الكلام مع فتاة أو على سهر تضيق به باقي المنطقة.
صحيحٌ أنّ بعض أبناء جديدة مرجعيون انتسبوا، في حقبة سابقة، إلى أحزاب سياسيّة. هكذا نما فيها، هي التي عُرفت طويلاً بارتباطها بفلسطين وبالداخل السوريّ، قوميّون سوريّون كما وُجد عروبيّون تعلّقوا جميعاً ببلادٍ كانت ذات مرّة أكبر. كذلك عرفت شيوعيّين تداخلت في شيوعيّتهم نوازع العدالة والتقدّم وشيء من أرثوذكسيّة ينتمي إليها أكثر السكّان، أو كتائبيّين طمأنهم لبنان في الصورة التي ارتسم عليها فاستبدّ بهم الخوف من زوال صورته تلك.
لكنّهم دائماً، ووفق وصف أحد أبناء الجديدة، «كانوا ينتسبون إلى الأحزاب في الجامعات، لا هنا»، والأهمّ أنّ جديدة مرجعيون لم تُنعم على تلك الأحزاب بقياديّين بارزين أو بمناضلين معروفين. وفي المعاني المخفّفة هذه، تتراءى العصبيّة الحزبيّة هناك شيئاً من الماضي يكاد يقتصر الآن على متقدّمين في السنّ هم حزبيّون سابقون فقدوا الطاقة التي تستدعيها العصبيّة. فوق هذا، باتت الحزبيّة، في أزمنة تضجّ بأعمال في ضخامة الاحتلال والتحرير، تتطلّب هويّات أخرى تفرّق الطوائف أكثر ممّا تجمع الشعوب، كما تتطلّب من الهِمم ما يتعدّى إبداء الرأي في جلسة مقهى.
وهِمم سكّان الجديدة مبذولة في مكان آخر. فالأفراد الذين هم موضع افتخارهم إنّما ينتمون إلى صنف لا يسعى إلى البطولة ولا يغريه تقديم الشهداء: إنّهم المؤرّخ ألبرت حوراني والطبيب مايكل دبغي والموسيقار وليد غلميّة ومن يندرجون في الخانة هذه. وحين يُترك للمحامي مالك راشد، رئيس نادي مرجعيون، أن يتباهى ببلدته، يذكّرنا بأنّ آخر أُمّيّ فيها «دفنّاه» عام 1932، وأنّها كانت سبّاقة في إنشاء شبكة للصرف الصحّيّ وفي الإنارة بالكهرباء حيث تولّى مهاجروها تزويدها بالمولّدات.
بين انفصال واتّصال
ويسهب البروفيسور سيسيل حوراني في وصف علامات الزمن، زمنه وزمـــن بلدته. ذاك أنّ أهل الجديدة الذين لم تستهوهم «سياسات التطرّف»، ركّزوا دوماً ومبكراً على التجارة والتعليم والهجرة إلى أميركا وكندا والبرازيل والخلــــيج، وهي ما وفّر المال الذي عُمّرت به بيوتهم الجميلة. فمن عائلة واحدة، هي ليست من أكبر أُسَر البلدة، يبلغ عدد المهاجرين 15 ألفاً.
وأهل الجديدة، بالتالي، كانوا سبّاقين في إرساء تقليد تجاريّ وسط بيئة من المزارعين، حضّهم على ذلك أنّهم، منذ نشأة لبنان الكبير في 1920، شكّلوا مدار المنطقة الشّاميّة الفلسطينيّة ومحورها.
فهم أقرب إلى فلسطين منهم إلى لبنان: جنوباً يرتبطون بالقدس، ومن باقي الجهات يتّصلون بمدن الداخل السوريّ. أمّا مَن أراد التوجّه من عكّا إلى الشّام فكان عليه المرور بمرجعيون والالتفاف حول جبل الشيخ. آنذاك كانت بيروت بعيدة وغريبة كما لو أنّها تدور في فلك آخر.
صحيح أنّ نشأة إسرائيل في 1948 قطعتهم، كما قطعت سائر الجنوبيّين، عن فلسطين، ثمّ أتت وحدة 1958 ومن بعدها هزيمة 1967 تعقّدان علاقتهم بالداخل السوريّ، إلّا أنّ هذا الانقطاع وثّق الصلة بالعاصمة اللبنانيّة كما بالهجرة، فلم يبقَ من ذاك الماضي إلّا الشبه بين لهجتهم ولهجة سكّان الجليل. وهم، كما لو أنّهم يكافحون النسيان أو يعتدّون بقوّة الذاكرة، يذكّرون بأنّ سهل الحولة، المنطقة الزراعيّة الأغنى في فلسطين، ظلّ حتى 1923 جزءاً من لبنان الكبير الحديث الولادة.
