صفحات الثقافةعزيز تبسي

أحاديث العتمة/ عزيز تبسي

 

 

 

-1-

ومن جوف العتمة، انطلق الصوتُ الفتيُّ عالياً “كلكن ع البطل” من بين الأولاد المخنوقين بألبستهم الضيقة، الذين شدّوا أكفّهم الدبقة على مساند المقاعد، ورأوا بأعينهم المفتوحة في وهج العتمة الآتية من الشاشة الكتانية، بطلهم المفرد مجرّداً من الأسلحة، مرمياً على الأرض، محاصراً بزمرة من الأعداء المفتونين بشراستهم والمغرورين بسطوتهم، وانتقامهم المخبول.

أراد الفتيان، المأسورين بظلمة الصالة، نجدته باقتحام غير مجد، للمنصّة العالية والشاشة التي خلفها. علا صوت مفرد باحتجاج على مصير البطل، أعقبته أصوات جماعية، خرجت كنثيث دخان، من صدور محروقة بلوعة المذلة، مذلتهم.

الأولاد الآتون تباعاً، من بيوت رشحت مياه جدرانها على أسرّتهم، وبلّلت وسائدهم. المدّثرون بثياب أخوتهم الأكبر سناً، عجزت ابتساماتهم الحليبية، عن إخفاء ألوان كنزاتهم الكالحة، بأكمامها القصيرة التي تظهر معاصمهم النحيلة، وعجز سيرهم المتعجّل عن إخفاء بناطيلهم القصيرة وجواربهم المنحسرة بمطاطها المرتخي إلى كواحلهم.

القابضون بأكفّ متعرقة على ليرة سورية بشكلها المعدني المدوّر، التي استدرجوها باستجداءات شاكية، من مخابئ مستورة بين صدور أمهاتهم المحجّبة بعشرات الرقائع، اللاتي يطلقن عليها بفخامة “ألبسة شتوية”. منحوهن إياها وهن يختلجن بعبارة “بس ما تتأخروا بالرجعة ع البيت”.

الحالمون برؤية بطل يصرع الأعداء وينتصر لقضية لطالما رأوها قضيتهم. بكازوزة يشرقونها بعجالة، أثناء الفاصل الزمني القصير، بين الفيلم الأجنبي والفيلم العربي، من فوهة مصّاصة شفّافة، كُسر عنقها النحيل. وسندويشة فلافل، يقضموها مع لفافة ورقها الأبيض الرقيق، وهم ساهون في أحاديث تؤول الفيلم، في طرقات العودة إلى بيوتهم.

نهض البطل أخيراً، قبل أن يجهز الأعداء عليه، نهض لأنه بطل متوّج، رغم نزيفه وتمزق ألبسته وافتقاده للسلاح. رغم أن كلّ ما في المشهد يوحي بدنو نهايته، نهض، لأن هناك من أراد له النهوض، وهم نهضوا مثله. انقلبت مقاعدهم المتحركة إلى الخلف. صفّقوا له كما لم يصفقوا يوماً. كانوا يبحثون عن عزاء لخيباتهم والخيبات التي ورثوها عن أهلهم، أولئك الذين ينتظرونهم، في بيوت ترشح جدرانها بالمياه والرطوبة.

أربكتهم الأيام وحالت دون إعادة إنتاج شخصية البطل المفرد، التي أوقعتهم شاشات السينما في أسرها. لطالما رُميوا أرضاً ولم يتمكنوا من النهوض، ولم تسعفهم عضلاتهم البازغة في تلّمس انفراج لغبطة الانتصار، أو حتى تسويات مجحفة، تجفّف الفم، وتنكس الرؤوس.

-2-

حذوا بعدها بسنوات، حذو الشاعر الدمشقي الراحل، وكتبوا رسائلهم العاطفية من تحت الماء، من دون أن تتبلل، لكنهم تبللوا، بأثر إجحافات عاطفية، وهزائم تركت سحاجاتها على صفحات مطوية في أفئدتهم، كسحلٍ طويلٍ فوق إسفلت خشن أو أحجار ناتئة.

