الحاكم المريض والأمة العاجزة/ مالك ونوس
برغم أن الحاكم العربي، ملكاً كان أم رئيساً، وبعدما يتجذر في حكمه لبلاده، يأخذ بالتعامل مع هذه البلاد على أنها ملكه فتصبح بحكم شركته الخاصة التي يقتسم ملكيتها مع أبنائه وأخوته وأقرب أقربائه، إلا انه لا يديرها بعقلية الشركات الخاصة الحديثة التي تعمل على تدوير العمالة والحرص على عدم استمرار المدراء في مواقعهم أكثر من سنة أو سنتين من أجل تجديد الدماء، والإتيان بأفكار جديدة، بل يعمل لتأبيد حكمه وجعل جذوره تضرب عميقاً في البلاد، وعلى تنصيب الموالين له بمواقع في الحكومة والإدارات ليتأبدوا أبدَ حكمه. ويبقى في موقعه مع الثلة القليلة التي تشاركه الحكم حتى الممات، حتى تصبح البلاد، لعجزه، على حافة الانهيار أو الحرب التي يمكن أن تندلع لتقاسم تركته بعد رحيله.
ما زالت حقبة الثمانينيات والتسعينيات في سوريا ماثلة في أذهاننا من حيث استمرار المسؤولين في مناصبهم إلى آجال طويلة. فيستمر منهم من يستمر حتى الممات معتمداً على التمديد، بعد بلوغه سن التقاعد، تكريساً لفكرة تأبيد الشخص في منصبه وتأبيد الركود العام، ومنعاً من انتشار النزوع إلى التغيير والتجديد في المزاج الشعبي في حال تغير هذا المدير أو ذاك الوزير. حتى أن استقالة الأفراد من أعمالهم كانت ممنوعة في فترة من الفترات، ووصل الأمر إلى أن يُحال إلى المحاكم من يتجرأ على تقديم استقالته لأي سبب كان. وهو ما خلف وزارات وشركات تتبع وزراءها ومدراءها لتدخل معهم دوامة الشيخوخة والركود ثم الإشراف على الانهيار.
تنسحب الأبدية على الحكام العرب، الذين لا يرون في أنفسهم سوى أنصاف آلهة، أو رسل منزَّلين على أقل تقدير (ألم يروجوا أن الله قد كلَّم السيسي؟). ويظل حكمهم بادياً كأنه استمرار لحكم أباطرة وحكام وفراعنة وملوك وسلاطين حكموا هذا الشرق منذ آلاف السنين بالدم. فارتبطت صورة الشرق لدى كثيرين بصورة الطغاة والحكام الدمويين أصحاب السلطة المطلقة الذين يحكمون الرعية بجز الأعناق والسجن والجلد واتخاذ الجواري والعبيد. وربط الحاكم بين حال شخصه وبين حال الأمة. فإن كان فرحاً نشيطاً، انبعثت الخصوبة في الأرض والأرحام، وإن مرض أو شارف على الموت، اسودت نهارات العباد وحل الجدب وقفرت الدروب، واضطربت أحوال الرعية التي تحسب نفسها مشرفة على الهلاك بهلاكه.
هكذا هو حال الكثير من الدول العربية هذه الأيام مع حكام معمرين وآخرين مرضى، ومنهم من هو على فراش الموت. يخرج أحدهم من المستشفى ليدخل الآخر. ويدخل غيره في حالة غيبوبة ليصحو منها آخرٍ. وكان منهم مرضى نفسيون لا يرون أبناء شعبهم سوى جرذانا. وتبقى الأرض تربة صالحة لتنازع الخلفاء المحتملين، ولا ينزوي الحاكم ويخلي مكانه، بل يبقى إلى آخر نفسٍ من أنفاس شعبه. فشهية الحكم تأبى أن تفارق حاكماً يشارف على الموت، ضارباً عرض الحائط بحقيقة أن عجزه، سيجعل مستقبل أمة بكاملها رهينة وضعٍ صحيٍّ مجهول. هكذا يبدو مشهد الجزائر هذه الأيام، وهكذا كانت حين قرر الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة الترشح للانتخابات التي جرت في السابع عشر من نيسان الماضي، مخالفاً توقعات الكثير من المقربين منه والبعيدين عنه، العارفين بتفاصيل وضعه الصحي الذي لا يسمح له بالمشي أو الكلام، فما بالك بالحكم. وبعد أشهر من توليه الحكم لفترة رئاسية رابعة، ما زال متوارياً عن الأنظار، تاركاً البلاد فريسة الخوف من مصير قد تلاقيه على أيدي شركائه في الحكم بعد رحيله.
في عالمنا العربي لا يرحل الحاكم – الطاغية. إن مات، يبقى ظله مخيماً على حياة البشر. يبني أسس طغيانه ويورثها لأجيال لتورثها إلى أخرى. يرحل وننسى ما ترك من جثث تمشي على الطرقات، أشباه بشر مطحونة أفرغت من قيمها وآدميتها. يبقى حاضراً بصورته في صدر الدار، يخاف البشر أكثر حتى إن مات، ولا يفرحون لحريتهم، بل يخافون اعتلاء حياتهم طاغٍ آخر، لتنشأ سلالة جديدة، تعلق العمل بالدستور، وتباشر الدمار.
السفير