وفي السهل المذكور امتلك بعض المرجعيونيّين وبعض الجنوبيّين أراضي زراعيّة حملتهم على توقيع عريضة تطالب بعدم ضمّ الحولة إلى فلسطين الانتدابيّة، لكنّ القرار كان قد اتُّخذ ونُفّذ من دون أن يُدفع للملّاكين الجنوبيّين أيّ تعويض. وفي 1948 كُرّس الوضع الجديد هذا وتبخّرت أراضٍ وأملاك فات «حزب الله»، على ما يبدو، أن يُدرجها في مطالبه.
كتب لا بنادق
بيد أنّ العلاقة بالسياسة أعقد قليلاً من رفض العنف أو كره الترتيبات الدوليّة. فتقليديّاً كان النائب الأرثوذكسيّ عن قضاء مرجعيون – حاصبيا واحداً من أبناء الجديدة. لكنّ الذين مثّلوها ومثّلوا الأرثوذكس في سنوات ما قبل الحرب، كأسعد بيّوض ورائف سمارة، إنّما نمّوا عن تواضع في التعبير وانخفاض في النبرة. لقد كان أهمّ ما يفعلونه استرضاء كامل الأسعد، زعيم المنطقة ورئيس اللائحة، وانتزاع موافقته على اصطحاب واحد منهم على اللائحة. وهذا الدور القليل الزعاميّة لا يكفي لإقناع المرجعيونيّين بفضائل السياسة، ولا يغري طامحاً منهم بها، إذ يسع التجارة أو العلم أو المهنة تلبية طموحه على نحو أفضل وأشدّ احتراماً لذات تمرّست بفرديّتها.
وبالفعل لا يبدو أهل الجديدة في حاجة إلى سياسة كهذه. ففضلاً عن أنّ العائلات التي كانت ترشّح أفراداً منها للانتخابات، كبيّوض وسمارة، تقلّصت كقوى سياسيّة، إلا أن ابن مرجعيون الذي لا يصفّق لزعيم، لا يحتاج زعيماً يعلّمه أو يوظّفه أو يشقّ له طريقاً.
أمّا الأحزاب في حلّتها الجديدة، فلم تُحسن بدورها كسر عزوفهم المديد عنها. فعندما خرج الإسرائيليّون في 2000، لم تتقدّم منهم تلك الأحزاب بأبهى صورها. لقد استنكف «حزب الله» عن دخول الجديدة بعد التحرير مراعاةً لمسيحيّتها، مكلّفاً الحزب السوريّ القوميّ النيابة عنه. وفعلاً أنشأ القوميّون مقرّاً لهم لا يزال علم الزوبعة يرفرف فوقه، إلّا أنّ السكّان لا يجدون فيه أكثر من ممثّليّة غريبة لـ «حزب الله». وزحفت حركة أمل أيضاً إلى الجديدة جاعلة من بيت أنطوان لحد مركزاً لها. واليوم تحيط بالبلدة صور الحركة والحزب وإشاراتهما ورموزهما التي تهيمن على طرقات المنطقة كلها وعلى مفارقها.
وهذه تجارب كنّا رأينا مثلها ذات مرّة، كما قد يقول أهل البلدة. فوفق أبي سمرا، سبق أن تمدّدت المقاومة الفلسطينيّة ومكاتبها إلى جديدة مرجعيون عبر شبّانها من السنّة الذين يشكّلون ما بين 10 و15 في المئة من سكّانها. فبعد أن أنشأ المسلّحون «فتح لاند» في قرى العرقوب السنّيّة غير البعيدة، بعد توقيع اتّفاق القاهرة في 1969، حظيت الجديدة بحصّتها من المكاتب والسلاح قبل أن يقيم مسؤول حركة فتح، يحيى رباح، في بيتٍ مختارٍ من بيوتها.
وينقل رئيس البلديّة آمال حوراني حادثة دالّة يتناقلها السكّان عن تلك الحقبة: فقد قيل إنّ المسلّحين الفلسطينيّين طالبوا أهل البلدة، لدى قدومهم إليها، بتسليمهم مئة بندقيّة، فردّ الأهالي بأنّهم لا يملكون بنادق لكنّهم يستطيعون تزويدهم، بدلاً منها، بعشرة آلاف كتاب.
