صفحات سورية

لكي لا يتخلل الربيع العربي “ربيع القاعدة”


حمود حمود()

عشر سنوات انقضت على أحداث سبتمبر (أيلول) 2001 ولا زال تنظيم القاعدة يحتل بؤرة الاهتمام الأميركي والعالمي في الحرب على الإرهاب. لكن لذكرى هذه السنة خصوصية تنفرد بها عن أي سنة مضت. حدثان تخللا هذه الحرب: الأول: مقتل رأس هرم القاعدة، أسامة بن لادن، أما الثاني فهو حدث الربيع العربي الذي استطاع أن يصنع خلخلة لأركان الصورة النمطية عن العرب والمسلمين في “المخيال الغربي”؛ ما يجعل الحديث الآن عن مواجهة الإرهاب غير ممكن من دون المرور على هذين الحدثين، لما لهما من انعكاسات واستحقاقات لا تتعلق فقط بمواجهة الإرهاب بحد ذاته، وإنما ترتبط أيضاً بمستقبل العلاقة بين الشرق والغرب.

مما لا شك فيه أن مقتل أسامة بن لادن قد شكل ضربة قوية للتنظيم، وبأن القاعدة مؤخراً قد ضعفت مقدراتها العسكرية وعتادها الفردي جراء جهد الولايات المتحدة في حربها على الإرهاب… لكن هذا لا يلغي القول إن مقتل بن لادن لم يشكل ولا يجب أن يشكل نقطة تحول كبيرة في السياسة الأميركية في تصميمها على مواجهة “البنلادينية” وأشقائها (والمستغرب أن كثيراً من حكامنا العرب قد “صمتوا” على مقتل بن لادن (؟) وكأن شيئاً قد خدشهم؛ حماس من جهتها استنكرت، معترضة كما قال أحد قادتها على “الطريقة التي قتل بها”).

ما هو مهم التأكيد عليه أن “تنظيم القاعدة” لا يمثل الإرهاب كله، بل هو شكل من أشكال الإرهاب عرفه عصرنا الحديث. البراديغم الإيديولوجي للقاعدة ليس طارئاً، بقدر ما هو متأصل في ثقافة من يسعون لمحاكاة عصر “ذهبي” بسيستيم ذهني “استثنائي” خارج من التاريخ. تنظيم القاعدة، لم يكن الأول الذي بنى على تلك الإيديولوجية أهدافه، ولن يكون الأخير. وبالتالي ما دامت هذه الإيديولوجية قادرة بفاعليتها على الثبات بأطرها الذهنية، وقادرة على الانتشار في “بيئات خصبة” متهيئة دائماً لاعتناقها…. عندئذ خطر الإرهاب سيبقى قائماً. المسألة إذن تتعدى القاعدة، والتي أثبتت أنها ما زالت قادرة إلى الآن بعد عقد من الزمان في الحرب ضدها على الثبات والاستمرار. مصدر قوة القاعدة لا يعود فقط إلى إمكاناتها المادية والتنظيمية اللامركزية، بقدر ما يعود إلى قوة الإيديولوجية، هذه القوة التي تختلف مستوياتها بحسب مستوى الشروط الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمعات الإسلامية التي تعيش فيها (تقوى هذه الإيديولوجية على سبيل المثال في مجتمعات موغلة بشدة في إيديولوجيا الماضي الذي لا يمضي مع شروط اجتماعية واقتصادية وثقافية متردية، كما هو الأمر في الصومال أو في اليمن “السعيد”، حيث تمثل كثير من مناطقه موطئ قدم قوي للقاعدة ولنمو مثل هكذا إيديولوجيات).

لو كان بن لادن هو الذي اخترع الإرهاب، وعنده ينتهي، لصح القول أنه تم القضاء على الإرهاب. لكن الإرهاب لم يبتدئ عند بن لادن ولن ينتهي عنده. أحد الباكستانيين من أصول عربية يقول: “لو قتلوا أسامة بن لادن، فعندنا مليون بن لادن!”. بالرغم من رمزية هذا الرقم، لكن هذا الباكستاني يعرف ما يقول: الإيديولوجية الإرهابية التي كان يستند إليها بن لادن، ثمة شعوب كثيرة إسلامية وحتى عربية مؤمنة بها، وهذه الإيديولوجية بإمكانها ربما أن تفرخ أكثر من مليون. لهذا ربما كان القضاء على بن لادن “رمزياً” أكثر من كونه انتصاراً حقيقياً لأميركا والعالم على الإرهاب. “رمزياً” بمعنى أن بن لادن كان يمثل فعلاً أكبر أيقونة إرهابية عرفها العالم الحديث.

الإشكال الرئيسي الذي وقعت فيه الولايات المتحدة في حربها على الإرهاب، هي أنها لسنوات طويلة (أكثر من خمس سنوات تلت أحداث سبتمبر)، لم تستطع تحديد من هو عدوها الحقيقي، فضلاً عن فهمه (الإيديولوجية التي يعتمد عليها، كيف يفكر، كيف يخطط)، من هم الحلفاء الذين يمكن أن تتعامل في إشراكهم في هذه الحرب. وكما هو معلوم أن ضبابية مفهوم العدو في إستراتيجية الحروب الأميركية التي شنتها على بلدين إسلاميين راح ضحيتها مئات الآلاف من الأبرياء، قد زاد الهوة أكثر بين الشرق والغرب.

هكذا سنقرأ ارتباكاً واضحاً لم يسبق له مثيل في المصطلحات التي غزت الصحف الغربية والتي تتناول ظاهرة الإسلام السياسي: مارغريت تاتشر مثلاً لا تشير إلى الراديكاليات إلا باستخدام مصطلح “إسلاميزم Islamism” بوصف ظاهرته بأنها “بلشفية جديدة” (Islamism is the new bolshevism) في مقالها المنشور في الغارديان في 12 شباط (فبراير) 2002؛ أو باستخدام مصطلحات من قبيل الفاشية الإسلامية Islamo-Fascism الذي سيطر لفترة على كثير من الصحف، (وهذا المصطلح استخدمه بوش أكثر من مرة)….الخ. كل هذا يدل على أنه كان ثمة غياب إستراتيجية واضحة في محاربة الإرهاب، وغياب مؤشر يحدد من هو العدو وكيف يجب التعامل معه، سواء عند صانعي القرار الأميركي أو حتى عند كثير الإيديولوجيات العربية أو الإسلامية.

الانعطاف في إستراتيجية الحرب الأميركية (لكنه لم يأخذ بعد شكل سياسة حقيقية) كان قد بدأ مع إدارة أوباما التي فضلت سياسة تقليص الحسم العسكري، واللجوء إلى خيار مواجهة الإرهاب Counterterrorism من داخله، أي ضرب الوكر الإيديولوجي الذي تستمد منه القاعدة مشروعيتها، باستخدام كثير من الأدوات: إشاعة ثقافة الديمقراطية، دعم الأحزاب الليبرالية، التشجيع على الاحتذاء بالنموذج الإسلامي السياسي بنسخته التركية، الاعتماد على حركات إسلام سياسي “معتدلة” (“معتدلة” بالمقياس الأميركي!) مثل الإخوان المسلمين الذين كما يرى كثير من أقطاب الإدارة الأميركية أنهم لا ينتهجون العنف من أجل تحقيق أهدافهم….الخ.

والآن، وبقدر ما قلب حدث الربيع العربي موازين السياسة الأميركية في الشرق الأوسط وكشف من جهة أخرى عن تراجع دورها فيه وبخاصة بعد الإطاحة بأهم حلفائها الذين يتساقط الواحد مهم تلو الآخر، إلا أن هذا الحدث بالرغم من أهمية لحظته التاريخية التي تعيشها بعض الشعوب العربية ذو حدين: فمن جهة أولى لا يمكن إنكار أنه يشكل فرصة أخرى للولايات المتحدة للتقرب من الشعوب الإسلامية والعربية، هذا فعلاً إذا كانت عازمة على مواجهة الإرهاب بنحو جدي، وليس بالاعتماد على الاستراتيجيات القديمة. إلا أنه من جهة ثانية وبنفس الوقت إذا كان حدث “الربيع العربي” قد أزاح شيئاً ما البساط من تحت أرجل القاعدة، إلا أنه من المحتمل أن يشكل “فرصة ذهبية” أخرى في استغلال مسار التغيير الديمقراطي. وليس هذا بغريب أن يحدث في مسار التاريخ، وبخاصة في المراحل الانتقالية منه.

لا يمكن إنكار أن القاعدة قد أثبتت على مدار السنوات السابقة أنها قادرة على إعادة إنتاج ذاتها، وإن بأشكال مختلفة. الآن الأصولية الدينية التي عادت صورتها لتحتل مركز الصدارة، باتت من “نافذة الربيع العربي”، تضخ دماء جديدة في عروقها. هل من الغريب أن نقرأ عن أمراء الحرب والجهاد في تنظيم القاعدة أنهم شاركوا وتعاونوا مع قوى الأطلسي للإطاحة بمعمر القذافي؟ لكن ما هو ملفت للنظر أن إدارة أوباما لم تعترف بالتقارير التي تردها بخصوص هذا الشأن إلا بعد الإطاحة والانتهاء من القذافي؛ ما يضع مرة أخرى إشارات استفهام كثيرة. ربما من المؤلم أن نسمع هذه الأخبار تتخلل الشعوب المنتفضة، لكن لا بد من الاعتراف بها لمواجهتها.

