ما موقع الحركات الدينية والإثنيات في سوريا الجديدة؟
صقر ابو فخر
انتهت محاكم التفتيش في أوروبا مع بداية انحسار العصور الوسطى وأفول مكانة الباباوات والإكليروس، وتأثيرهم في عقول الناس وحياتهم اليومية ومصائرهم. لكن محاكم التفتيش في بلادنا العربية ما زالت سارية المفعول إلى أجل غير مسمى. فقد قام رئيس إحدى القبائل اليمنية «المعارضة» للرئيس علي عبد الله صالح بقطع لسان الشاعر الشعبي وليد الرميثي فأخرسه إلى الأبد بذريعة هجاء هذه القبيلة «المعارضة» (جريدة «الحياة»، 9/5/2011).
يقول جون ستيوارت ميل (1806 ـ 1873): «إذا كان جميع البشر يمتلكون رأياً واحداً، وكان هناك شخص واحد فقط يمتلك رأياً مخالفاً، فإن إسكات هذا الشخص الوحيد لا يختلف عن قيام هذا الشخص نفسه بإسكات جميع بني البشر في ما لو توافرت له القدرة على ذلك». لكن آراء جون ستيوارت ميل لم تصل، حتى اليوم، إلى بعض قبائل اليمن بمن فيها القبائل «المعارضة» التي خرجت لتطالب بالإصلاح والديموقراطية والحرية وسيادة القانون… الخ.
إن هذه الحادثة، على استثنائيتها، تحمل بعداً تحذيرياً قوامه السؤال التالي: هل بعض أطياف المعارضة العربية أفضل من الحكام المستبدين؟ وما الذي يحول، في سياق النضال ضد الاستبداد، دون عودة الاستبداد ثانية على أيدي قادة الطوائف وزعماء القبائل وشيوخ العشائر على غرار ما وقع في العراق بعد سقوط صدام حسين؟
ظاهرات مقلقة
تبدو الحركة الشعبية السورية ذكية وواعية وذات أهداف شبه واضحة إلى حد بعيد. هذا في العموم، أما في التفصيل فهي لا تريد أكثر من تطبيق جدول التحول إلى الديموقراطية. والنخب الفكرية والسياسية السورية، العلمانية واليسارية، تقدم، في كل يوم، مثالاً رفيعاً للشجاعة وللنزاهة السياسية أمثال ميشال كيلو وحسين العودات وفايز سارة ولؤي حسين وطيب تيزيني وعارف دليلة وعلي العبد الله (في الداخل)، وصبحي حديدي وفاروق مردم بك وسمير العيطة ومحمد علي الأتاسي وهيثم مناع ومحمد العبد الله (في الخارج). غير أن الخوف على سوريا يأتي، لا من هؤلاء، بل من بعض الجماعات الدينية غير المرئية إلى حد ما. ويأتي الخوف على مستقبل سوريا أيضاً من بعض القوى السياسية ذات الطابع الاثني الشوفيني التي ما برحت تفتش في التواريخ عن أمور عابرة، للحط من شأن العرب وتاريخهم وحضارتهم، كأنها بذلك ترفع من شأن إثنيتها.
إن كلام بعض رجال الدين الاسلاميين «المعتدلين» السوريين على مستقبل المسيحيين في سوريا، وإعادة ترويج فكرة «أهل الذمة» التي خرجت من التداول منذ الاصلاحات العثمانية، يشيران إلى غياب خطاب سياسي سوري في شأن المواطنين المتعددي الايمان والمتعددي القومية. والنظام السياسي السوري لم يتمكن من تطوير خطاب عصري في هذا الأمر، وترك الأمر لبعض رجال الدين «المعتدلين»، وهو أمر لا يعوّل عليه قط، ثم انه يبرهن، مرة ثانية، عن أن هذه الأنظمة تعيش حالاً من الخواء الفكري المروِّع، فهي على كثرة «مفكريها وكتابها ومنظريها والضاربين بسيفها» لا تملك رداً على تحدي الاسلاميين لها إلا الدعوة إلى «إسلام معتدل»، وتقذف بأشخاص من طراز يوسف القرضاوي وقبله محمد متولي شعراوي وبعده محمد سعيد رمضان البوطي ليتسلموا دفة المواعظ السياسية. لكن الجماعات السلفية والأصولية أقوى من النظم السياسية بكثير في هذا الميدان. فالشيخ يوسف القرضاوي، على سبيل المثال، يقول: «العَلماني الذي يرفض مبدأ تحكيم الشريعة (…) هو مرتد عن الإسلام بيقين، يجب أن يُستتاب وإلا حكم القضاء عليه بالردة، وجُرد من انتمائه إلى الاسلام (…)، وفرّق بينه وبين زوجه وولده، وجرت عليه أحكام المرتدين المارقين في الحياة وبعد الوفاة» (يوسف القرضاوي، «العَلمانية وجها لوجه»، نقلاً عن عبد الرزاق عيد، «سدنة هياكل الوهم»، بيروت: دار الطليعة، 2005). والقرضاوي الذي بات يأكل مع عبد الرزاق عيد من معجن واحد للأسف، اتخذ موقفاً ضد الرأسمالية لسبب وحيد لا غير، هو أن الرأسمالية أخرجت النساء إلى العمل في المصانع (القرضاوي، «مشكلة الفقر وكيف عالجها الاسلام»، بيروت: الدار المتحد، 1991).
العجيب أن هؤلاء هم على مذهب الامام الغزالي الذي يقول: «إن الولاية لا تتبع إلا الشوكة، ومَن اشتدت وطأته وَجُبت طاعته»، وكانوا يرددون ان «الطاعة رأس الفضائل»، ولا يخجلون من ترويج مقولة أبي بكر الطرطوشي المسطورة في كتابه «سراج الملوك» وهي: «إذا جار السلطان فعليكم بالصبر وعليه الوزر، ومن خرج على السلطان شبراً مات ميتة جاهلية». فإذا كان حتى الاضراب خروجاً على ولي الأمر، فلماذا يتسابقون اليوم على ركوب أكتاف الناس في التظاهرات الغاضبة التي تدعو إلى إزاحة الحاكم بعدما كانوا ينافقونه جزيل النفاق بالأمس ويدعون له بطول العمر حتى يجزل لهم العطاء؟
إن الإصلاح والتغيير باتا ضرورة حيوية لسوريا وللعالم العربي كله بالتأكيد، لسبب مهم هو أنه ربما يخلصنا من هذا الصراع المشيخي الطويل، مع إدراكنا أن الاصلاح والتحديث مسألتان ليستا من شأن الطبقات الاجتماعية الفقيرة الغارقة في عذابها اليومي بين أوضاعها الاقتصادية المتدهورة باستمرار، وسيطرة رجال الدين على أدمغتهم، وسطوة الجند على أجسادهم. وإذا كانت الليبرالية والديموقراطية قد ظهرتا في أوروبا في سياق انبثاق المجتمع الحديث، فإن «الليبرالية» العربية المنتظرة تظهر الآن في سياق معارضة النظم الشمولية، وليس في سياق تطوير ثقافة شاملة تتبنى قيم الحرية.
دولة ثنائية القومية
هناك نغمات سياسية ترن بين الفينة والأخرى تدعو إلى صوغ دستور جديد لسوريا ينص على أن في سوريا قوميتين متساويتين هما: القومية العربية والقومية الكردية. لماذا إذاً يتم إغفال القوميات الأخرى كالأرمن والتركمان والشركس والأرناؤوط والداغستان واليونان والفرس، وهنا لا يُعتد بالعدد البتة؟ وقد دق انسحاب ممثل حزب «يكيتي» الكردي من مؤتمر المعارضة في اسطمبول (15/7/2011) جرس الانذار في هذا الميدان، بعدما اعترض على عبارة «الجمهورية العربية السورية»، وطالب باستخدام عبارة «الجمهورية السورية» فحسب.
إن سوريا بلد عربي تماماً، مثلما أن فرنسا فرنسية، وألمانيا ألمانية، وايطاليا إيطالية، واسبانيا اسبانية، ولا يحتمل الوضع السوري الخطر والخطير جداً مثل هذه «المرقعة» السياسية الفارغة، ولا سيما أن الدساتير الحديثة والمدنية والديموقراطية لا تقوم على الرابطة القومية، بل على رابطة المواطنة، وأن تعاقد المواطنين مع الدولة هو، دستورياً، بين مواطنين أحرار ومتساوين، أي بين مواطنين ودولة ديموقراطية، لا بين جماعات ودولة. فالقومية هي رباط حضاري وتاريخي وثقافي ولغوي تربط بين مجموعة من الأفراد لها هوية محددة، لكنها ليست رابطة لهذه المجموعة مع الدولة. فالقوميات في سوريا (وهي قوميات أقلوية وبعضها حديث تاريخياً) كالأرمن والشركس… الخ يمكنها ان تعبر عن هويتها بحرية تامة من خلال المجتمع المدني، أي من خلال الجمعيات الثقافية والمؤسسات التعاضدية والأندية الرياضية والفنية وغيرها، وتستطيع ان تطور شخصيتها القومية وهويتها القومية بالاعتناء بالفلكلور واللغة والأزياء والطعام والتاريخ والثقافة. ولهذا يصبح من الضروري التشديد في سوريا المقبلة على عدم مشروعية قيام أحزاب دينية أو إثنية. فالأحزاب الديموقراطية تكون مفتوحة لجميع أفراد الشعب بصفة كونهم مواطنين أحراراً في دولة حرة، وليس بصفة كونهم أفراداً في جماعة دينية او إثنية أو قومية. أي ان القانون مُلزم منع جماعة كالاخوان المسلمين من تأليف حزب بهذه التسمية، لأن القانون لو أباح الحق لهؤلاء في تأليف حزب بهذه التسمية، لكان عليه، في الوقت نفسه، أن يبيح قيام حزب للاخوان المسيحيين وحزب للاخوان العلويين، وحزب للاخوان الدروز، وحزب للاخوان الاسماعيليين، وحزب لإخوان الشياطين… وهكذا. وفصل المقال في هذا المقام أن أي حزب تكون العضوية مقصورة فيه على طائفة أو إثنية أو قومية هو حزب غير مقبول. فالحزب مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني، أي انه ميدان سياسي متاح لجميع المواطنين، وليس لفئة وحدها.
لقد ظهرت الدولة الحديثة في أوروبا، بالتدريج، كدولة تعاقدية بين المواطنين الأحرار. أما الدولة العربية فظهرت منذ البداية كدولة لجماعة «دمّية»، أي الرابط الأساس بين الحاكمين والرعية هو رابطة الدم، ولم يكن من المستغرب ان تسمى الدولة باسم القبيلة كالدولة الأموية والدولة العباسية والدولة العثمانية والدولة السعودية والدولة الهاشمية. أما الأمة، واستطراداً القومية، فلها حقل آخر، ولا سيما أننا نتعرض هنا للدولة المقبلة في سوريا وليس لمفاهيم الأمة وهي كثيرة. وعلى سبيل المثال في ألمانيا، فإن الأمة هي التي أنشأت الدولة على أساسي عرقي وتاريخي ولغوي. وفي فرنسا فإن الدولة هي التي أسست الأمة على أساس قيم عصر الأنوار ومبادئ الثورة الفرنسية، ولا سيما العَلمانية. وفي أميركا وكندا واستراليا، فالدولة، وهي دولة مهاجرين، هي التي أسست الأمة على أساس المواطنة لا على أساس الاثنية. بينما في اسرائيل وجنوب افريقيا، فالمهاجرون أنشأوا دولة على أساس عنصري وفي سياق كولونيالي. ومع ذلك فقد انتهت الدولة العنصرية في جنوب افريقيا، ولم يبقَ من العصر الكولونيالي إلا دولة اسرائيل. فعلى أي أساس يريد بعض مَن عميت بصيرته أن يقيم سوريا الجديدة؟ أعلى أساس إثني أم على أساس المواطنة؟
السفير