بعد ذلك استأنفت الأمور سوءها في أشكال أخرى. ففي عهد الوصاية السوريّة المديد انتُزع من الجديدة تمثيل الأرثوذكس، وإن من غير أسف، وعُهد به إلى السوريّ القوميّ أسعد حردان، ابن راشيّا الفخّار. وحردان الذي صار رئيس حزبه، لا يشبه أهل الجديدة المرتابين بالحزبيّة، كما أنّه يغري الكثيرين بتقديم الطعون: فثمّة من يقول إنّه لا يمثّل الأرثوذكس، لا في الجديدة ولا في راشيّا الفخّار نفسها، بدلالة الفشل الذي حصدته اللائحة البلديّة التي رعاها في بلدته. وثمّة بين أصحاب الحميّة الأرثوذكسيّة من يذهب أبعد، مذكّراً بأنّ حردان كاثوليكيّ المذهب تحوّل إلى مذهبهم لأنّ الوصاية السوريّة قرّرت إحلال سوريّ قوميّ في هذا المقعد المقرّر للأرثوذكس.
كائناً ما كان الأمر، فإنّ الأحداث كلّها وسّعت المسافة الفاصلة بين السياسة وأهل الجديدة الشاخصين إلى فضاءات أخرى. وهي مسافة لم يقصّرها الحضور الشكليّ للدولة اللبنانيّة. صحيح أنّ أهل الجديدة، لا يريدون، ما خلا توفير الأمن، الكثير من الدولة. إلّا أنّ القليل الذي قد يريدونه لا يملكون وسائل البلوغ إليه. فـ«أهل المحيط يتمثّلون، من خلال أحزابهم وزعمائهم، بقوّة لا تُقارَن بها قوّتنا. مع هذا، فحين لا تتحقّق مطالبهم ينزلون إلى الشارع ويقطعون الطريق ويحرقون الدواليب. وهذا ما لا نفعله، مكتفين بآليّات المطالبة الرسميّة كرفع العرائض وتقديم الشكاوى، ممّا لا ينتج شيء عنه».
واللافت، كما قال كثيرون هناك، أنّ الدولة اللبنانيّة كانت حاضرة خلال الاحتلال أكثر ممّا بعد التحرير. فآنذاك كانت المحكمة والشرطة والجباية تعمل في شكل جيّد، وهو ما لم يعد يُعتدّ به اليوم كثيراً.
عائلات وقرية رحبانيّة
هكذا تراهم، في هذه الغضون، يكتفون من الشأن العامّ ببلديّتهم وعائلاتهم الطامحة إلى تمثيل دور جديد في مسرح القرية الرحبانيّ. فأرثوذكس الجديدة رأّسوا بروتستانتيّاً على بلديّتهم، والسنّة رفعوا في ساحة البلدة لافتات ترحيب بانتخاب المفتي الجديد عبداللطيف دريان، لافتاتٍ توحي بأنّها تحظى بقبول الجميع.
وإذ يعمل المخفر والمحاكم بطريقة توحي ظاهراً بأنّ الأمور في غاية العاديّة، ينهض التمثيل البلديّ على توافق العائلات المتوافقة أكثر ممّا يجب. ذاك أنّ المجلس البلديّ الذي يمنع تعليق أيّة لافتة حزبيّة تفادياً للخلاف، ائتلاف يقف على رأسه آمال حوراني الذي التقيناه مصحوباً ببعض أعضاء فريقه المتجانس. ويبدو أنّ حوراني، وهو رجل أعمال قدّم لبلدته خدمات لم يُرد مقابلاً لها، استُدعي من مهجره كي يدير شؤون بلدة أرادت تكريمه.
والحال أنّ الأمور لم تكن على هذا النحو من قبل. فقد درجت عائلات الجديدة على أن تتنافس في الانتخابات البلديّة، إلّا أنّها حين تتحدّث اليوم عن ذاك التنافس تقدّمه في رواية لا تجمع الجدّ بالمزاح فحسب، بل أيضاً تجمع التاريخ بالميثولوجيا. هكذا، يقول أهل الجديدة إنّ انقسامهم كان دائراً بين العائلات التي ترقى وفادتها من حوران، خصوصاً من بلدة عزرا، إلى مطالع القرن السابع عشر، والعائلات «البلديّة» التي أقامت قبلها في الجديدة. وحين تأخذهم الرغبة في مزيد من الشرح، يضيفون أنّ كنيستهم كانت قديماً ذات بابين، واحد للبلديّين وآخر لأهل حوران ممّن شجّعهم فخر الدين المعنيّ الثاني على القدوم. غير أنّهم لا يلبثون أن يضحكوا، فيما بعضهم يقهقه، على تاريخ لاعب أو لعوب.
عاصمة القضاء
لكنّ عدد المقيمين في جديدة مرجعيون لا يزيد في الشتاء على 800 شخص، يؤون إلى بيوتهم في الخامسة مساء. وفي ذلك شيء مصغّر من فيينا، ولو اختلفت الأسباب. ذاك أنّ سكّان عاصمة النمسا لم يكفّوا عن الانخفاض في القرن العشرين بسبب قتلاهم في حربين عالميّتين، حتّى صار التقدّم في السنّ واللون الأسود لملابس نسائهم من معالم المدينة. ويلوح، والحال هذه، كأنّ الإبقاء على الجديدة عاصمةً لقضائها جهد مقصود لا يقوى أهلها على احتماله ولا يقتنعون ببذل الجهد المطلوب لمواكبته. فهي، فضلاً عن مدارسها، لا تزال تقيم فيها سراي القضاء وثكنته العسكريّة، فضلاً عن فروع لخمسة بنوك بينها، على ما قال أحد محدّثينا، «بنك شيعيّ»، قاصداً بنك الجمّال. ومع أنّ الخيام وحاصبيّا تضمّان فروعاً لمصارف مماثلة، يبدو أنّ الجوار لا يزال يفضّل مرجعيون لتعاملاته الإداريّة والمصرفيّة.
وأهل الجديدة، إلى هذا، لا يضطرّون إلى إرسال أبنائهم إلى خارجها للدراسة، فيما أهل جوارها، لا سيّما بلدة الخيام الشيعيّة، ماضون في إرسال أبنائهم إليها. وهذا بمثابة تقليد يرقى إلى عشرات السنين، على ما يقول الدكتور طوني فرهود، كان الجيران وفقاً له يتعلّمون في مدارس الجديدة. ولا يتردّد مرجعيونيّ آخر في القول إنّ أكثر طلّاب مدرسة الصراط للراهبات والمدرسة الوطنيّة هم من الشيعة، والبنات فيهما «لا يتحجّبن».
إلّا أنّ من الملحوظ هناك ندرة الفنادق والمطاعم وقلّة المقاهي ومخازن البيع، وإن كانت الصيدليّات كثيرة تلبّي حاجات الفئات العمريّة المتقدّمة والمتكاثرة قياساً بباقي فئات السكّان.
ويبدو أنّ الانفجار الذي تعرّض له الجنود الإسبان في القوّات الدوليّة، عام 2007، كان ضربة موجعة للحركة التجاريّة، فضاعف إقناع السكّان بأنّ المستقبل الذي يستحقّ السعي إليه مقيم «هناك» لا «هنا». وما إن طرأ مقدار من التحسّن حمل السكّان على إطلاق مهرجان سياحيّ صيفيّ، حتّى اضطرّوا إلى إلغائه في سنته الرابعة. ذاك أنّه، ووفقاً لما قاله مالك راشد، «ما من أحد يخاطر باستثمار قد يقضي عليه حادث أمنيّ هنا أو هناك».
لقد نُقل مركز القضاء إلى الجديدة أواخر القرن التاسع عشر، أو وفق التأريخ المحليّ، «على أيّام كامل الأسعد الجدّ». يومذاك كانت أكثريّة المنطقة مسيحيّة، فكان هذا سبباً إضافيّاً وراء جعلها مركزاً للقضاء. أمّا التغييرات اللاحقة التي جعلت من الشيعة أكثريّة فيلمسها بعض السكّان هناك في حركة بيع الأراضي، بحيث قرّرت بلدة الخيام، مراعاةً منها لمخاوف جيرانها، التوقّف عن شراء أراضي المسيحيّين وممتلكاتهم.
والفارق بين واقع الجديدة الراهن وبين موقعها كمركز للقضاء يجلوه الفارق بين الليل والنهار. فالحقيقة تظهر ليلاً، توجزها المئات القليلة من السكّان الذين يلوذون ببيوتهم في الخامسة. أمّا نهاراً، فينشأ نوع من تزوير تلك الحقيقة، إذ يرفع الموظّفون والتلامذة العدد من ثمانمئة شخص إلى قرابة أربعة آلاف يغادرونها لحالها بعد انتهاء الدوام الرسميّ.
الحياة