اقتنعوا مع أهلهم وبعض معلميهم في الثانويات التي تعلموا فيها، أن الديكتاتورية تزول بزوال الديكتاتور. بعدها طفقوا يقيسون المسافة بين المهمّات الثورية وسبل التطبيق التي خططوا لإنجازها، بمقاييس الخياطين، وقد أسدلوا القماش المطوي على طاولاتهم الخشبية العالية، بينما حوذيو الانقلابات العسكرية يلهبون ظهور الجياد، لتحفيزهم على الوصول المبكّر إلى السدّة المسطحة للسلطة، ليتفرغوا بعدها لصوغ دساتير وتبديلها بسرعة تفوق تبديلهم لجواربهم.

يخوضون من حين لآخر بعض المعارك مع العدو بعد إبلاغه بها، وقبل إبلاغ ضباطهم المرابطين على الجبهات. متوخين منها لا تحرير للأراضي المحتلة، بل تذكير الناس الذين باتوا ينسون: وطنية العسكر، المنحدرة من عهود سابقة من لدن وطنية الباشوات.

تكاثرت الأغلاط في تلك السنوات والسنوات التي تلتها، كأن يقتلع أطباء الأسنان الأضراس السليمة، تاركين الأضراس المنخورة، تستكمل نقل العدوى للفكين. وأن يُرمى الناس في السجون لتشابه أسمائهم مع أسماء أجدادهم، وأن يخطئ الحانوتيون بلصق أسماء القتلى على التوابيت المتشابهة المصفوفة بتلاصق حميم فوق التراب المبلل، كعربات سكك حديدية بلا نهاية، ليصلي بعدها المسلمون على القتلى المسيحيون ويصلي المسيحيون على القتلى المسلمين، وتتجوّل قوافل القرباط برباباتها الحزينة بين القبور المقببة كبيوض الرخ، فتتزايد دموع الباكين ويتعالى عويلهم.

وقع الناس أسرى علاجات يقترحها النطّاسون والعطّارون، من سوائل يحضّرونها من خلائط، توخوا منها أن تكون أقلّ سمّية من الأمراض التي سمّمت أبدانهم.

-3-

مرّت الأيام كقشعريرة ثلجية في أرواحهم، وهم يتعقّبون نيازك تضيء سماءهم بوهج للحرية، لتحرّرهم من هذا الدمس الذي قبض على عنق الأبد.

يجلسون قرب بعضهم، تعلوهم عناقيد من شواحن كهربائية، عملوا على تبديد وقتهم، بتعقّب قراءات أولادهم في كتبهم المدرسية، واستجلاء غامضها من دفاتر الملاحظات الشفهية، والتفكير بالنعاس.

لكن، هيهات استدراجهم لاتخاذ موقف من صراع أمسى أشدّ هولاً من الحروب، حيث يقشّر الأعداء بعضهم كثمار موز، ويعصرون بعضهم كبرتقال. يأكلون لحم بعضهم كضواري. وفي الاستراحات يتبادلون الشتائم الخارجة من “تحت الدست”، ويُقسمون على حكايات ووقائع، يروونها بذمة “كشاشي الحمام”، مستعينين بكلّ كتب التاريخ وشخصياته، لترتق أحاديثهم المخرّمة كشباك الصيادين.

عزموا على إفناء بعضهم، مهما ارتفعت الأثمان وتنوّعت الوسائل. وقد تكيّفوا مع كلّ أشكال الانحناءات التي يسمونها بخفّة تحالفات. تحالفات لم تعد تقف عند أي حدّ أخلاقي أو وطني. ينمّقون كلامهم، وكأنهم يتبّلون كومة من الأسماك المنتنة.

– تُرى كيف تنتهي الحروب؟

– عندما تنتهي الذخائر والمتحاربون.

– لكن هؤلاء لا ينتهون.

– إذاً، حينما تنخفض قيمة الغنائم، إلى ما دون الذخائر.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى