صفحات سوريةغازي دحمان

الصراع على سوريا في طبعته الأخيرة/ غازي دحمان

 

 

شهد الملف السوري، على هامش قمة كامب ديفيد، نوعاً من الاشتباك الناعم، بين الطرف العربي الخليجي وإدارة أوباما. وإذا كانت كل ملفات البحث قد انتهت برضى خليجي، مستند إلى حقيقة ان لواشنطن مصالح وتقديرات لا نملك إلا أن نحترمها، حتى في ما خصّ مقاربتها لملف إيران النووي واسلوب معالجتها له، إلا أنه في الملف السوري حصراً اختلفت الرؤى، وظهر أن كل فريق له حساباته ومصالحه، التي لا يمكن بأي شكل من الأشكال التنازل عنها أو حتى التهاون بها، إما بسبب ضيق هامش المناورة، في صراع لم يعد خافياً انه صار إقليمياً بامتياز، وإما لأن هذا الصراع أصبح متشابكاً، ويقع على خط العديد من الصراعات والانقسامات، التي تشهدها البيئة الدولية.

ما يثبت حقيقة اتساع حجم تأثيرات ومفاعيل الملف السوري ومركزيته في الحراك الدولي الراهن، هو أن واشنطن ودول الخليج يمتلكان العديد من المشتركات والتقاطعات في عمق الملف ذاته، ولديهما أيضا تجربة عمل وتفاصيل متكاملة عن ظروفه ووقائعه ومساراته، بما يسمح ببناء توافقات على بعض الخطوط العريضة، إلا أن تلك التقاطعات على أهميتها لا تغطي كل تفاصيل القضية السورية، وبالتالي لا تمنع حالة الاختلاف التي تتمظهر في خطوط مقاربات الطرفين لها.

كانت التغيرات في التوازنات التي حصلت في سوريا إحدى أوراق البحث، التي أراد الطرف الخليجي من خلالها دفع نظيره الأميركي لقراءة الوضع الإقليمي، بطريقة مغايرة، علّ ذلك يساعد في تثقيل أوراقه التساومية في مواجهة المفاوض الأميركي، الذي تعامل بتقنية صرفة مع الحوار مستندا إلى لغة المعطيات والوقائع، ليبني عليها حجته في التحرك على مساحة الملفات الشرق أوسطية العديدة، وقد فعل الطرف الخليجي ذلك سعيا وراء هدف محدد، هو إخراج الساحة السورية من حسابات النفوذ الإيراني، ومن حقل مساوماته، وضمها إلى الفضاء العربي.

وتكمن قوة استراتيجية الطرح الخليجي بتلازمه مع الإجراءات العملانية المتخذة في إطار الفضاء المشار إليه والقدرة على توظيف الجغرافيا والديمغرافيا في لعبة الأوراق والصراع وبناء هياكل قوة تستند لبنية حقيقية، خصوصاً بعد إعلان الأردن نيته تدريب العشائر العربية في العراق وسوريا لمواجهة خطر تنظيم داعش، وذلك في ما بدا أنه استكمال لصناعة بنى القوة الحاصلة في شمال وجنوب سوريا.

غير أن إدارة أوباما، وكما اتضح، اتبعت تكتيكاً مختلفاً في موضوع سوريا تحديداً. يقوم هذا التكتيك على رفض إدماج سوريا ضمن هذا التشكل الاستراتيجي، لا الآن ولا في المستقبل، وتحويلها إلى قضية مرتبطة بملفات دولية واقليمية، ومفتوحة على احتمالات مستقبلية عديدة. وتعزيزاً لهذا النهج الاستبعادي، سعى التكتيك التفاوضي الأميركي إلى إغراق سوريا بالتفاصيل، وتحويلها إلى قضية أقليات ومصالح إقليمية ودولية، ورفض منطق اعتبارها جسماً صلباً متماسكاً ضمن مقلب جيو إستراتيجي أوسع. على عكس ما جرى التسليم به للخليج في البحرين، وبدرجة أقل في اليمن.

لا شك في أن أميركا في هذا المنحى تراعي مسألة وقوع سوريا في صلب عدة مشاريع جيو استراتيجية (روسيا وإيران) فضلاً عن أهمية مستقبلها بالنسبة لإسرائيل، وهي ترى أن الرؤى الخاصة بمآلات الحدث السوري ما زالت في حالة من السيولة ولم تصل إلى درجة من التبلور والوضوح، ما يؤجل معها طرح أي حديث جدي. وقد عبر الرئيس أوباما عن ذلك بقوله إن الحرب السورية قد تطول إلى ما بعد نهاية ولايته، وبهذا الصدد لم يعد سراً التحرك الأميركي الأخير في الملف السوري وتفحص بعض السيناريوات الخاصة بسوريا مع الأطراف الدولية والإقليمية، من دون الانحياز الى رؤية محددة. وبالتالي، فإن واشنطن تذهب إلى محاولة خفض سقف التوقعات لدى مختلف الاطراف، والأهم انها توظف الموضوع السوري لصناعة شبكة علاقات جديدة، تشكل واشنطن فيها الطرف الذي يمسك بكل خيوط اللعبة، بحيث تؤهلها هذه الوضعية للبيع هنا والشراء هناك.

كيف يمكن ترجمة هذا المتغير على إدارة الأزمة السورية؟ التقدير أن تعمد واشنطن إلى منطق تغير ديناميكية الصراع التي تأسست في أعقاب تحرير إدلب وتحويلها من حرب بهدف تحرير كامل سوريا وإسقاط النظام، إلى معارك توضح مناطق النفوذ بدرجة أكبر، ولا تصل إلى حد قلب الأوضاع بشكل جذري، بحيث تتشكل على أساسها توافقات إقليمية ودولية معينة ويجري اختبار السيناريوات بشكل عملاني. ووفقاً لهذا، يمكن لواشنطن إدارة التفاوض المستقبلي على سوريا، ومآلات أزمتها، وتحديد موقعها في كل ذلك وفق مصالح أصدقائها والقوى الدولية الأخرى.

لكن هذا النمط من الإدارة والمآلات المتوقعة له، يتعارض بدرجة كبيرة مع المصالح العربية ويضر بمجال أمنها، وبخاصة في حال تم تغليب المصالح الإيرانية والروسية والإسرائيلية وحتى التركية على المصالح والاعتبارات العربية. إذ وفق ذلك ستصبح سوريا تجسيداً لحالة اختراق أمني دائم وتهديد استراتيجي عميق لبنية النظام العربي وللأمن الخاص لأكثر من دولة عربية. وهذا عنوان التصادم مع الاستراتيجية الأميركية في المرحلة المقبلة. لذلك، يتوجب على التحالف العربي تعزيز السياقات التي ارساها في قلب الصراع السوري وتزخيم الفعل بدرجة أكبر، خصوصاً على جبهة الجنوب التي باتت جاهزة لتحقيق تغيير واقعي يفرض على مختلف الأطراف بناء مقاربات جديدة لمستقبل سوريا. المطلوب هو تحطيم الشبكة التي تسعى أميركا لبنائها حول الموضوع السوري، ومنع تبلور حل دولي من شأنه أن يكون «سايكس بيكو» جديداً لسوريا وربما للمنطقة كلها.

المستقبل

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى