دلالة الفرد في الثورات العربية الراهنة..
‘كتاب ‘إغضبوا’ لستيفان هسل:
مازن معروف
عاش ستيفان هسل (1917)، الفرنسي ذو الأصول الالمانية، محتجا. يطوي الرجل تحت جلده أربعة وتسعين عاما قضى قسما كبيرا منها في العمل الثوري الفرنسي، والدبلوماسي فيما بعد، وكان واحدا ممن صاغوا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أقر في العاشر من كانون الأول/ديسمبر عام 1948.
هسل مولود لأب يهودي (الكاتب والمترجم فرانس هسل)، وأم رسامة (هيلين غروند) عرفت بشغفها بالموسيقى وكتاباتها. اعتقلته السلطات الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية مرات عدة، وكان يتمكن دوما من الهرب قبل أن يصار إلى اعتقاله مرة أخرى، ونقله إلى موقع آخر. لكن الرجل تمكن في النهاية من الفرار لينضم إلى زوجته وأولاده الثلاثة في باريس، ويلتحق فعليا بالعاصمة الفرنسية الثائرة. وضع هسل كتابه الاول ‘رقص مع القرن’ (منشورات لوسوي) عام 1997، أي بعد مرور ثمانين عاما على ولادته. ثم نشر بعدها ‘يا لذاكرتي، والشعر، وافتقاري’ (لوسوي، 2006)، و’مواطن بلا حدود/ محادثة مع جان- ميشال هلفيغ’ (منشورات فايار، 2008). أما كتابه الأخير فحمل عنوان ‘إغضبوا’ (Indigenez – vous) وصدر في مونبيلييه عام 2010، بيع منه في ألمانيا وحدها ما يفوق المليون والأربعمائة ألف نسخة. الطبعة العربية منه (ترجمة صالح الأشمر) صدرت مؤخرا عن دار الجمل في بيروت. كتابه الذي يأتي في ستة فصول هي: ‘الحافز على المقاومة هو الغضب’، ‘رؤيتان إلى التاريخ’، ‘اللامبالاة: أسوأ المواقف’، ‘غضبي بخصوص فلسطين’، ‘اللاعنف: السبيل الذي ينبغي علينا أن نتعلم اتباعه’ و’من أجل عصيان سلمي’، أثار ردود فعل مختلفة في الاوساط الفرنسية. ذلك بسبب موقف الكاتب المخضرم من القضية الفلسطينية والمعادي لإسرائيل. كذلك، لأن هسل يدعو الشاب الفرنسي إلى القيام بثورة مشابهة لثورة الشباب أربعينات القرن الفائت. عدوه الآن ليس بمنظومة عسكرية، وإنما اقتصادية سياسية دعائية، أي أنها ذات جذور رأسمالية، بات تأثيرها أوسع من أن يعصف بها هيجان يساري لم يعد له ما يبعث على الإقناع.
يحاول هسل في منشوره الجديد، أن يبني موقفا عاما أشبه بخارطة شاملة من القضايا الإنسانية الكبرى وفي مقدمها القضية الفلسطينية. نشر الكتاب عام 2010، غير أن دعوة هسل هامت على وجهها في المجتمع الفرنسي. يرتكز الكتاب على مقاربات سريعة، قصيرة ووافية، لمجتمع فرنسا الآن، قياسا بالمبادئ التي وضعتها الثورة لتحسين الوضع المعيشي والضمان الإجتماعي للفرد، وإلى ما هنالك. بالطبع، فإن هسل يبدو مصدوما لما آل إليه الحكم في فرنسا والعالم لجهة وجود ‘ديكتاتورية دولية راهنة للأسواق المالية تهدد السلام والديمقراطية’. لم يتوقع الرجل ان تتحول بلاد الثائر شارل ديغول، إلى نموذج ساركوزي الحاكم اليوم، ومن قبله شيراك وميتران. هسل يبدو مصدوما وقلقا وشاعرا بالحاجة لأن يضع المجتمع الفرنسي في قلب القيم التي أقرتها الثورة في أربعينات القرن الأخير. وبالتالي، فإن ارتدادات دعوة هسل ضربت عمق المغرب العربي لا الغرب، لينطلق العصيان المدني في تونس، ومصر، وسورية واليمن، آخذا شكل عصيان مسلح في ليبيا (ولاحقا ثورة). لكن موقف هسل إزاء التعنت الاسرائيلي في فلسطين، وعلى الرغم من أهميته كموقف رمزي، إلا أنه بات موقفا لا يبعث على التفاجؤ، ولا يثير الحماسة، ولا الاستغراب كذلك، فهو موقف يذوب تماما في الوقت الراهن، داخل خطاب الممانعة الرسمي، الذي صار ركيكا بعد إخفاقه لازدواج معيار الحرية لديه (مثلا، دعوته ‘المثالية’ إلى تحرير فلسطين وتمنُّعه عن الاعتراف بحق الشعب السوري بالحرية). فالحراك العربي، وضع تيار الممانعة بنسخته الحالية، أمام المعنى المجرد للحرية، المعنى التربوي الفردي وإن تخللته مثالية ما. وهو التعريف المجرد للحرية بمنأى عن أي إسقاط سياسي، وانطلاقا من شرعة حقوق الانسان. تحرر فلسطين (هذا لو حصل) يفترض أن تعقبه جملة من الظروف الاجتماعية. فالتحرر من الغطرسة السياسية والعسكرية للمحتل الاسرائيلي، سيعني تخليص المجتمع الفلسطيني ومن بعده العربي من عدو ضاغط مشترك، وبالتالي الالتفات نحو مشاريع إنمائية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والمدني، كذلك مشاريع أخرى استراتيجية والتزامات عسكرية دفاعية وتبادلات تجارية واتفاقات علمية وثقافية إلخ. لكن هذه الإستشرافات الحالمة، هي ما يوحي بها المدافعون عن خط الممانعة بنسختها الراهنة. في نظر هؤلاء، سيؤدي ذلك إلى السلام الطبيعي والمستحق، أي إلى مجتمع صاف نظيف مطهر. لكن هؤلاء يتجاهلون تماما الفرد العربي المقموع غاضين أبصارهم عن ابرز الركائز التي استند إليها كبار الثائرين في العالم، وهو الشعب. فمتى فقد الشعب تأييده لأي نظام عسكري ‘ممانع’، فقد هذا الأخير إحدى أهم نقاط قوته. والأنظمة العربية الشمولية عملت على إقامة ستار حاجب بين الفرد نفسه، وحق هذا الفرد بالحرية. لم يكن هذا الستار الكبير والسميك سوى: ‘واجب تحرير فلسطين’. لهذا وجد الفرد العربي نفسه مهمشا، خادما لحلم تحرير الأرض، ليصبح فيما بعد فردا ملتزما بواجب وحيد، مبرمجا للتنكر لنفسه فداء للقضية الأسمى. إلا أن هذه الأنظمة في المقابل، لم تقدم لهذا الفرد ما يبرهن على مصداقيتها (والانتهاكات التي ترتكب بحق الإنسانية في سورية تجرد فلسطين من أي معنى إنساني لدى داعمي النظام، وتبقي فقط على وجه فلسطين السياسي، أي الوجه الوظيفي فقط لعبارة ‘تحرير فلسطين’) وهنا دخل الشعب العربي في حالة ركود، أي استسلامه للواقع، المؤلف من انظمة كسولة ومتقاعسة تجاه الفلسطينيين وقضيتهم، واختلال’موازين القوى بين الفلسطيني والاسرائيلي، إضافة إلى فشل مشاريع التحرير الصغيرة منها والكبيرة. هذا الركود كان حراكا بطيئا باتجاه الذات، أي أنه لم يعد حراكا إيديولوجيا مفخّما بالمعنى السياسي، بل أصبح حركة باتجاه هذا الفرد، وتفاصيل حياته، ومصاعبها الاقتصادية والاعباء المدنية واللوجستية ومظاهر التضييق والقمع التي تظهر جلية في دفتر يومياته. من هنا، وبالعودة إلى كتاب ستيفان هسل، لا بد من الإشارة إلى أن الفرد العربي لم يثره بشكل مباشر الاستبداد الرأسمالي المستفحل في بعض الدول الاوروبية، وإنما الاستبداد الديكتاتوري. وهو بهذا المعنى، يكون فردا منضويا في حركة تحرر إنسانية واسعة على مر التاريخ، ومنتميا إلى شعوب ناضلت في سبيل حريتها مستندة إلى واقع حرمانها من أبسط حقوقها المدنية، بدءا من اول ثورة عبيد عام 135 ق. م (وللمفارقة، فقد قادها العبد السوري أونوس) وصولا إلى الثورة الجزائرية. ولعل ما انقذ الفرد العربي هو عدم انعتاقه عموما في نظام سياسي اقتصادي دقيق ومنظم، فهو لم يتح له العيش محاطا بأنظمة مرتَّبة وحضارية ومتماهية مع ضرورات العصر والتكنولوجيا بصورة عميقة، بل ظل متمسكا بفرديته كَسِرٍّ دفين حافظ عليه رغم الازمات والعزلة والضغوطات السياسية والترهل الاقتصادي. وافتقار الانظمة العربية للإيمان بحرية الفرد، لا يبشر قطعا إلا بمستقبل من الفوضى لفلسطين، إن تحررت على أيدي تلك الأنظمة الشمولية (وهو احتمال بعيد).
يعتقد هسل أن المستقبل ينتمي إلى اللاعنف. إلا اننا نسمح بقلب هذه المقولة لتصبح: العنف ينتمي إلى لا مستقبل. ذلك أن تاريخ العصيانات والثورات يظهر لنا دوما عاملين يؤدي تفاعلهما لولادة هذه الحركات التي تريد وضع أهداف تاريخية للإنسان. هذان العاملان هما: المستبِد والمُستبد به. وهما يتعايشان مؤقتا وفقا لأطماع الاول وأناة الثاني وطول صبره، وضمن ظروف محددة تحكم لتطور نظام الحكم وطبيعة الأرض ونوع الاعداء الخارجيين. لكن، ما عدا ثورة المهاتما غاندي، لم يشهد التاريخ قيام حركة ثورية سلمية غير عنيفة. وهذا لأن الحركات الثورية كانت تبحث دائما عن قائد ميداني، وبالتالي، سرعان ما تتحول إلى سيل من المطاردات والكر والفر في الجبال والكهوف والمدن الصغيرة والقرى الاستراتيجية والغابات وإلى ما هنالك. وقد عمد الثوار على مر التاريخ إلى التواري عن الأنظار، وطلب دعم الشعب ومؤازتهم، وتشكيل فرق استخباراتية تغطي على وجودهم كما تمدهم بآخر تحركات الجيش الباحث عنهم، وتشكيل فرق سريعة سميت بالأنصار، تؤدي ضرب اهدافها وتنسحب برشاقة لا يستطيع ان يجاريها جيش ثقيل. إذن، كانت تلك الحركات الثورية تتسم بالعنف، كما تتخذ من الامكنة غير المدينية، ملجأ آمنا لها لتأليف مخططاتها. إلا أن الثورات العربية الراهنة، كسرت هذه الاستراتيجية الرتيبة التي أفاد منها تشي غيفارا في بوليفيا وكوبا، وماوتسي تونغ في الصين، وهوشي منه في فيتنام، والفاندويون والشوان في فرنسا، وتيتو (جوزف بروز) في يوغوسلافيا السابقة، والثائر ماركوس في اليونان، كما فيرموس الثائر الموريتاني (374 م) والمغولي فرسنغتوريكس ضد الرومان وغيرهم. والثورات العربية برهنت بالفعل على فعالية الدعاية، وتأثير أدوات التكنولوجيا التي لم تكن موجودة قديما (كوسائل الاتصال والهواتف التي تعمل بالاقمار الصناعية والانترنت والمواقع الافتراضية كالفيسبوك والتويتر وغيرها)، وهي العناصر التي تستعمل كأدوات لحرب نفسية طويلة. والثورات العربية هي امتداد احتجاجي للاعنف غاندي ولأونوس الثائر الاول ضد الاستبداد الروماني (والذي مهد لثورة اسبارتاكوس)، لكنها تبقى استثناء يلفت الأنظار، ولا ينتمي إلى ما تسنه قوانين التاريخ، وتفرضه على الدارسين. فالتزام المتظاهرين بالسلمية، يبدو اكثر استفزازا وفعالية من احتكامهم إلى الأعمال الحربية والغارات، اما استمرار مطالباتهم السلمية فسيؤدي حتما إلى مزيد من التضييق على النظام واستنزافه اقتصاديا ومعنويا، وبالتالي تضعضع قوته العسكرية، وتفككها، خصوصا مع فرض المزيد من العقوبات الدولية عليه. يقول كلاوزويتز ‘أشكال الحرب تعكس صورة الأوضاع التي سببتها’. أصبحت قضية فلسطين ترسا مثقوبا يتوارى خلفه الممانعون، وبالمناسبة فإن ثقوبه تمثل المنفذ الذي يستطيع خصومهم رؤية وجوههم أو آثار وجوههم من خلاله ذلك أنهم (الممانعون) قد أفضوا بممارساتهم السياسية المرتبكة إلى المساهمة بجعل هذه الثقوب ماثلة في الترس/ قضية فلسطين. وهؤلاء يفاجئهم أن التغييرات في ما يمكن تسميته بالاستراتيجيا الشعبية، او إستراتيجيا الشعب (من الخنوع إلى التمرد ثم العصيان السلمي فالثورة) هي مقدمة لتغيير في جيولوجيا المنطقة السياسية وترتيب القوى (بمعنى الهيكلية التي وفقها تنصِّب القوى العسكرية نفسها كنائب عام أوحد عن الشعب متحدث باسمه وعارف بمصلحته، كما تحيل الشعب بطبيعة الحال إلى كتلة أدنى منها على مستوى الفكر، وكتلة الشعب بالتالي تُقدَّم إلى العالم على أنها تجمع معوق، لا يمتلك وعيا كافيا، ويعمل حكما وفق أجندات أجنبية وليس وفق أجندة وطنية). بالطبع، هؤلاء الممانعون، يتغافلون عن حقيقة أن القيمة الأبرز والسمة المشتركة في كل الثورات على مدى التاريخ كانت الحرية. فالبريطانيون ناضلوا للتحرر من الاحتلال الروماني، ومثلهم فعل الأمريكيون الذين تحولوا عن كونهم مستعمرات بريطانية إلى كونهم ولايات متحدة، كذلك الثورة البولشيفية والثورة الفرنسية الكبرى، التي كان للشعب فيها الكلمة الفصل والنفوذ الواسع لقلب نظام الحكم. الحرية هي الوجهة النهائية للبوصلة الإنسانية، وقد اثبت التاريخ أنه ليس هناك شعب استطاع أن يرزح تحت القمع والديكتاتورية إلى الأبد. ونيل الحرية الفردية يؤسس لأرضية نحو تحقيق الموجبات الإيديولوجية (قضية فلسطين). بل ويمكن القول أن الحرية الفردية تتقدم على الحرية السياسية، وتفوقها مقاما لأن فيها ضخا لدماء جديدة من شأنها أن تعيد رسم الواقع انطلاقا من ثوابت هي أساس كل الامم التي تمايزت على وجه البسيطة.
وهذه الثورات، تتكئ على عامل جديد بالنسبة لأنظمة الرجل الواحد، وهو المدلول الإنساني الفردي لا السياسي. فهي ثورات سلمية، مدنية، ذات مطلب اجتماعي، إنساني. وهي باختيارها الحكيم للمنهج السلمي، تستولد من الصعوبات الاجتماعية المحيطة بها، مفهوما جديدا سيربك كاتبي التاريخ بدرجة كبيرة، إذ تضبط نفسها في حدود الاحتجاج السلمي، مقابل كل ما تتعرض له من قمع، وهو ما يضعها في فصل جديد لا يتشابه معه اي من فصول تاريخ الثورات. فالثورة تُعرَّفُ على أنها تطور دراماتيكي يبدأ بالتمرد ثم يتطور ليصبح عصيانا مدنيا ثم عصيانا’مسلحا، وما أن يبلغ أهدافه بتغيير النظام السياسي حتى يستحق تسميته بالثورة. أما الثورات العربية الراهنة، كالسورية مثلا، فهي أبرز مثال على امكانية العودة إلى الإرادة المجردة، والتمسك بالمبادئ الاولى أو البديهيات الإنسانية، ونبش مفاهيم أثبتت مرونتها التاريخية بعدما بدت لسنوات عديدة وكأنها آفلة لا أثر لها، كالحرية، والحركة الشعبية، والتظاهرة السلمية، والإطاحة بالنظام، وحتمية التغيير، وما سوى ذلك«’والثورة السورية استبشرت أهدافها العريضة منذ الأيام الأولى لانطلاقاتها. لذلك، منحت نفسها لقب ‘ثورة’، وهي بذلك قدمت النتيجة على الكيفية، ذلك لأنها أيضا ذات بعد عاطفي، وهو ما يعزز من قيمة الفرد في هذا النسيج الجماعي المحتج والمتعاضد. أما اتساع رقعتها وعدم قدرة النظام بآلته العسكرية وعناصره المرفقة بـ’الشبيحة’، على الإطاحة بها، يدل على تمسك الإنسان السوري بحقه كفرد في التعبير والاحتجاج، وعناده الناضج في فترة قياسية للتمسك بهذا الحق، وهو ما يشير إلى تراكمات غضب مهولة في نفوس السوريين، ويحرج الإدارة الرسمية التي وجدت نفسها في مأزق جدي، خصوصا مع افتقادها كل أمل بإخماد الثورة، خصوصا مع تحول الضربات العسكرية ضد الثوار السوريين إلى ما يشبه حملات القصاص الجماعي. الثورة تُضم بكل سهولة إلى الحركات الإحتجاجية الكبرى التي أسست لمنعطفات حادة في التاريخ. هنا، تتقاطع الثورة السورية مع ما يدعو إليه هسل كاللاعنف، والعصيان السلمي، ولو قرأنا كتابه قبل اندلاع الثورة السورية لما أخذناه على محمل الجد.
النهار