بينما حدث “الربيع العربي” (غير المصنع أميركياً)، صناعة عربية واستحقاقاته عربية، نجد أنّ مقتل بن لادن يمثل حدثاً أميركياً بامتياز، إلا أن انعكاساته ليست أميركية كما يحلو لكثير من الخبراء الأميركيين القول، والذين يؤكدون: بينما العرب مشغولون بصراعهم مع ديكتاتورياتهم، هم أقرب لنسيان حدث مقتل بن لادن، لكن الشعب الأميركي يوليه أهمية كبيرة لأنه حصد أرواح الآلاف من الأبرياء من الأميركيين والغربيين. هذه النظرة بكل بساطة تتناسى أنه بسبب بن لادن أيضاً، قتل مئات الآلاف من العرب والمسلمين، وازدادت الهوة بين الشرق والغرب، وجرى الإضرار بمصالح الولايات المتحدة نفسها على المستوى البعيد. من هنا لا بد دائماً من إدراك أن بن لادن والإيديولوجيات القريبة منه هي عدو مشترك لكل من يبتغي التقدم والحرية. ولا يهم الكلام الذي يقال عند البعض من الإيديولوجيين العرب أن بن لادن لم يكن إلا مفتاحاً أميركياً أو صناعة أميركية من أجل أن تُغزى بلاد العرب والمسلمين؛ ذلك أن هذا الكلام لا يخدم قضية مواجهة الإرهاب، ولا يقل تطرفاً عما تروج له بعض وسائل الإعلام الغربية، فضلاً عن أن هذا الكلام ينطلق من مؤطرات ذهنية مثالية أكثر من كونها تاريخية واقعية.

إن هذين الحدثين بقدر ما يشكلان إلى الآن نصراً كبيراً في الحرب على الإرهاب غير أنهما بنفس الوقت، إن لم يُتداركا، فإن من المحتمل أن يمنحا، ليس فقط القاعدة وإنما أيضاً الأصولية والتطرف، وجوهاً جديدة، وبخاصة أن الإيديولوجية الأصولية المتطرفة لا تعرف مكاناً محدداً.

من المهم إدراك أن معركة العرب ليست فقط مع الديكتاتورية، وإنما مع الأصولية كذلك، إضافة إلى الثقافة التي شرعت لهاتين الإيديولوجيتين، التي لولا “البيئات الخصبة” لهما، لما وصل العرب في تاريخهم إلى هذا الحد الذي هم عليه. المعركة إذن هي مع الشرط الثقافي وضرورة التزام الوعي السياسي، الذي يجب أن يصاحب تحركات الشعوب العربية. لقد وصل انسداد الأفق مثلاً في بلاد مثل سوريا واليمن إلى حد “الأزمة” وهو يمكن أن يصيب البلدين بأكملهما. ومن المهم عدم إنكار أن التطرف لطالما يزداد نمواً في مثل هكذا ظروف؛ ذلك أنه إذا لم يتدارك الوضع، فالأمور ستأخذ بالتأكيد مساراً آخر: القلق في سوراة من احترابات داخلية (لا نقول طائفية) والدخول في نفق مجهول، بينما في اليمن معاودة القاعدة نشاطها، وليس أدل على ذلك من العمليات التي قام بها أفراد من القاعدة في الأيام القليلة الماضية.

المنطقة مقبلة في المستقبل القريب على صراعات ربما تأخذ أشكالاً ثقافية وإيديولوجية، أو على الأقل كما نلحظ الآن أن الربيع العربي، قد بدأ يشهد نوعاً من إعادة موضعة لكثير من المفاهيم التي خلفها لنا إيديولوجيو القرون الوسطى؛ وبالتالي، أسئلة كثيرة من الممكن أن يقبل عليها الفكر العربي في المرحلة القادمة، أسئلة لن تبدأ بمفاهيم مثل الدين، الديكتاتورية، الأصولية، ولن تنتهي كذلك بـ “مفهوم الثقافة” ودور المثقف. وهذ من إحدى هدايا الانتفاضات العربية، لكن تبقى المسألة في كيفية استثمار هذه الأسئلة.

() كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى