صفحات العالم

مقالات لكتاب عرب تناولت أزمة عرسال الأخيرة

من الموصل إلى عرسال/ غسان شربل
تجاوزت أصول اللياقة ووضعت الخريطة في جيبي. تمنيت أن يكون المتحدث مخطئاً. كان ذلك في بدايات صيف 2012 ولم يكن الحديث للنشر. لكنني كنت مهتماً بمعرفة وجهة نظر الرجل الذي يتيح له موقعه اللقاء بصناع القرار في العالم.
قال الرجل إن المعارضة السورية قد لا تستطيع إسقاط النظام بسبب طبيعته وتحالفاته الإقليمية والدولية. وإن النظام قد لا يستطيع سحق المعارضة بسبب طبيعتها والتعاطف الإقليمي والدولي معها. يمكن حينها أن نواجه وضعاً شديد الخطورة. النظام يقيم على جزء من الأرض والمعارضة تقيم على جزء آخر والحرب مفتوحة.
أعرب عن خشيته من أن تصبح كتلة سنية تضم ملايين الأفراد عرضة لإغراءات التطرف. هذا يعني قيام نوع من أفغانستان جديدة لكن هذه المرة على أرض عربية وفي قلب العالم العربي. جدد تخوفه من تفكك سوري طويل الأمد.
سألت مستوضحاً. طلب إحضار خريطة ورسم عليها بقلمه. أشار إلى المناطق التي يمكن أن يحاول الأكراد الإمساك بالقرار فيها. إلى المناطق التي ستشهد تحركات الكتلة السنية. منطقة للنظام ستشهد إصراراً منه على الاحتفاظ بدمشق. سيصر أيضاً على استعادة حمص لضمان الطريق بين دمشق والساحل. رسم خطاً من حمص باتجاه البقاع اللبناني لضمان طرق مفتوحة وآمنة مع العمق الحليف في لبنان. أعرب عن تخوفه من احتكاك طائفي هناك إذا اعتبرت بلدة عرسال السنية شوكة في خاصرة الوضع الجديد أو كانت منطلقاً للقوى المعارضة لهذا الوضع.
قال أيضاً إنه يخاف على لبنان من الانزلاق إلى الحريق السوري. وتمنى لو يتخذ اللبنانيون قراراً عاقلاً بالابتعاد عن هذه النار على رغم اختلاف مواقفهم. وتساءل عن قدرة المؤسسات اللبنانية على احتمال ذيول صراع طويل في سورية.
عندما اعتدى مسلحو «جبهة النصرة» على مواقع الجيش اللبناني في عرسال تذكرت كلام المسؤول العربي وعدت إلى الخريطة المذكورة. حدث ما كان يتخوف منه. حدث ما هو أسوأ إذا أخذنا في الاعتبار ظهور «داعش» في سورية والعراق معاً.
لا شك أن ما تشهده بلدة عرسال خطر بكل المقاييس. يضاعف الخطورة أنه يأتي في منطقة تفاقم التدهور فيها إلى حد فاق بكثير ما توقعه المتحدث.
لا مبالغة في القول إننا نتحدث عن وضع غير مسبوق يمتد من الموصل إلى عرسال. فنحن في هذه المنطقة أمام تراجع سيطرة الدولة المركزية على أراضيها. يمكن القول إن العراق الذي كنا نعرفه لم يعد موجوداً. إننا نتحدث اليوم عن عرب وأكراد. عن سنة وشيعة. عن جزء من العراق يعيش في ظل الجيش مدعوماً بالميليشيات الشيعية. وعن منطقة للعرب السنة استولت عليها «داعش» وأعلنت فيها الخلافة. وعن منطقة كردية تعيش في حماية قوات البيشمركة.
يمكن القول أيضاً إن سورية التي كنا نعرفها لم تعد موجودة. منطقة خاضعة للسلطة يحميها الجيش وجيش رديف وتقاتل إلى جانبها ميليشيات لبنانية وعراقية حليفة لإيران. ومناطق الكتلة السنية موزعة بين «داعش» و«النصرة» و«الجيش الحر» و«كتائب إسلامية». المناطق الكردية تعيش في ظل أمنها الذاتي.
تقلصت سيطرة الدولة المركزية. وارتدى النزاع طابع الحرب الأهلية وسط نزاع سني- شيعي على مستوى المنطقة لم يعد يمكن إخفاؤه. ترافق ذلك مع سقوط الحدود الدولية. ميليشيات عراقية عبرت الحدود لتقاتل إلى جانب النظام السوري. و«داعش» أزالت تماماً علامات الحدود. هذا يصدق أيضاً على الحدود السورية-اللبنانية التي أسقطها من ذهب للقتال ضد النظام أو معه.
أخطر ما في حادث عرسال هو أنه يعلن رسمياً ودموياً إسقاط الحدود واستباحة السيادة لإلحاق لبنان بالمنطقة التي تبدأ من الموصل والتي سقطت فيها الدولة المركزية ومعها التعايش والحدود الدولية.
لا يحق للمسؤولين اللبنانيين أن يصابوا بالذهول أمام ما جرى في عرسال. فما سمعناه من المسؤول العربي سمعناه لاحقاً من مسؤولين وقياديين لبنانيين. إن لبنان جزء من هذا الإقليم الرهيب. وهذا الكعك من ذاك العجين بمخاوفه وانقساماته ورهاناته الانتحارية.
لقد استطاع اللبنانيون الاحتماء نسبياً من نار النزاع السوري على مدى ثلاث سنوات. لكنهم لم يغلقوا النوافذ التي تهب منها الرياح بل ساهموا أحياناً في فتحها. دخل لبنان الفصل الأكثر خطورة. حادث عرسال كشف هشاشة الأوضاع وتدهور العلاقات بين المكونات. تلزم قيادات استثنائية لمنع رياح الموصل من تجاوز عرسال إلى بيروت وطرابلس.
الحياة

 

عرسال/ زيـاد مـاجد
تتعرّض بلدة عرسال في البقاع منذ ثلاث سنوات لضغوط وتحدّيات كبرى، وتدفع أثماناً باهظة في نقطة التقاطع الأبرز بين لبنان وسوريا. وللأمر أسبابٌ عدّة.
السبب الأول، الانهيار السياسي المؤسّساتي في لبنان، حيث تصريف الأعمال الحكومية يبدو سيّد الموقف منذ العام 2011، وحيث المجلس النيابي كيان شكليّ يمدّد لنفسه ويعجز عن انتخاب رئيس جمهورية، وحيث الأجهزة الأمنية نهبٌ للتجاذبات السياسية بين أطراف يبدو بعضها مراهناً على “مناعة مجتمع” غير مدركٍ تآكلها، وأطراف أُخرى تظنّ فائض القوّة كافياً لردع الأهوال التي غالباً ما تستجلبُها هي نفسها الى الحلبة اللبنانية.
السبب الثاني، تفاقم أزمة اللاجئين السوريّين المُبعدين من ديارهم نتيجة حرب النظام الأسدي عليهم، وتمنّع الدولة اللبنانية والجهات الدولية عن بلورة سياسة واضحة ورصد الموازنات الضرورية لها لتنظيم النزوح وإدارة أحوال اللاجئين بما يحفظ بعض كراماتهم ويخفّف الضغط الاقتصادي والاجتماعي عن البلدات والمناطق الحاضنة لهم، وعرسال في طليعتها، المُعانِية أصلاً من تفاقم المشاكل والصعوبات المعيشية.
السبب الثالث، إنخراط حزب الله في المعارك في منطقة القلمون دعماً للنظام الأسدي، واستدراجه جماعات سورية مسلّحة يحاول بعضها استخدام الأراضي اللبنانية المحاذية لعرسال خطّ إمداد له، بما يجني على اللاجئين السوريّين أوّلاً وعلى مستضيفيهم ثانياً ولا يغيّر كثيراً في شروط المعركة. وللقائلين إن تحميل حزب الله المسؤولية افتراء سياسي أن يوضحوا أسباب هدوء الأمور نسبياً حتى أواخر العام 2012، لا بل حتى منتصف العام 2013، أي حتى صار انخراط الحزب اللبناني في القتال داخل الأراضي السورية مادة تفاخر علنيّ. ومقولة “الاستباق” مردودةٌ، لأنها تحوّلت “استجلاباً للشرّ” وليس منعاً له، ولأنها حتى لَو صدقت، قد فشلت فشلاً ذريعاً. أما اعتبار أن “ما كان سيجري أعظم لولا قتال الحزب داخل سوريا”، فمصداقيته لا تختلف في شيء عن مصداقيّة التدرّج في الدعاية الحزبية من أن “لا شيء في حمص” الى “الذهاب للدفاع عن اللبنانيين داخل سوريا” الى التعبئة لـ”منع أن تُسبى زينب” الى القول بـ”حماية خطّ إمداد المقاومة” الى إعلان “التصدّي للمؤامرات” وصولاً الى “محاربة التكفيريّين”…
السبب الثالث، تمكّن المقاتلين الجهادييّن، من “النصرة” و”داعش”، من تدعيم حضورهم العسكري في منطقة العمليّات العسكرية في القلمون إبتداءً من مطلع هذا العام. ذلك أن تفكّك الجيش الحرّ نتيجة تراجع الدعم له، أفسح المجال أمام جماعات مثل “النصرة” لاستقطاب عناصر تبحث عن سُبل قتال النظام. وأفسح لها المجال أيضاً لاحتلال مناطق ثم الانكفاء عنها على نحوٍ لا يبدو على الدوام مرتبطاً بخطط قتالية بقدر ما هو مرتبط باستراتيجية ظهور إعلامي يُترجم مزيداً من الاستقطاب تحضيراً لمراحل جديدة من الصراع. أما تنظيم “داعش”، ذو الحضور الضئيل (حتى الآن) في هذه المنطقة، فهدفه القول إن حدوداً جديدة بين دول المشرق صارت في مرمى نيرانه، وإنه مستمرّ في التمدّد رغم الجبهات العديدة التي يقاتل عليها في العراق وسوريا. ولعلّه يفيد التذكير هنا أن أكثر طرف قاتله “داعش” منذ ظهوره في الرقة في أيار 2013 كان كتائب الجيش الحرّ وبعض الكتائب الإسلامية السورية المقاتلة للنظام. ولا شكّ أن هذا التنظيم السرطاني صار اليوم مدعاة قلق في أكثر من بلدٍ من بلدان المنطقة، لكونه التعبير الأكثر عنفاً عن “القيح” الذي تُخرجه مجتمعات أعملَ فيها الاستبداد والتعفّن قمعاً وتنكيلاً (إضافة الى أسباب أُخرى، سبق وتناولناها في مقالِ “آباء داعش” في هذه الزاوية). وهذا لا يناقض في شيء الحكي عن مسؤولية حزب الله في استدراج القتال الى داخل لبنان، ذلك أن المعارك التي خاضها في سوريا والشعارات التي رفعها فاقمت بدورها من التردّي الذي يتيح لـ”داعش” (و”النصرة”) الدعاية والتمدّد على واقع مذهبي متوتّر في المقلبَين.
أما السبب الرابع، فهو هشاشة ضبط الأجهزة الأمنية والعسكرية اللبنانية (الشرعية) للحدود مع سوريا نتيجة عاملَين. الأوّل، الارتباك في علاقتها بالأجهزة التابعة للنظام السوري الجاثمة على المقلب الآخر، العاجزة عن – أو الراغبة بعدم – الضبط. ولنا في مسلسلات كثيرة خاض في بعضها القضاء اللبناني أمثلةً (ليست قضية ميشال سماحة سوى واحدتها)، ولنا كذلك في التردّد تجاه التعامل مع مصادر النيران السورية حين تُستهدف عرسال نفسها وأطرافها من الجوّ والبرّ مثالاً إضافياً. وطبعاً لنا في انعدام القدرة على منع التحرّكات العسكرية من لبنان الى سوريا (لآلاف مقاتلي حزب الله) ما قد يُفضي الى صعوبة منعها في الاتجاه المعاكس.
كلّ هذا، يوصِل اليوم الى ما تعيشه عرسال وأهلها واللاجئون فيها من مأساة. ويوصل أيضاً الى تحوّل الجيش اللبناني وقوى الأمن ضحيةً لوضع فُرض عليها، فيدفع المدنيّون والعسكريوّن أثماناً بدمهم وممتلكاتهم، لا يبدو أنّ “المسؤولين” السياسيين جاهزون للتصدّي لها وإدارتها بما يطوي صفحتها، أو على الأقلّ يحدّ من احتمالات تكرارها وتطوّرها…
موقع لبنان ناو

 

عرسال تدفع الثمن/ الياس حرفوش
لم يكن صعباً توقع حصول ما يحصل اليوم في بلدة عرسال البقاعية، هذه البلدة التي تحولت محطة لتجوّل الحرب السورية ذهاباً وإياباً عبر الحدود الفالتة بين البلدين. هكذا صارت عرسال الضحية الأولى للشعار الشهير «شعب واحد في بلدين». هذا الشعار الذي دفع بعض مناصري نظام بشار الأسد بين اللبنانيين الى الاستخفاف بمبدأ عدم التدخل في شؤون الجيران، وإلى الانتقال الى الداخل السوري لنصرة النظام على خصومه ومعارضيه، ولإحداث انقلاب جذري في المعادلة العسكرية، لم يكن ممكناً من دونه بقاء النظام الى اليوم، فوق جثث أكثر من 160 ألفاً من أبناء شعبه.
عرسال اليوم هي ضحية موقعها الجغرافي الذي تحولت بسببه الى ملجأ لتجمع كبير من الهاربين من الحرب السورية، كما جعلها موقعها هذا على تخوم خط النار الملتهب في منطقة القلمون جزءاً من تلك الحرب، تتعاطف مع ضحاياها نتيجة انتمائها المذهبي، وتتعرض للاتهامات من قبل النظام السوري ومناصريه بحجة إيواء المعارضين وتسهيل علاجهم داخل البلدة أو تسهيل تنقلهم عبر الحدود.
منذ بداية الأزمة في سورية أطلق عقلاء لبنانيون من كل الطوائف شعار النأي بالنفس عن هذه الأزمة. استخفّ كثيرون من أنصار بشار الأسد بهذا الشعار وهزئوا منه. كانت النظرية في الدفاع عن موقفهم أن تدخلهم في سورية هو الذي سيجنّب لبنان وصول نار هذه الأزمة إليه. وعلى رغم مواقف سياسية رسمية على أعلى المستويات، وعلى رغم اتخاذ الحكومة اللبنانية (السابقة) قراراً بتجنيب لبنان هذه الكأس، استمر التدخل، واستمر تدفق المسلحين من سورية وإليها عبر الحدود، من دون حسيب ولا رقيب، ومن دون أن تشعر القوى الأمنية اللبنانية أن واجبها يقضي بتحصين الحدود ومنع هذا الانفلات، كما كانت تقتضي مسؤولياتها.
لم تكن صعبة أيضاً قراءة الاحتقان المذهبي الذي يشعل المنطقة بأسرها ويغذي فيها عناصر التطرف من كل صوب. كيف كان للبنان أن يبقى بمأمن من هذا الاحتقان، وأن يحمي مواطنيه من كل المذاهب من ارتداداته، فيما تأخذ الحرب في سورية طابع الصراع المذهبي الواضح، حيث يشعر فريق المعارضة فيها بأنه ضحية التجاهل الدولي والعجز العربي، يضاف إليهما تدخل قوى مسلحة خارجية (عراقية ولبنانية) برعاية إيران لحماية نظام هذا البلد العربي من ثورة شعبه؟
ظهور تنظيم «داعش» و «جبهة النصرة» في سورية، على أنقاض المسلحين من المعارضة المعتدلة، التي كانت تضم ذات يوم ما عرف بـ «الجيش السوري الحر»، لم يكن سوى النتاج الطبيعي لذلك التجاهل والعجز، كما للتدخل الخارجي في الشأن السوري، فالتنظيم الإرهابي الذي لا ينتمي سلوكه الى هذا العصر، والذي يمثل إساءة كبرى للدين الإسلامي وللصورة التي يريد أن يقدمها عن نفسه الى العالم، لم يكن ظهوره مجرد صدفة، ولا هو الصوت الطبيعي الذي ينطق باسم «بيئته الحاضنة»، سواء كان في سورية أو في العراق، كما أنه ليس بالطبع الصوت الطبيعي الذي يمثل اليوم سنّة لبنان أو يعبر عن مواقفهم. «داعش» لا ينمو إلا حيث تسقط الأنظمة وتعجز عن حماية بعض أبناء شعبها، أو تدفعهم الى مربع التجاهل والتهميش.
من حسن حظ لبنان اليوم أن هناك التفافاً واسعاً حول جيشه في المعركة التي يخوضها لاستعادة سيادته. لم نسمع أصواتاً من أي فريق تعتبر بلدة عرسال «خطاً أحمر»، مثلما سمعنا ذات يوم عندما خاض الجيش معركة لإنقاذ مخيم نهر البارد في الشمال من سطوة الإسلاميين المتطرفين الذين قدموا من الأراضي السورية. ربما أن الجيش تأخر في بسط سيادته على حدود لبنان الشرقية، لكن معركته الحالية هي معركة لإنقاذ الدولة من مخاطر التفكك والانهيار. والأجدى أمام هذه المعركة أن يصمت الجميع عن الانتقاد كما عن الإشادة، وأن يتركوا الجيش وسائر القوى الأمنية تنعم بهذا الالتفاف الوطني وتستفيد منه لحماية الدولة أو ما بقي منها.
الحياة

 

احتمالات خطرة توَّجها تدخّل الطيران السوري وعوامل إحتواء أبرزها التغطية الكاملة للجيش/ روزانا بومنصف
بدا دخول طيران النظام السوري عبر غارات شنها على جرود عرسال تزامنا مع دخول البلدة ومحيطها في مشروع هدنة تمهد لانهاء التطورات الامنية فيها بمثابة عرقلة لاتفاق الهدنة وتسعير للمعركة في ما يعكس مصلحة للنظام في استكمال الجيش اللبناني مواجهته مع المسلحين. كان احتمال وجود قرار للنظام السوري بالدخول على خط الازمة الناشئة في عرسال عنصرا من عناصر القلق التي انتابت مسؤولين كبارا ذعروا من تطور الاحداث في المنطقة . اذ انه في حال فتحت المعركة في عرسال يصعب الاعتقاد انها قد تقتصر على البلدة ولا تتمدد الى مناطق اخرى في البقاع او سواها. كان هذا العنصر احد ابرز المحاذير لما حصل بالاضافة الى محاذير اخرى من بينها ان اي معركة طويلة قد تستنزف الجيش في حال تم التسليم جدلا بان الوضع قد يشابه ما حصل في مواجهة نهر البارد علما ان هذه الاخيرة كانت محصورة بمخيم محدد وكان ثمة اجماع وطني وتغطية سنية عارمة لها فيما المواجهة في عرسال حصلت على تغطية سنية كبيرة ايضا من كل من الرئيس سعد الحريري وكتلته ورئيس الحكومة تمام سلام. لكن المواجهة في عرسال مفتوحة على تطورات قائمة ومستمرة في سوريا وتستدرج المزيد من النازحين الى لبنان في موازاة اشتعال المنطقة على وقع صراع سني شيعي خطير.
لم تخف مصادر معنية توافر تقارير ترد فيها تساؤلات ازاء احتمالات عن تقديم “حزب الله” المساعدة للجيش اللبناني في فك الحصار عن بعض حواجزه بداية وما اذا كان سيساعده في مواجهة المسلحين على قاعدة انه اذا كان الحزب ذهب الى سوريا بذريعة مواجهة من سماهم التكفيريين فقد يرد انه من الاولى ان يساعد في مواجهة هؤلاء في لبنان. كما ترد فيها تساؤلات اذا كان هناك قرار من جانب النظام السوري بمحاولة مواكبة المواجهة التي يقوم بها الجيش اللبناني عبر غارات وعمليات قصف توحي بمساعدة الجيش كأنهما شركاء في مواجهة واحدة وذلك كرد فعل على غارات قام بها طيران النظام في جرود عرسال. واستتباعا وردت تساؤلات اذا كان ثمة توجه لدى “حزب الله” لفتح معركة داخل عرسال في حال تطورت المواجهات وازدادت خطورة.
وليس خافيا ان المؤشرات كانت كلها مقلقة بدرجة كبيرة بالنسبة الى مسؤولين كثر على اختلاف مواقعهم ومسؤولياتهم، ولا تزال نظرا الى انه قد ينجح ارساء هدنة تخرج المسلحين من عرسال راهنا. لكن الوضع في البلدة صعب في ظل استمرار الحرب السورية وتداعياتها على لبنان اولا مما يرجح بقاء النزف مستمرا في اتجاه عرسال وسواها ولان هذا الوضع متروك من الدولة اللبنانية وهو لم يلق المعالجة المطلوبة ثانيا. ومن ثم لان الدولة فشلت فشلا ذريعا في اقامة مخيمات للاجئين السوريين بحيث يسهل على الجيش والقوى الامنية مراقبة حركة الكثيرين منهم. ولعل لبنان يدفع ثمن التقصير في ضبط النزوح وتركه على الغارب نتيجة رفض افرقاء سياسيين عديدين اقامة مخيمات كما في تركيا او الاردن حيث تبقى حركة اللاجئين مضبوطة ولا تتسبب لاي من البلدين المذكورين باضطرابات خطيرة كما حصل في عرسال. ووعي هذه الاسباب لا يعني امكان معالجتها لصعوبة ذلك او استحالته في هذه المرحلة.
تراجع نسبة القلق بعض الشيء استند الى مجموعة عوامل كان ابرزها ما تم ترجمته في اطلالة حكومية اريد لها ان تكون موحدة شكلا ومضمونا معبرة عن الآتي:
وحدة الموقف مما يجري في عرسال ووضع الخلافات الجانبية خارج موضوع الوضع الامني هناك والتعبير عن الالتقاء في صف واحد في مواجهة الارهابيين على نحو يضع حدا لاي محاولة للعب على التناقضات السياسية او الطائفية في هذا الاطار. الامر الذي يجب ان يساهم في تخفيف نسبة التشنج التي كانت بدأت تعلو على وقع المواقف المعلنة على ما يجري في عرسال وتطويق ردود فعل الشارع الذي يمكن ان يؤدي الى تأزم خطير.
وحدة الموقف السياسي من دعم الجيش اللبناني ايا كانت الظروف التي احاطت بتفجر الاحداث في عرسال والتي عبر عنها تأمين غطاء سني كامل له عبر عنه كل من رئيس الحكومة والرئيس الحريري والرئيس فؤاد السنيورة على قاعدة ان لا تغطية سنية للارهاب لا محليا ولا تغطية اقليمية له ايضا وفق ما عبر عن ذلك الملك السعودي عبدالله بن عبد العزيز قبل ايام قليلة. في المقابل يخشى البعض ان يكتسب دعم اي فريق داخلي لاي فريق غريب ايا تكن الاسباب سياسية او انسانية او دينية طابعا يكرر ما حصل في بداية الحرب الاهلية في لبنان ولو ان الظروف مختلفة مع مناصرة افرقاء داخليين الفلسطينيين وتوسع نفوذهم. لكن المبدأ يبقى هو نفسه علما ان المخاطر اكبر في ظل الصراع السني الشيعي المحتدم في المنطقة راهنا.
وثمة من يوضح استكمالا لهذه العناصر المتصلة بوحدة الافرقاء السياسيين داخل الحكومة ان مرابض مدفعية الجيش اللبناني هي التي قصفت المسلحين وليست مرابض مدفعية “حزب الله” نظرا الى وعي الحزب خطورة القيام بمثل هذه الخطوة والتداعيات السنية الداخلية التي قد تؤدي اليها وان الحزب اكثر من اي وقت مضى مدرك لخطورة اي خطوة خصوصا بعد التطورات الدرامية في العراق التي لا تسمح بترف المخاطرة باداء قد يؤدي الى تطورات كارثية.
النهار
لبنان المخطوف قبل عرسال!/ راجح الخوري
ليست عرسال نسخة من بوسطة عين الرمانة التي اخذت لبنان الى الحروب عشرين عاماً بل هي أكثر من ذلك بكثير، لأن لبنان كله بات اشبه ببوسطة قد تسقط في أتون الحروب المذهبية التكفيرية المتوحشة، التي تحرق المنطقة، التي أعيدت ١٤٠٠ عام الى الوراء.
لا يحتاج الجيش الى بيانات التأييد ولا تحتاج عرسال الى الانشاء الفارغ، ومن السخف الحديث عن تحرك خارجي في اتجاه دول لها تأثير على تلك التنظيمات التكفيرية الارهابية، التي لا تريد هدم المنطقة على رؤوس حكوماتها فحسب بل وصلت بها الهمجية حد التهديد بهدم الكعبة!
لست ادري اذا كان من الممكن ان يستعيد اللبنانيون المنقسمون على حد السكاكين المذهبية الوعي الوطني، تحت وطأة النار في عرسال وتحت عسيس الكراهيات في مناطق لبنانية اخرى، وخصوصاً في ظل الحرائق المستعرّة في المنطقة على أسس مذهبية.
لكنني أخشى من ان تتحول عرسال جرحاً أخطر من مشكلة نهر البارد، لأن الظروف مختلفة بين شاكر العبسي حصان طروادة الارهابي للنظام السوري آنذاك، وبين “داعش” و”النصرة” اللتين تقاتلان من الموصل الى عرسال، بينما يتفرج العالم الذي استولدهما من وحشية النظامين السوري والعراقي!
ان مصير لبنان كله على المحك، لأنه مخطوف منذ زمن قبل ان يخطف الارهابيون عرسال، انه مخطوف على أيدي احزابه وسياسييه الذين استجلبوا النار السورية اليه، وقد تركوا الحدود سائبة تعبرها أوهام مراهناتهم جميعاً على صراعات الاقليم المشتعل وعلى استراتيجيات لا تنتج سوى الدمار والمآسي!
عندما يكون مصير لبنان على المحك والوضع اخطر مما يتصور الكثيرون، يصبح كل حديث عن اتفاق لوقف للنار بين الجيش والارهابيين التدميريين، معبراً الى استنساخ مسلسل من الاعتداءات، وخصوصاً في ظل التأكيد ان ما جرى لم يكن رداً على اعتقال الارهابي عماد جمعة، بل خطة مدبرة هدفها اقامة “أمارة عرسال” كامتداد للدولة الاسلامية، وهو ما يزج لبنان في أتون الصراع الذي لم نتداركه منذ اربعة اعوام عندما تركنا الحدود سائبة امام النار السورية.
وعرسال التي استضافت اللاجئين السوريين وقعت اسيرة أعداد منهم تبين أنهم من العناصر الارهابية النائمة قامت بمناصرة الارهابيين، تقدم الآن درساً الى كل المناطق اللبنانية التي استضافت حتى الآن اكثر من مليوني لاجئ سوري فافتحوا عيونكم!
وعندما يقول الجيش ان الحل لا يكون إلا بالقضاء على الارهاب، وان الضريبة التي يدفعها الجيش قليلة نسبة الى ما قد يدفعه لبنان اذا لم يتم ضرب الارهابيين، فأن على السياسيين الذين جعلوا الدولة رهينة بلا رأس ان يحسوا بالنار تحت اقدامهم، وعلى اللبنانيين ان يتذكروا ان الهوية الوطنية هي التي تحميهم اكثر من المذهب المدوّن عليها!
النهار

 
أسئلة ضرورية حول عرسال/ راجح الخوري
هل من المعقول ان يبلغ عدد الارهابيين الذي اختطفوا عرسال واعتدوا على الجيش وقوى الامن وعلى اهالي البلدة، ثلاثة آلاف مسلح ومن جنسيات مختلفة، وان تبقى السلطة اللبنانية زمناً طويلاً متعامية عن الخطر الذي يمثله وجودهم في تلك المنطقة، وخصوصاً بعد مسلسل الصدامات بينهم وبين “حزب الله” الذي شرّع الحدود عندما ذهب لنصرة النظام السوري؟
وهل كان من المفاجئ ان يظهر في مخيمات اللاجئين السوريين متطرفون وارهابيون سارعوا الى حمل السلاح والتعاطف مع هؤلاء التكفيريين، وقاموا بالسيطرة على البلدة واحتجزوا الرهائن وأطلقوا النار على الجيش، واين كانت الاجهزة المختصة ولماذا لم تعرف اساساً بوجود هذه العناصر، واذا كانت تعرف فلماذا سكتت كل هذا الوقت ولماذا تغاضت عن بقاء هذه القنابل الموقوتة؟
واذا كان هؤلاء يلوذون بمخيمات اللاجئين في المنطقة كلما كانت المعارك مع الجيش السوري و”حزب الله” تدفعهم غرباً، فلماذا لم تبادر السلطة اللبنانية او ما تبقى منها، الى اعطاء الجيش وقوى الامن الاوامر الضرورية لمعالجة هذا الخطر قبل ان يتفاقم وينفجر؟
وهل كان من الضروري ان يسقط ١٦ شهيدا و٨٦ جريحاً إضافة الى ٢٢ مفقوداً من القوى اللبنانية لكي تعلن الحكومة “استنفار كل مؤسسات ودوائر الدولة لمواجهة الارهابيين وان لا تساهل معهم ولا مهادنة ولا حلول سياسية مع التكفيريين” على ما اعلن الرئيس تمام سلام، وحكومته ليست مسؤولة عن كل هذا لكنها وارثة لهذا الوضع الذي يتفاقم منذ ثلاثة اعوام؟
ان المستوى السياسي والحزبي في البلاد هو المسؤول عن فضيحة ما جرى، لأنه منقسم حول الازمة السورية منذ البداية وحول ما اذا كان يجب دعم النظام الذي يذبح شعبه او مؤازرة الشعب الذي يتعرض لتدمير وحشي تمادى الى درجة استيلاد هذه الحركات الارهابية التكفيرية، التي لم تعد تقاتل من منطلق المعارضة بل من منطلق العدمية المطلقة والجريمة البدائية، مستغلة الدين ومؤججة نار الفتنة السنية – الشيعية التي قد تحرق المنطقة كلها!
وهل كان من الضروري ان يسقط الشهداء من الجيش وقوى الأمن والاهالي في عرسال، لكي نعلن الاستنفار العام ونؤكد ان الحل الوحيد هو انسحاب الارهابيين من الاراضي اللبنانية؟ أولم يكن مجرد دخول هؤلاء الاراضي اللبنانية مبررا كافياً لإعلان الاستنفار العام، ام ان الدولة او ما تبقى منها كانت مجرد شاهد زور يتفرج على المعارك والاشتباكات تدور على ارض لبنان بين “داعش” و”النصرة” وبين “حزب الله” والنظام السوري؟
ولماذا نؤجّل النقاش في المسببات الى يوم آخر، فالجيش يقوم بدوره الوطني في مواجهة الارهابيين والشعب وراءه، لكن من واجب المسؤولين الانكباب فوراً على مناقشة ماسمّاه رئيس الحكومة المسببات لإنهائها!
النهار

 

عرسال: التدحرج على السفح/ حسام عيتاني
غطت الحرب الإسرائيلية على غزة وتطورات الوضع في شمال العراق على أهمية ما يجري في بلدة عرسال اللبنانية، وما يشير إليه من بداية مرحلة جديدة من تفكك الدولة، كمفهوم وبنية، في لبنان وعموم المشرق العربي.
عندما تتناول وسائل الإعلام، المرئية منها خصوصاً، ما يجري في البلدة البقاعية فهي تركز على الجانب العسكري والأمني، من تقدم لمجموعات تنظيمي “داعش” و”النصرة” من مناطق القلمون السورية والاستيلاء على القرية وتمركزهم بين المدنيين من لبنانيين ولاجئين سوريين ورد الجيش اللبناني عليها وما يدخل في هذا الباب. المأساة الانسانية التي يعيشها عشرات آلاف اللبنانيين وأكثر من مئة وعشرين ألف سوري من النازحين من القصير ومناطق القلمون، لا تحظى بالأهمية اللازمة.
بيد أن كل ذلك يبقى في الجانب المباشر الآني من المسألة. فالحقائق التي يفترض أن يهتم بها متابع الشأن اللبناني والعربي تظل بعيدة عن الأضواء. من الحقائق هذه المرحلة التي بلغتها الحرب الأهلية السورية وما تعنيه من عجز أي من أطرافها أو ربما امتناع الأطراف هذه – الإرادي على الأرجح- عن حسم الموقف ميدانياً لحسابات تتعلق بالفوائد التي يجنيها كل منها من الوضع القائم. وينطوي هذا على الاستثمار في تهرؤ الدولة وتفككها وانهيارها على نحو يضمن لقوى السلطة البقاء في موقعها إلى ما شاء الله وإغراق خصومها في صراعات جانبية.
اضمحلال الدولة يأخذ شكلاً مختلفاً في لبنان. وما تعيشه بلدة عرسال وما مرت به مدينة طرابلس (والذي يرجح كثر أن يتكرر في غضون أيام أو أسابيع بعد بلوغ الاحتقان الأمني فيها درجة خطيرة)، لا يخرج من سياق العطل الشامل الذي أصاب النظام السياسي اللبناني حوالى عشرة أعوام وأخذ اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري شكل الإعلان عن بدايته.
يرجع مأزق النظام السياسي في الزمن إلى ما قبل الثورة السورية و”الربيع العربي” وبدا أن الانتخابات التشريعية في 2009 كانت الفرصة الأخيرة لإصلاح جدي في النظام وقد أضاعها اللبنانيون من دون أن يرف لسياسييهم جفن. ما حملته الثورات العربية نقل لبنان إلى مرحلة متقدمة نوعاً من ازمته. لم يعد النظام السياسي وحده في خطر، بل ظهر إلى السطح عقم الاجتماع اللبناني وعجزه عن تطوير نفسه وإيجاد الحلول لمشكلاته وظهر أيضاً تجوف الدولة اللبنانية ووقوعها تحت سيطرة الزعامات الطائفية من دون أدنى أمل في إنتاج حلول ترضي السكان وأن هؤلاء السكان لم يرتقوا ليشكلوا مجتمعاً وفق التعريف البسيط للمفهوم.
باختصار، أدى التنازع المذهبي المديد إلى وصول “الدولة” في لبنان إلى العجز الكامل عن أداء مهماتها وإلى سيطرة الطوائف الأقوى على الأجهزة الأهم فيها وتسييرها وفق مصالحها بما يتناقض مع كل الأشكال المعروفة لمعنى الدولة. ثم جاءت سياسة “النأي بالنفس” بعد اندلاع الثورة السورية لتبعد لبنان عن التورط في الأتون السوري، نظرياً، لكنها أدت إلى انزلاق البلاد إلى تأييد الأطراف المتقاتلة وإرسال المقاتلين من الطائفتين السنية والشيعية (مع الانتباه إلى الفوارق في الحجم والأثر الذي تركه تدخل كل طرف على الصراع السوري) وأداء لبنان دوراً مهماً بالنسبة إلى تهرب النظام السوري من العقوبات الدولية الخ… بكلمات ثانية، كان لبنان في الأعوام الأربعة الماضية ساحة خلفية وخزاناً بشرياً لكل الأطراف السورية.
وكان اللبنانيون يطمئنون أنفسهم أن ما من قرار دولي بتفجير الوضع في بلدهم اعتماداً على تصور راسخ أن الموقف في لبنان لا ينفجر انفجاراً كبيراً إلا بقرار تتخذه قوى اقليمية ودولية ويتولى الحلفاء المحليون تنفيذه. يبدو أن هذا المعطى بات في حاجة إلى إعادة نظر عميقة.
وجلي أن الدول التي كانت تتحكم بمسارات التفجير والتهدئة في لبنان، وبعد أن وضعته جانباً فترة طويلة وأهملت استغلال ساحته، باتت في شغل شاغل عنه بعد انتقال الصراعات إلى داخلها وتورطها في حروب ونزاعات ومشكلات تحول عملياً دون أن تمارس ما كانت تقوم به على امتداد العقود الماضية. لقد بلغ حجم التغييرات الزلزالية التي وقعت في العالم العربي حداً تبدلت معه آليات اتخاذ القرار في العواصم الإقليمية، من طهران إلى دمشق وغيرهما، وأولوياته والقدرة على تنفيذه. ربما يكون لهذا بعض الإيجابيات بالنظر إلى تجنيب الدول الأصغر عبء تحمل تبعات تدخلات الاخرين. لكن في المقابل، يعلن ذلك أن الوضع في المنطقة بات مفتوحاً على كل الاحتمالات وأن ما من قوة جدية قادرة على تسييره أو التحكم به.
لذلك تبدو صورة لبنان ككتلة حجرية تتدحرج على سفح منحدر من دون أن يتمكن أحد من توجيهها. وهي ماضية في طريقها بناء على قانوني الصدفة والجاذبية…نحو القعر أو ما يعادله.
موقع 24

 
من يوقف “داعش”؟ وبأيّ ثمن؟/ موناليزا فريحة
من الرقة الى عرسال مروراً بالموصل يفتح تنظيم “داعش” جبهة تلو أخرى، مرسخاً خطته لاسقاط الحدود بين الدول وإقامة دولته المارقة، ودافعاً حمم البركان الاقليمي المتفجر الى مناطق جديدة. وحتى مظلة الاستقرار اللبناني التي ضاقت في عيون بعضهم، حسداً ربما أو رغبة في تصفية حسابات سياسية ومذهبية على الأرجح، لم تعد كافية لحماية هذا البلد الذي لم يكن أصلاً بمنأى تام عما يحصل.
كثيرة هي التساؤلات عما اذا كانت ثمة قوى اقليمية قادرة على مواجهة الخطر الداهم لهذا التنظيم أو ما اذا كانت ثمة استراتيجية دولية حقيقية للتصدي له.
عندما أرغمت “الدولة الاسلامية” مسيحيي الموصل على مغادرة بيوتهم هرباً من موت محتّم، خرج بعض من السياسيين الاوروبيين يتباكون على مسيحيي الشرق، علماً أنهم كانوا الى وقت قريب يتجاهلون وجودهم، ويرفضون منحهم حق اللجوء. وتوحي السجالات بين اليمين واليسار في أوروبا، باحتمال استغلال هذه القضية سياسياً، تماماً كما كان يحصل مع موارنة لبنان خلال الحرب الأهلية.
وبعد مسيحيي الموصل، وقبلهم سكان الرقة ومدن سورية واسعة، ها هم ايزيديو العراق يواجهون اضطهاد “داعش” على مرأى ومسمع من العالم. وعلى مساحات تفوق مساحة لبنان أو الأردن أضعافاً، يتجاوز التنظيم بممارساته في سوريا والعراق، وحشية “طالبان” و”القاعدة”. وبعد تقارير عن عمليات صلب ونحر واعدام، ثمة مخاوف من أن يلجأ التنظيم الذي سيطر على سد الموصل، الى اغراق المدن والبلدات والحقوق على طول نهر الفرات وصولاً الى كربلاء. فمع تلك الضروب من العدمية التي أظهرها التنظيم يمكن بسهولة تصور أمر كهذا.
وإزاء التمدد السريع لهذا التنظيم، صار البحث عمن يستطيع وقفه مسألة ملحة ومصيرية. وثمة من يرى أن الأكراد هم القوة الوحيدة القادرة على القيام بهذه المهمة، وأن على الولايات المتحدة دعمهم عسكرياً لتحقيق هذا الهدف. حتى المالكي نفسه أمر سلاح الجو العراقي بشن غارات جوية لدعم الأكراد، وهو ما يؤكد عجز الجيش العراقي عن مقاتلة “داعش” بنفسه. وفي المقابل، أرسل النظام السوري إشارات عدة في هذا المجال. فبعد الغارات التي شنها على مقاتلي التنظيم داخل الأراضي العراقية، تدخل أخيراً على خط المواجهة في عرسال بقصفه مواقع للمقاتلين أيضاً.
من المؤكد أن الأكراد لن يحاربوا عن بغداد بلا ثمن، وان النظام السوري لا ينوي بالطبع تقديم ما عنده من دون مقابل، بعدما تغاضى طويلاً عن تمدد “داعش” على حساب خصومه الآخرين. حتى الآن يبدو الجيش اللبناني وحده يدافع عن أرضه بلا مقابل ولكن بثمن باهظ!
النهار

 

دعم الجيش ضد “النصرة” و”داعش”… كيف؟/ عبد الوهاب بدرخان
مع الجيش اللبناني ضد المسلّحين، نعم وبكل تأكيد، ضد جميع المسلّحين، المتعددي الجنسية القادمين من وراء الحدود، أو اللبنانيين المتعددي الانتماء والمذاهب العابثين داخل الحدود. هذا خيار واضح لا تردّد فيه، كان صحيحاً قبل اندلاع الأزمة السورية عندما تعالت المناشدات لأن يكون سلاح الجيش السلاح الشرعي الوحيد، ويبقى صحيحاً اليوم وغداً بعدما ظهرت المجموعات الارهابية وتحاول أن تكرر في لبنان سيناريوات الرقة السورية ونينوى العراقية وبنغازي الليبية وأبين اليمنية.
معروف في لبنان مَن كان يطالب بأعلى الصوت بتعزيز الدولة، بتجهيز الجيش والاعتماد عليه. ومعروف أيضاً مَن كان حتى أمس قريب لا يبالي بهذه الدعوات ويعتبرها فئوية موجهّة فقط ضد “سلاح المقاومة”. للمفارقة نجد أن الفريق الذي كان يستخف بهذه الأولوية الوطنية يقفز لتصدّر الحملة الشعبية العفوية المتضامنة مع الجيش وكأنه يقودها، متناسياً أن الكثير مما نشهده حالياً هو نتاج سعيه الى الاستحواذ على الدولة والجيش.
لا أحد ينقض الأولويات التي فرضت نفسها، وعلى رأسها طرد “داعش” و”جبهة النصرة” وإنهاء اعتدائهما على السيادة اللبنانية، وقطع الطريق على اختراقهما مناطق السنّة. أما الأولوية القصوى غير القابلة للجدل فهي للوقوف مع الجيش في مواجهة المخاطر المتصاعدة. حيال وضع كهذا، يُراد للبنانيين أن يعتبروا ما يحصل كأنه طارئ، لم تكن له مقدّمات، ولن تكون له عواقب، فلا داعي للنقاش حوله، أو فليؤجل النقاش “الى يوم آخر”، كما تمنّى رئيس الحكومة. لم تكن المشكلة يوماً في الأفكار ووجهات النظر مهما احتدّت وسخنت، وإنما في اعتداءات عديدة مديدة على السيادة، دولةً وجيشاً، وأرجئ نقاشها وفشلت معالجتها فبقيت نتائجها واعتملت وواصلت تسميم البلد والمجتمع. اعتداءات من النظام السوري ليست معركة نهر البارد أولها ولا الاغتيالات السياسية آخرها. واعتداءات من “حزب الله” ليس أولها المشاركة في الاغتيالات وانتهاك بيروت وإسقاط “حكومة توافقية”، ولا آخرها الاستهزاء بهيبة الدولة وبالإجماع الوطني على عدم التدخل في الصراع السوري.
فالنقاش ليس مطلوباً لذاته، أو لإذكاء الشحن الطائفي، بل هو مطلوب أولاً داخل الحكم لبلورة سياسات تكون بوضوح لمصلحة جميع اللبنانيين. طوال الأعوام السابقة، هل سمع أحد من عرسال وأهلها شيئاً آخر غير المطالبة برعاية الدولة والجيش، وهل توقع أحد أن تنجح بلدية عرسال وحدها في ضبط أوضاع النازحين السوريين؟ لكن الاهمال وانعدام الرؤية والاعتبارات السياسية شاءت غير ذلك. وما دام الخطر دهم لبنان فعلاً ولا سبيل إلا دعم الجيش، فالأحرى أن يُدعم بخطوة وطنية سامية هي انتخاب رئيس للجمهورية، وبخطوة اخرى من “حزب الله” الذي بات يعلم الآن أن سحب مقاتليه من سوريا هو الدعم الحقيقي للجيش.
النهار

 

أي حسابات أملت على “النصرة” احتلال عرسال؟/ ابراهيم بيرم
وقع المحذور، وحصل ما كان واردا في حسابات العديد من القوى السياسية. فقد ادخلت عرسال في أتون معركة الحدود المشرعة في زمن السعي الى الغاء حدود ومحو كيانات. وصارت البلدة الحدودية القصية ميدان مواجهة مباشرة بين الجيش وجبهة النصرة واخواتها ونسختها الكاربونية المتناسلة. ولهذا الامر الواقع حسابات وتداعيات مفتوحة على اسوأ الاحتمالات.
دوائر القرار في قوى 8 آذار كانت تحسب حساب هذه الساعة المقيتة حيث يصير الجيش وجها لوجه مع قوة منظمة محترفة خارجية بسطت سيطرتها بسرعة قياسية على بلدة لبنانية طرفية وجعلت منها جزءا من مواجهة كبرى ممتدة على مساحات دول اقليمية متجاورة ومأزومة منذ اعوام. كل المعطيات والوقائع المتوافرة حول طبيعة نشوب مواجهات عرسال المستمرة منذ خمسة ايام توحي بأن الساحة اللبنانية اضحت في عرف هذه الدوائر جزءا من المعركة الاقليمية الكبرى. وهذا يعني سقوطا نهائيا ومدويا لكل مقولة النأي بالنفس ولإطارها النظري “اعلان بعبدا” الذي اعتبره البعض فتحا مبينا في عالم السياسة اللبنانية وحاول ان يبني عليه امجادا سياسية واستطرادا زعامة سياسية اصيلة.
امام جسامة ما يحدث في عرسال وحيال ما يقدّمه الجيش من تضحيات سيطول ولا ريب الجدال الداخلي حول من يتحمل مسؤولية انزلاق الاوضاع الى هذا المستوى. هل هو الذي تعاطى بازدراء مع تحذير اطلقه وزير الدفاع السابق فايز غصن من تسلل تنظيم القاعدة الى الداخل اللبناني ثم سارع في اطار رفضه ذلك الى تنظيم رحلات حج الى داخل عرسال ليثبت لمن يعنيهم الامر ان البلدة المكلومة اليوم تخلو من اي وباء قاعدي فاستغل البعض من الداخل والخارج هذا الوضع ليأخذ حريته في خطف البلدة وتحويلها تدريجا الى جزء من المواجهة الشرسة الدائرة في سوريا؟
ام هل هو الطرف الذي اختار ان يذهب طواعية الى الميدان السوري ليساعد في تغيير المعادلات الميدانية وفي تكسير اجنحة احلام ورهانات كثيرين تصرفوا على اساس ان النظام في دمشق آيل الى السقوط بين عشية وضحاها؟ ام ان المسؤول هو القيادة السياسية في بيروت ولا سيما السلطة التنفيذية برأسيها ايام حكومة الرئيس نجيب ميقاتي التي لم تبد حزماً وصرامة في تحصين الحدود اللبنانية مع سوريا للحيلولة دون التفاعل العضوي بين ساحة مشتعلة وأخرى متحسمة ومستعدة للانخراط في المعركة كل وفق حساباته وتطلعاته؟ أم أن المسؤول الأكبر هو سياسات الدول التي تولت الاشراف على المعركة في الداخل السوري أو أصرت على دور وظيفي للساحة اللبنانية عنوانه استقبال النازحين السوريين بدون أية قيود أو حدود وأيضاً جعل أجزاء من الأراضية اللبنانية قاعدة خلفية للمعارضات السورية دون مراعاة للخصوصية اللبنانية ولهشاشة الوضع الداخلي اللبناني فكان ما كان؟ بالطبع ثمة من يرى أن هذه المحاكمة صارت متأخرة الآن ولم تعد ذات قيمة بعدما وقع المحظور وحصل ما كان يخشى منه الكثيرون وصارت البلاد برمتها أمام مأزق سياسي – عسكري يمتلك قابلية الامتداد زمنياً ومكانياً ويطاول لهيب ناره الجميع من دون استثناء. ومع ذلك فان الثابت في قراءة الدوائر عينها ان المواجهات الدائرة رحاها الآن داخل عرسال وعلى تخومها وفي الجرود المحيطة تختلف بدرجة كبيرة عن مواجهات عبرا في شرق صيدا. فثمة قوة غريبة وافدة مشهود لها بالتنظيم وبشراسة القتال وهي سيطرت عملياً على بقعة من الجغرافيا اللبنانية لها خصوصيتها الاستراتيجية إذ تتعدى مساحتها الـ 45 كيلومتراً ذات طبيعة بالغة الوعورة وهي بالنسبة اليها متنفس وموئل من الناحية اللوجستية وهي تعرف تفاصيلها معرفة تامة. وقبل ذلك هي امتداد لمنطقة القلمون السورية حيث تدور معركة شرسة صارت فيها الطرف الأضعف بعد تراجعها أمام الجيش السوري وقوات “حزب الله”. وفوق ذلك كله فان هذه البقعة الجغرافية هي صلة وصل بين لبنان وسوريا من شأنها أن تؤمن لهذه القوة فرصة إلحاق الساحة اللبنانية بساحات مواجهاتها الممتدة اقليمياً. ومن خلال ذلك الواقع ستحاول القوة عينها أن تفرض شروطها على لبنان وعلى النظام في سوريا إذ ستطرح عاجلاً أم آجلاً فكرة المقايضة بين انسحابها من عرسال وانسحاب “حزب الله” من الميدان السوري وبالتحديد من منطقة جرود القلمون مما يعني المزيد من الارباك للداخل اللبناني أمام المزيد من السجالات والمناكفات.
وبناء على هذه المعطيات والوقائع فان أمر انكفاء عاجل لهذه القوة عن البقعة الجغرافية التي بسطت هيمنتها عليها مباشرة لا يبدو أمراً وارداً خصوصاً أن المؤشرات وموازين القوى لا تشي بأن الجيش قادر على تحقيق حسم ميداني سريع على الأقل وفق حسابات هذه القوة وتوقعاتها. لذا فمن غير الممكن أن تخرج هذه القوة سلماً أو طوعاً من دون أثمان كبرى لا يبدو أن السلطة في لبنان قادرة على تحقيقها. وعليه فان القوة التي أسرت عرسال وجعلتها رهينة لا يبدو أنها دخلتها لتخرج منها بسهولة بل هي دخلتها عنوة لتفرض أمراً واقعاً جديداً ولتفرض معادلة جديدة تحقق عبرها عملياً ما كانت أعلنته وهو أنها الآن في وارد ادخال لبنان تحت عباءة الخلافة التي أشهرتها. وهذا يعني أن لبنان أمام جرح راعف وطويل في خاصرته الرخوة شبيه الى حد بعيد بجرح مخيم نهر البارد. وعليه فان السؤال المطروح ما هي السبل التي تحول دون نقل المواجهات من عرسال الحدودية الى الساحة الداخلية أو بمعنى آخر ما هي السبل الكفيلة بحصر النار وعزلها عن الامتداد الى الجسم اللبناني؟
الدوائر عينها تبدو متشائمة حيال مسألة القدرة على منع التداعيات الأمنية من الانتقال الى الداخل والأمر عائد الى طموحات القوة التي سيطرت على عرسال.
وعلى المستوى السياسي ثمة تحد كبير يتجسد في حصر السجالات السياسية والحؤول دون اغراق الساحة الداخلية في المزيد من الصراعات الحادة التي تمنع التوحد وراء المؤسسة العسكرية لكي تستكمل ما بدأت بالتصدي له.
والثابت أيضاً أن ثمة قوى أساسية ستكون أمام تحد آخر ولا سيما تيار المستقبل الذي عليه أن يعرف كيف يعيد تخليص قاعدته من حال الارباك والفوضى التي اعترتها في الآونة الأخيرة ولا سيما ان قواعد محسوبة عليه بشكل أو بآخر تعيش مشاعر جديدة بعدما تحولت الأوضاع في العراق ثم بعد اندلاع الأحداث في عرسال. والأكيد أن المطلوب مقاربات مختلفة لاحداث عرسال وما سينتج عنها. وليس خافياً أن الدوائر عينها ترى أن ما من شأنه تحقيق انقاذ سريع وعاجل للوضع والحد من تداعيات الحدث الذي بدأ مساء السبت الماضي وهو الحيلول دون اطالة أمد الجرح النازف في عرسال من خلال حسم عسكري سريع يحرر البلدة المكلومة من قبضة المعتدين وهذا الأمر يحتاج الى مرتكزات يأتي في مقدمها تأمين الحضانة السياسية والرسمية والشعبية للجيش ولاندفاعته البطولية في مواجهة قوة يدرك الجميع انها سبق ان أنهكت الجيش العراقي المبني على اسس حديثة وألحقت به ضربة معنوية. والمطلوب أيضاً عدم ترك الجيش دون دعم ورفد متماكلين وإلا فلا مغالاة في القول أن الأوضاع آيلة إلى مزيد من التعقيد والانهيارات للساحة الداخلية التي توشك ان تنكسر تحت وطأة ما تحمله أصلاً من أثقال وأزمات. وأولاً وأخيراً المطلوب عدم النظر الى معركة الجيش على انها معركة ذات ابعاد سياسية تخص هذا الشخص أو ذاك. لم يكن النائب وليد جنبلاط مخطئاً عندما سمى داعش بأنها وباء معد وشر مستطير فلبنان أمام أمرين لا ثالث لهما فاما أن تصير عرسال نافذة لهذا الهواء الأصفر المتعطش للامتداد واما أن يعيد لململة ذاته المتناثرة ويحصن نفسه وتأخذ كل قواه بلا استثناء قرار المواجهة الجدية ولا يعتبر أحد أو جهة أن أحداث عرسال فرصة لتصفية الحساب مع الآخر.
النهار
عن «داعش» و «حكماء» لبنان/ زهير قصيباتي
إجماع اللبنانيين على دعم الجيش في مواجهة هجمة تنظيم «داعش» وتسلله الى منطقة عرسال، لا يقتضي أي ثمن، ولا يكون إجماعاً إذا اقترن بأي شرط. صحيح أن الجيشين العراقي والسوري ومعهما الفصائل الكردية المقاتلة، لم تقوَ بعد على دحر «داعش» وفظائعه، لكن الصحيح ايضاً أن للبنان ظروفاً وبيئات ومجتمعات تلفظ سحق تعددها، مهما عانى بعضها من مظالم وإهمال.
ويتيح الالتفاف حول الجيش فرصة ثمينة لمعالجة الجسد اللبناني المريض، وإنقاذه من غيبوبة الفوضى وسط براكين الحقد والقتل في المنطقة، لكنه لا يقدم ضماناً أكيداً بأن الطبقة السياسية تريد التقاط العِبر من وقائع زلزال يضرب الدول العربية منذ نحو ثلاث سنوات ونصف سنة.
لا شروط يُفترض ان تقيّد دور الجيش اللبناني في الدفاع عن سيادة البلد، وعن أمن مواطنيه درءاً لتمدد مشاهد الطوفان الهائل من النازحين والمهجّرين، صوَر أوطان المخيمات، الجوع والموت والطوابير الخامسة التي لا يعرف أحد هويتها، أو هوية موحدة لها.
لا تشكيك في المؤسسة العسكرية يمكن تبريره فيما معركة لبنان «معركة وجود»، كما قال النائب وليد جنبلاط الذي انعطف مجدداً في موقفه من تدخل «حزب الله» في سورية، حين رفض «اسطوانة» القول إن التكفيريين لم يكونوا ليأتوا الى لبنان لولا ذلك التدخل. عملياً سعى زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي إلى فك الطوق عن التدخل، وهو لا يرى، أو لم يعد يرى أي علاقة بين اختراق «حزب الله» الحدود وإرساله مقاتلين الى سورية وبين أي ظاهرة معاكسة في اتجاه الأراضي اللبنانية، تراهن على متعاطفين بمنطق الذريعة.
والحال ان هذا المنطق يدين ذاته، فـ «حزب الله» ليس «داعش» ولا «جبهة النصرة»، لكنه ارتكب من الأخطاء ما يكفي لجعل لبنان ساحة مكشوفة، مثلما انزلقت «14 آذار» إلى سقطات تركت قاعدتها الشعبية مكشوفة ومعزولة أمام تمدد 8 آذار لابتلاع الدولة.
فلنحصِ أولاً نتائج ما ارتكبه تنظيم «داعش»: بدءاً من تحطيم الحدود العراقية- السورية والسورية- اللبنانية، مروراً بإثارة الذعر لدى أتباع مذاهب أو طوائف، وانتهاء بتكريس شرذمة سورية والعراق، وإلحاق لبنان بنار البركان السوري. والتنظيم (الدولة الإسلامية) «المارد» الذي جزم زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي باستحالة السيطرة عليه بعدما خرج من «القمقم»، يهدد لبنان وجيشه بحرب استنزاف لم يفت وقت تفاديها، لكن شرطه وحيد: إدراك «حزب الله» أن الوقت حان للخروج الكبير من ساحات الدماء السورية، وأنه سيحظى بإجماع لبناني نادر، إذا انكفأ للدفاع عن حدود لبنان، من الخطوط الخلفية، مؤازراً الجيش.
ولن يكون تحصين للبلد من دون إجماع آخر على حتمية عودة العقل والحياة السياسية للبنان، إذا كان الإنقاذ مطلوباً للجميع. الشرط الوحيد هو اقتناع مَنْ خطفوا حيوية المؤسسات الدستورية بأن لا فرصة أخرى للتنازل عن العنتريات وحروب داحس والغبراء وأوهام القتال بسيوف الطوائف التي تحوّلت رهائن.
وإذا كان التكفيريون في المنطقة وعلى حافات رياحها المذهبية، يقاتلون زوراً باسم الشريعة و «الخلافة»، ففي لبنان بين القادة والزعماء مَنْ قاتل ردحاً وزوراً باسم طائفة وأكثر من طائفة، ليحصد امتيازات ومكاسب. قبل «داعش» أجيال في السياسة، امتهنت الخديعة، والحصاد شعوب فقيرة وأفواج خريجين لا ترى أوطانها إلا في أقفاص بطاركة الحقيقة المطلقة.
وبلا شطط كثير، فلنسأل الجنرال ميشال عون، بأي وسيلة سيستفتي اللبنانيين على دعوته الى تطبيق «معاهدة الأخوّة» مع سورية، لضبط الحدود، وكأن شيئاً لم يتغيّر منذ انتفاضة السوريين وثورتهم… أو أنه ضامن لشرعية النظام في دمشق. ما يقوله الجنرال عملياً هو: امام «داعش» لا مناص من التعاون مع النظام السوري.
وبلا مزيد من الشطط ايضاً، عن احتمالات سيئة ومريرة إذا نجح تنظيم «داعش» في جرّ الجيش اللبناني إلى حرب استنزاف طويلة، فلنهنأ بتعاطف الرئيس الإيراني حسن روحاني مع «الشعوب في فلسطين وسورية والعراق ولبنان». هو يهنئ الشعب الفلسطيني في غزة بـ «انتصاره على أكثر الكيانات دموية». حوالى ألفي شهيد فلسطيني في أقل من شهر، والحرب لم تنتهِ، فكيف وبأي ثمن؟
هل يعرف روحاني لماذا تتزامن شلالات الدماء في العراق وسورية ولبنان وفلسطين؟ هل يعرف «حكماء» لبنان مَن أطلق «مارد داعش» من القمقم؟ وأين يخطئ القائلون بالمرحلة التجريبية للاتفاق النهائي، النووي- الإقليمي، بين طهران والدول الست؟
ربما يظن بعض «حكماء» لبنان أنهم اخترعوا إجماعاً وطنياً بالالتفاف حول الجيش الذي يقدم الشهداء باسم لبنان، لا طوائفه ولا أحزابه. والكارثة ان الإجماع ذاته يتبخر حين يتعامى الساسة عن حتمية التنازلات في الداخل ووقف افتعال الحرائق والتحريض، ووقف تجويف المؤسسات الدستورية، لحماية وحدة الحدود من الحريق الكبير والانهيار.
الحياة
من أقوى من «داعش»؟/ نصري الصايغ
I ـ ما أبشع ما نستحقه
«داعش» احتلت عرسال، بلمح البصر. عملية تشبه احتلال الموصل في العراق. احتاج الأمر ساعات، وقيل، أقل من ذلك… قبل ذلك، وبسرعة قياسية غير مسبوقة، اجتاحت مساحات شاسعة من سوريا والعراق، توازي ثمانية أضعاف مساحة لبنان، وأقل قليلاً من مساحة سوريا، عندما كانت بعد دولة موحدة.
«داعش» هذه، لم تعد تنظيماً، صارت دولة وخلافة مترامية الأطراف، بإمكانيات مذهلة، مالياً وعسكرياً وعددياً، وبانتشار منظم غير مسبوق، لعل بعضه مقتبس من تنظيمات «الحشاشين» بقيادة الصباح، انطلاقاً من قلعة «الموت» في إيران.
«داعش» هذه، مخيفة بما ترتكبه وما تتعمد نشره على مواقع التواصل الاجتماعي: إعدامات مرعبة، جز رقاب مذهل، ذبح على مرأى من الكاميرا، وفي مشهدية حية، وسط تكبير صارخ… و«داعش» هذه، سمعتها التي تثير الهلع، جزء من كسبها للمعارك. هكذا كان المغول قبلهم. رعبهم يسبقهم، فتتداعى الحصون وتتساقط مدن وتخلى حصون أخرى… و«داعش» هذه لم تَقْوَ عليها جيوش. هزمت جيش العراق وأذلته، وكادت تصل أسوار بغداد، وتدق أبواب إقليم كردستان وتسلب سهول نينوى وصلاح الدين، كما أنها لم تخسر في سوريا معاركها الكبرى، وان كانت تصاب أحيانا بانتكاسات. لم تتوقف «داعش» عن الانتشار، فهي في أرض خلافتها وفي خارجها كذلك، حتى بلغت «عرسال» برفقة عناصر من اخوانها اللدودين، كـ«النصرة» والفلول والشبيحة والقتلة.
ولـ«داعش» فروع من سلالة «القاعدة» الأم، يسيطرون على حضرموت في اليمن، وعلى أرض الصومال، وعلى «الجماهيرية» الدموية العظمى، وعلى أجزاء واسعة من العراق وسوريا، ولها خلايا مستيقظة أو نائمة في دول عربية كثيرة، ومنها لبنان «المضياف» بحناجر بعض مهووسي أبناء الحملة، كما لها خلايا في عواصم ومدن الغرب، وشمال افريقيا وجنوب الصحراء، وبوكو حرام في نيجيريا إلى جانب بعض دول ومناطق الاتحاد السوفياتي السابق، من دون أن ننسى أرض ولادة القاعدة في ديار الملا عمر، الحاكم بأمر الله في معظم أراضي أفغانستان.
هل نستحق هذا المصير؟ أما كنا نعرف أن أقدام «داعش» تقترب منا، منذ أكثر من عامين؟
كتب الكثير عن خطر «داعش»، عن جنونها المستفحل والمنظم والمعقدن. كتب عن شناعاتها ونهجها التكفيري وسياساتها الاستئصالية لكل من لا ينتسب إليها أو يشبهها شبها مبرماً. كتب عما ارتكبته مع العلويين والمسيحيين والأزيديين، وعن سنة لا يشبهون بها. تفوقت على سفاحي الممالك في التاريخ وقراصنة البحار وروّاد الحضارة الغربية التي أفرغت القارة الأميركية من سكانها الأصليين بالإبادات الجماعية. كتب الكثير، وقرأنا الكثير، فماذا فعلنا لنتجنب عرسال وأخواتها في المستقبل؟
لم يسمع قادة لبنان الستة نداء طلب الحماية للبنانيين من دولتهم. لم يبن أحد جسراً بين المتخاصمين. أعمدة الكيان الستة، المنتخبون طائفياً ومذهبياً، بصناديق شرعية، ظلوا على منصاتهم يصرخون ويتهمون ويتبارون في تعميق شقة الخلاف وتأبيد الانقسام الذي أفرغ الدولة من قدراتها على اتخاذ قرار أو ملء فراغ أو تصريف أعمال…
داعش، لم تعد على الأبواب. أصبحت في صحن الدار.
فما أبشع ما نستحقه.
II ـ ما أبشع ما بدأ وما سيلي
قبلنا، حدث ما سيحدث عندنا. دول، لم تكن دولاً. استبداد مدني بثياب عسكرية بقائد، هو «الله» و«الكتاب» و«الأمر بالمعروف والنهي…»، معصوم عن الخطأ، مجرد النقاش في ما له وما علينا، يستوجب العقاب. دول، مظلومة بحكام مدنيين «ظلاميين»، يرتدون ثياباً غربية ومزركشة بمساحيق العولمة… قَبْلَناَ، حدث ما سيحدث في لبنان. الدولة في لبنان، مشروع مؤجل. البديل، سلطات طائفية ومذهبية مطاعة من أكثرية «شعوبها»، تصطدم ولا تلتئم، تشرك في الوطن ولا تشارك، منقسمة على نفسها، لا أرضية مشتركة لها، غير اقتناص المنافع والمراكز والنفوذ، في مبارزات يومية «دونكيشوطية، يدفع ثمنها الشعب الطافر من طوائفه.
قبلنا، جاء الربيع العـربي، هز ديكتاتـوريات، ورثتها حركات إسلامية، كانت مختبئة في القاع الاجتماعي المقفل عليه بقرارات ديكتاتورية، فاحتلت المشهد. حركات إسلامية، المعتدل فيها، «اخواني» يتشبث بأكثريته فيفرضها عبئاً ونيرا على الدولة والسياسة والمجتمع، والمتطرف فيها، يتشبث بقوة التكفير ممارساً أعتى همجية وبربريـة عرفـها التـاريخ، مضيفاً إليها مشهدية مقصودة ومبرمجة، لبث «الإيمان» بالرصاص أو بحد السـيف أو بقطـع الأعناق.
عندنا ما يشبه التحضير للمسرح القادم. عندنا ما يشبه سوريا قبل التنفيذ، وما يشبه العراق قبل الدخول إلى الحلبة، وما يشبه ليبيا قبل الاندلاع الجماهيري العنفي. وما يشبه الصومال وحضرموت. وبالأمس القريب، اقترب المشهد من بدايته: عرسال هي التوطئة، فماذا بعد، ومن بعد؟
III ـ من أقوى من «داعش»؟
لا يبدو، من خلال سير المعارك، ان أحداً استطاع أن يوقف «داعش» أو يتصدى لها بنجاح. لا الجيوش القوية، ولا التنظيمات المنافسة، ولا حتى الدول. تملك «داعش» رصيدا من الاجتياحات تؤكد حجم القوة التي تحظى بها، وهي لا تشبه التنظيمات الفقاعية العابرة، التي تولد بسرعة وتموت بسرعة، ذلك أنها لم تنشأ بقرار من خارجها، تدين له. لا دولة وراءها، وكل الدول ضدها، حتى تلك التي تتوهم أنها قادرة على توظيفها في معركة ما. «داعش» ليست موظفة عند أحد، وهذا سر خطورتها وسطوتها، فلا أحد يمون عليها، لا من دول الخليج ولا من الممالك العربية.
لذلك، تبدو هي الأقوى، وبناء عليه، يظهر أنها صاحبة مشروع له حيثية حقيقية، مشروع شرق إسلامي، بحاضنات إسلامية سنية تاهت عن صراط الاعتدال. وهي تبدو كذلك متفوقة في ممارسة نهجها المتشدد. في التكفير وعقابه، وفي فرز الأعداء من «الأنقياء». هذا الجديد في «داعش» غير مسبوق إسلامياً، حيث تم تزويج «العقيدة» للسيف، مع أولوية السيف على العقيدة.
حدث ذلك والأرض العربية فارغة من أي مشروع عروبي، تقدمي، إنساني، ديموقراطي. الإسلام الرسمي لا يقنع «داعش»، الإسلام الشيعي مدان، المسيحيون كفرة، الأزيديون والآخرون رجس من قبل الشيطان، فأبيدوه.
حدث ذلك، بعد ارتطام الربيع العربي، بالأنظمة الديكتاتورية، وفشل القوى التقدمية والديموقراطية والمدنية في احتلال الساحة السياسية والفكرية، فاستفردت القوى الإسلامية «المعتدلة» بالساحة سياسة، والقوى الظلامية تكفيراً وقتلا وتهجيرا.
«داعش» تتقدم والآخرون يتراجون مرعوبين. الموصل لا تزال تحت أقدام داعش. أهلها هجروها: مسلمين ومسيحيين.
سهول وجبال ومنابع نفط وحقول غاز ومدن ومناطق ومحافظات لا تزال تحت سيطرتها، وترسل البعثات بعيداً عن مراكزها، وقد وصلت منها بعثة إلى عرسال… والدم المسفوك أول الرسالة. لا الجيوش استطاعت صدها، ولا الدول ولا العالم. فهي الأقوى، هنا وهناك وفي كل مكان تطأه سيوفها وأسلحتها وطرائق فتكها. والخوف الأكبر، أن تكون قواها السرية منتشرة ومهيأة للحظة الانقضاض على الجميع.
من حقنا أن نخاف. يبدو أن «داعش» أقوى منا جميعاً ولذلك قد تكون عرسال الأولى، فمن بعدها؟
الجيش اللبناني يطالب بتجهيزات عسكرية. فهو غير مستعد، لضعف عدته، لمواجهة «داعش» في عرسال، فكيف إذا فتحت جبهة أخرى. الجيش يطالب السياسيين بتأمين حصانة تامة لمعاركه المكلفة، شهداء وجرحى وآلاما وخرابا. فلا يخرج أتباع «داعش» عندنا، بحرب كلامية على الجيش وحروب كلامية توقظ النعرات وتفجر البلاد. الجيش اللبناني، بحاجة إلى حماية وحضانة وطنية كي يحمي اللبنانيين. هو مسؤول عن أرواحنا. مسؤول عن بقائنا هنا، مسؤول عن سلامة الدولة… وهو مستعد لذلك، إنما غيره ليس مستعداً بعد… لم يجترح الخطوة الضرورية. لم يتنازل أحد من أعمدة لبنان الستة، ليقول: فليكن شعارنا الأول: محاربة الارهاب ومنعه من التمدد. ولنؤجل كل الخلافات العميقة إلى ما بعد ذلك، لأن خراب البصرة اللبنانية، إذا حصل، لا يبقي لأعمدة «الحكمة» الستة، غير الدخان والرماد والأندلس المحترقة.
لدينا بارقة أمل وحيدة: أن يتنازل هؤلاء، ليرتقي الشعب إلى مصاف المواجهة الواحدة مع التكفير والإرهاب.
قد تأخرنا كثيراً. إنما، لدينا متسع من الوقت ورفعة من التفاؤل. حبذا لو يكون بيننا من يؤمن أن الدولة أولاً، ومن دون الدولة، نحن على طريق العراق وسوريا واليمن وليبيا والصومال… سائرون.
IV ما أبشع ما نتوقعه
رايات سود، إمارات سود و«آيات» سود… وصباح أسود يا بيروت، لقد جاءك من يغمض عينيك، ليصير البلد على سنة الموصل، وعلى أبوابه وجدرانه حروف سود، أولها «نون» وآخرها، من تبقى من «ميم». وعندها يكون لبنان قد أبِيْدَ ولم يعد موجوداً. تماماً كعراق ضاع، وكشام تقلّصت، وكصومال انتهى زمنه، كليبيا في جماهيرية الاقتتال، أو كسيناء في فصل الصحراء، كحضرموت في هزيع «القات» الديني… تماماً، يصير لبنان، أخاً حقيقياً، للدول البائدة، وضحية ثمينة لجحافل البرابرة القادمين لتطهير الأرض من ناسها.
أبشع ما نتوقعه، أن لا نستيقظ ذات يوم، لنقول للبنان وداعاً.
السفير

 

في عرسال نهاية لبنان… ربما!/ حازم الامين
ليست موجة مشاعر وطنية أو حباً مستجداً لجيشهم الوطني، ما أصاب اللبنانيين هذا الاسبوع. هذه الموجة نجمت عن وضع هذياني سريري، ذاك أن اللبناني الذي لا يجمعه شيء في هذه الأيام بأي لبناني آخر، تجمعه به حمى، من عوارضها حال إنكار يقفز المريض حين تصيبه من حال المرض إلى حال الاكتمال. الاكتمال الذي يُقارب، في الشكل، الفاشية من دون أن يبلغها. فاشية فارغة، من دون ماضٍ ولا مقدمات، فتظهر كاريكاتورية، وتختار ممثلين عنها أقرب إلى المهرجين منهم إلى الشخصيات لطالما جادت الفاشية بأمثالها على البشرية.
يُنكر اللبنانيون على أنفسهم أنهم يشهدون الفصول الأخيرة من تراجيديا قيام لبنان وزواله. يستعيضون عن هذه الحقيقة القاتلة بالمبالغة في حبهم لمريضهم، وحين يكون الوداع مشحوناً بحالِ من النكران يُصبح الحب عرضة لأوهام الصمود، وطرداً للواقع ولمجرياته. فلبنان وإن كان حتى الآن الكيان الأقل عرضة للتفكك في الهلال المشرقي الذي يضم إليه العراق وسورية، فإنه الكيان الأحدث والأضعف والأكثر هشاشة، وروايته عن نفسه لم يُتح لها أن تكتمل، فيما تملك كل من بغداد ودمشق تاريخاً هائلاً من الأوهام التي تُسعفهما على الصمود.
لهذا بدت «الهبّة الوطنية اللبنانية» الأخيرة كوميدية، وان لم تخلُ من أبعاد مأسوية. فجأة صار الجيش قوة خرافية. وها هم المسيحيون يريدون أن يثأروا لإخوانهم في الموصل عبر الانتصار على «داعش» في لبنان، فيما تحول الشيعة من حراس للمقامات إلى حراس للأرزة، وأصاب السنّة إحباط عميق نتيجة إقدام إخوان لهم من خارج الحدود على اختراق السيادة اللبنانية وخطف جنود وعناصر شرطة في عرسال.
الحقيقة في هذه الفوضى الشعورية لا قيمة لها. على محطات التلفزة أن تتوجه الى عرسال لتدعم الجيش لا لتقول الحقيقة. على السياسيين أن يُصرحوا خلافاً لقناعاتهم، وعلى اللبنانيين أن يكرهوا اللاجئين السوريين. ثلاثة عناصر سلبية هي مركّب «الهبّة الوطنية اللبنانية» المستجدة. سقطت «داعش» من السماء على رؤوسنا في لبنان. هكذا، بلا مقدمات ولا توقعات، وبينما كنا ننتخب رئيسنا على نحو سلس وهادئ، وبينما كانت الطائفة السنية في كانتونها الشمالي تودع جهاديّها الأخير، والطائفة الشيعية تزيل آخر دشمة على الحدود مع سورية، أطلت «داعش» لتنتهك سيادتنا الوطنية!
من راقب ما حصل على الحدود خلال السنتين الأخيرتين يكتشف أن اللبنانيين، بكل مركّباتهم، كانوا يرسلون الدعوات تلو الدعوات إلى «داعش». في عرسال تحديداً، البلدة اللبنانية التي تُشكل امتداداً جغرافياً واجتماعياً وطائفياً للقلمون السوري، جرت الفصول الرئيسة من حكاية إلغاء الحدود. دخل «حزب الله» الى بلدتي القصير ويبرود، أكبر بلدتين في القلمون، وبدل أن ينزح سكانهما نحو دمشق التي يقيم فيها نظام لا مودة بينه وبينهم، نزحوا إلى بلدة عرسال التي تمتّ إليهم بقرابة مذهبية ودموية.
إذاً المهمة اللبنانية كانت القضاء على التكفيريين في المناطق السورية المحاذية للحدود اللبنانية، استباقاً لوصولهم إلى لبنان، لكنها أدت الى وصول عشرات الآلاف من اللاجئين السوريين إلى عرسال، استخدمهم التكفيريون ذريعة للتواصل ولإلغاء الحدود.
المسؤولية اللبنانية حاسمة على هذا الصعيد. «شيعة» ذهبوا للقتال في سورية وأحدثوا نزوحاً وألغوا حدوداً، و «سنّة» استقبلوا تكفيريين وتواصلوا معهم، و «مسيحيون» انقسموا بين مؤيد لقتال «حزب الله» في سورية وصامت عما يصيب الطائفة السنية الحليفة من تحولات.
وفجأة أراد مَنْ هذه حالُه أن يخترع عدواً خارجياً يحيل عليه فشل المهمات الثلاث. «حزب الله» لم ينتصر في سورية ومهمته هناك مستحيلة، و «داعش» لن يُنجد السنّة، لا بل سيقتلهم، وصمت المسيحيين وانقسامهم جرا عليهم مزيداً من الوهن والضعف، وألغيا حساسية كانت جوهرية في الوعي اللبناني، ولا قِبْل للسنّة وللشيعة بها، وهي أن لبنان يجب أن لا يخرج للقتال خارج حدوده. فالمسيحيون، «جوهر الكيان»، كان من المفترض أن يُدركوا أن أي التحام للأطراف التي ضُمت إلى الكيان في حرب خارج الحدود سيطرح احتمالات التفكك، ذاك أن اللحمة اللبنانية مصطنعة، وهذا ليس عيبها كما ترطن العروبة في أهازيجها. فالتاريخ يُصنع أيضاً، وخبرات العيش والتقدم والازدهار ليست فطرة.
وقعت الواقعة، وذهب لبنانيو المحافظات الملحقة بالكيان (الجنوب والشمال والبقاع) للقتال في سورية، أي في امتدادهم الاجتماعي ما قبل اللبناني. حصل ذلك في ظل عقم مسيحي أفضى إلى غياب شخصية مسيحية يُمكنها أن تُقدّر أخطار ذلك. فميشال عون كان يبحث عن مستقبل صهره، وسمير جعجع كان منشغلاً ببناء مجسّم للزنزانة التي سُجن فيها.
في هذه اللحظة دخل تنظيم «داعش» إلى عرسال! واستيقظت اللبنانية من سباتها، ولكن بعدما فقدت مقوماتها الفعلية. علينا أن نُدين دخول فصيل سوري إلى لبنان، ونحن نقاتل في سورية. وعلينا أيضاً أن نُميز بين «داعش» والفصائل السورية المقاتلة ونحن نعرف أن الأخيرة دخلت مع «داعش» وتحت راياته إلى عرسال. فكان الحل أن نخترع عدواً نُجمع عليه، وإذا به اللاجئون السوريون. فخصومة الشيعة لهم امتداد لخصومة نظام الأسد، والمسيحيون يملكون ذخيرة خصومة تاريخية لهم ولا يعوزهم «داعش» ليعززوها، أما السنّة الذين يُفترض أنهم أصعب حلقة في مسلسل الكراهية اللبناني (بسبب القرابة الطائفية) فأفضت سنوات النزوح إلى مستجدات يمكن توظيفها لإنتاج الكراهية. المنافسة على العمل وعلى السكن، والمساعدات للاجئين فيما انعدامها لأشباههم اللبنانيين، ثم استهداف «داعش» المواطنين السنّة في عرسال.
لبنان «المصطنع» استعيض عنه بلبنان الحمى والوهم والهذيان، فلبست مذيعات التلفزيون ثياب الجيش، وراح شيعة لبنانيون على «فايسبوك» يُطالبون السنّة بموقف من «داعش»، والأخيرون يستغيثون متخبطين بين حزب اللهـ «هم» وداعشـ «نا». وفي هذا الوقت راح المسيحيون يقيمون كل مساء في ساحة ساسين في الأشرفية تجمعاً لدعم الجيش يُنشدون فيه أغاني غير متقنة اللحن والكلمات. وفي صباح اليوم التالي وصل سعد الحريري إلى بيروت، وتشير المعلومات إلى احتمال أن ننتخب رئيساً بعد غدٍ الثلثاء. و… «هلّي عالريح»!

 

مرايا الإجماع اللبنانيّ المتكسرة/ بشير هلال
في الوقت الذي كان السفير الأميركي يجول على المسؤولين اللبنانيين لإبلاغهم دعم الولايات المتحدة «الجيش اللبناني الذي يخوض مواجهة قاسية ضد المجموعات الإرهابية في عرسال»، وكان وزير العدل أشرف ريفي يطالبه بدعم الجيش والقوى الأمنية لتضبط الحدود وتمنع «مرور السلاح والمسلحين غير الشرعيين في الاتجاهين»، كان «أهالي» اللبوة وأمام ناظري الجيش ينجحون لمدة يوم كامل في قطع الطريق على الإمدادات الغذائية لأهل عرسال والنازحين السوريين.
قُبيل ذلك تعرَّض وفد «هيئة علماء المسلمين» التي اطلقت وساطة التهدئة لشتائم وإهانات وتهديدات «عناصر حزبية» في البلدة المحسوبة على «حزب الله»، وفق امين سرها الشيخ ابراهيم بيضون. فكما لو أن الحزب الذي تعود الوقوف وراء أعمال «الأهالي» جنوباً وضاحيةً وبقاعاً في كل مرة يتحرَّج فيها من التصرف العلني، أراد بذلك وضع شروطه الخاصة على الهدنة والحل.
والحال أن الحزب الذي أعلن بلسان رئيس «مجلس الشورى» الشيخ محمد يزبك أنه «لن يترك الجيش وحده»، عاد مُحرَجاً فأصدر بياناً تالياً يؤكد أن «ما يجري ميدانياً من معالجة للوضع العسكري وحماية الأهالي والتصدي لجماعات المسلحين الإرهابيين هو حصراً من مسؤولية الجيش اللبناني»، وأن الحزب «لم يتدخل في مجريات ما حصل ويحصل».
لكن نظرة واحدة إلى موقع «العهد» الناطق باسمه تكفي لتبين عدم رضاه عن الهدنة وعن المفاوضات التي أجرتها «هيئة علماء المسلمين»، متذرعاً بالتحذيرات «من فخ هذه الهدنة والمفاوضات مع الجماعات الإرهابية». وهو موقفٌ رددته «الأخبار» والوسائل الإعلامية الأخرى القريبة من الحزب.
ليس موقف الحزب مفاجئاً. فهو لم يكن يبحث، بصرف النظر عن مواقف الجيش والحكومة ومكوناتها، عن انتصارٍ للدولة كدولة على الارهاب الداعشي. كما أنه لم يكن يوماً، قبْل الحوار الايراني- الأميركي وبروز المعارضة الواسعة للنظامين السوري والعراقي، يستسيغ مفهوم الإرهاب «الغربي» ورديفه المشرقي «الاستقرار». فعبر معركة عرسال التي طلبها منذ أشهر طويلة، مثلما طلب قبلها معركة صيدا ويطلب الآن معركتيْ طرابلس وعكار، وقد توفَّرت من خلال الفرصة التي فتحها اعتداء «داعش» على أهاليها والقوى الأمنية، كان الحزب يبحث عن انتصارٍ ساحق بسلاحِ شرعيةٍ تُقاد إلى تغطية تدخله السوري دونما استنكار لسلاحه الخاص ودوره ولتدخله. وهو انتصارٌ له من وجهة نظره هدفان اساسيان:
الأول على خصومه اللبنانيين الذين يُعاملهم ضمن مروحة تصنّفهم بين خصومٍ مذهبيين ثانويين يُكتفى باستيعابهم بعد تهديدهم وتهديد «احتكارهم»، وبين خصومٍ ليس باستطاعتهم التحول إلى أعداءٍ أساسيين بسبب محدودية وانقسام طوائفهم في الميزان الطائفي العام، وليس باستطاعته إلغاءهم لأسبابٍ تتعلق بتحالفاته وبالاهتمام العالمي بمصائرهم وبتأثيث معركته المستجدة للهيمنة باسم المعركة ضد «التكفيريين»، وبين «العدو» الأساسي المنافس والمتمثل بتيار»المستقبل» وزعامته الحريرية الذي «ينبغي» تشتيته وإرغامه على ترك خطابه السياسي وتبني مضمون خطاب الحزب نفسه. وهذا ما يجعله يستخدم معه حتى في حالات التوافق العملي، كما في تأليف الحكومة السلامية ومعركة عرسال، رسائل الضغط المتواصل عبر اتهامه بازدواج اللغة وبتغطية «متطرفيه» وأصوليي السنّة عموماً، متناسياً ما خلقه بذاته وساعد على خلقه بالتعاون مع النظام الأسدي من مجموعات سنّية أصولية ومسلحة في غالب الأحيان، فضلاً عن دعم كل الزعامات المنافسة أياً يكن وزنها.
الثاني، على الانتفاضة السورية ضد نظام الأسد جوهرياً، وعلى ما أنتجه الحزب من أعداء سوريين خلال تدخله العسكري، خصوصاً في المناطق التي تولى مع جيش الأسد «استعادتها» من وضعية المناطق غير الخاضعة للنظام والحُرَّة لولا براميل الأسد وصواريخه واحتلال «داعش» و «النصرة» جزءاً مهماً منها.
لذلك، يريد «حزب الله» من معركة عرسال تحقيق نجاح استراتيجي وعسكري في منطقة فائقة الأهمية لنفوذه الجغرافي والديموغرافي في كل الاحتمالات المستقبلية، وما زالت تكبّده وتكبّد النظام السوري خسائر يومية وتسفِّه ادعاءهما أنهما قضيا على المعارضة السورية فيها كجزء من ادعائهما العام نهاية الثورة وأن الحل هو بالمصالحات المحلية وإنهاء فكرة «جنيف 1» وهيئة الحكم الانتقالية وشرعنة الانتخاب الدموي للأسد لولاية جديدة. وليس أدلّ على ذلك من السيناريو الذي رُوِّج له والقائم على «توسُّط» الحزب لإعادة سوريي عرسال وتصعيد الحرب على «المسلحين» لوضعهم امام خيار الاستسلام او الموت.
ذلك ما يجعل صورة «الإجماع» اللبناني على المعركة الضرورية ضد الإرهاب الداعشي مجتزأة واختزالية وخادعة. وعدا انشغال بعضهم من أصدقائه بتحويلها إلى حملات عنصرية ضد النازحين السوريين او مديح العنف والعسكر، فإن الحزب الذي كان يريد تصعيد معركة عرسال حتى «خواتيمها» لم يدخل بعد دائرة البحث الجدي عن إجماعات وطنية… وإلاَّ لما اتهم بالتواطؤ مع «داعش» والتكفيريين كل من ذكّره بمسؤوليته حتى الجزئية في استدراج التنظيم الإرهابي ونظرائه الى لبنان بفعل توغله في سورية، ورفضه من دون نقاش كل عرض بإغلاق الحدود في الإتجاهين، سواء عبر تطبيق القرار 1701 كما اقترحت «الخطة الإنقاذية» لـ «14 آذار» أو بأية وسيلة أخرى.
من هنا فإن كل مظاهر الإجماع المذكور غير قادرة على تشكيل لحظة إعادة تأسيس لـ «كتلة استقرار» و «وسطية» كما قد يرغب- ولأسبابٍ متفاوتة- سياسيون من داخل «النظام الطائفي اللبناني» كالحريري وجنبلاط وبري والرئيس المنتهية ولايته ميشال سليمان وآخرين. وما زال من الوهم الظن بإمكانية استدراج الحزب اليها كشريك إلزامي وكشرطٍ مسبق لنجاحها، نظراً الى احتكاره العملي حق القرار في أحد طرفي التوتر السني- الشيعي. فهو ما زال جزءاً عضوياً من المحور المُهيكِل للانقلاب على «الاستقرار» العربي الرسمي السابق، ويقوده مركزٌ خميني يتوخى انقلاباً كاملاً لمصلحته في نسبة القوى الإقليمية ومآلات التاريخ الإسلامي. ومن دون تفكيك عناصر هذه الانقلابية وانقضاء قنوات وجودها وفعاليتها الأقرب، كالنظام الأسدي، أو عزلها عنها وتراجع شعبيتها، سيصعب دخول الحزب في «النظام»، كما ستبقى «كتلة الإستقرار والوسطية» المنشودة مجرَّد التباس سياسي قابل للاستعمال في استبعاد الحرب الأهلية الساخنة، من دون أن يكون قادراً على منع عرسالات جديدة، ومراكمة التوتير والاستقطاب المذهبي والعنصرية ومآسي المدنيين اللبنانيين والسوريين.
الحياة

 

النظام السوري و”التفاوض” على مهجّري حربه: ورقة للخروج من العزلة وتعزيز معادلته/ روزانا بومنصف
يبدو اقرب الى النكتة السمجة ما تم تداوله عن رفض النظام السوري استقبال النازحين السوريين من عرسال لعدم تفاوض الدولة اللبنانية والتنسيق معه في هذا الاطار، على رغم انه حين هجرهم من بلداتهم وقراهم لم يسأل الدولة اللبنانية ولم ينسق معها استقبالهم او رفضهم كأنما هو يفاوض دولة مجاورة على ادخال مواطنين من دولة ثالثة وليس مواطنيه لاعادتهم. وبرز هذا الكلام في اعقاب مطالبات يصر عليها منذ بعض الوقت وزير الخارجية جبران باسيل في شأن التنسيق مع النظام السوري في موضوع اقامة مناطق حدودية او مخيمات للاجئين السوريين ومن ثم العماد ميشال عون الذي خرج الى العلن بنظرية التنسيق مع هذا النظام. ولو لم يرغب في تسميته نظاما وكرت السبحة لتطاول الرئيس نبيه بري في السياق الاخير المتعلق بعرسال. وليس خافيا ان النظام السوري يرغب في توظيف ما حصل في عرسال وازمة اللاجئين السوريين في لبنان من اجل فتح حوار وتشكيل لجان يصار عبرها الى الاعتراف علنا ورسميا باعادة الشرعية اليه والتي يبحث في اعادتها عبر بوابات اقليمية ودولية عدة ومن بينها لبنان. في حين يعرب العارفون عن ثقتهم بأن هم النظام ليس اللاجئين ولا ايجاد حل لهم بل بدء النقاش عبر لجان مشتركة بين البلدين للوصول الى مسائل امنية كان يمارسها منذ زمن وصايته على لبنان وتوفير بوابة مهمة له من اجل فك عزلته.
بعض المتواصلين مع النظام السوري والدائرين في فلكه يقولون ان هذه الخطوات لا بد منها بالنسبة الى لبنان في ظل كلام على اعادة فتح بعض الدول حوارا امنيا استخباراتيا مع اجهزة النظام من اجل معالجة مشكلة هجرة المتطرفين من الدول الاوروبية. وهو حوار يقال ان النظام يشترط من اجل التعاون في شأنه اعادة فتح السفارات الغربية في دمشق. ويعتبر اصحاب هذا الرأي انه يتعين على لبنان الا يعالج مشكلته من خلال فتح حوار مع النظام في الوقت الذي تسعى دول طالبت برحيل النظام الى التحاور معه، حسب ما تقول. ومع ان هذا الموضوع ليس جديدا كليا باعتباره يسوق منذ بعض الوقت، فان ثمة ما يستفيد منه النظام باقرار خصومه كما باقرار مراقبين محايدين انه نجح في شكل باهر في ارساء معادلة هو ام تنظيم داعش والتنظيمات المماثلة، وانشغال ما كان يسمى المجتمع الدولي بالتنظيمات الارهابية وعدم اهتمامها في المرحلة الراهنة برحيل نظام الاسد مثلا او بالعمل على انهاء وجوده. وثمة معلومات يتداولها مطلعون في هذا الشأن تتمحور على جملة عناصر من بينها:
ان مرحلة بيان جنيف واحد ومن ثم جنيف 2 قد طويت على نحو نهائي بحيث لا عودة الى كون البيان الذي وضعه الممثل الاممي كوفي انان ووافقت عليه الدول المؤثرة وفي مقدمها الولايات المتحدة وروسيا وعمل عليه لاحقا الاخضر الابرهيمي لا يزال يشكل مرجعية للبحث في حل للحرب القائمة في سوريا. فهذه مرحلة انتهت وكسب النظام مرحلة طيها بدعم من روسيا وايران.
في الوقت الذي تبدو فيه الامور متروكة في سوريا على وقع تطورات ميدانية لم تعد تثير متابعات اعلامية وسياسية في ظل تطورات اقليمية اخذت الواجهة من جهة، كما حصل في العراق او غزة او حتى ليبيا وفي ظل عمليات كر وفر لا تسجل تغييرات جوهرية على الارض من جهة اخرى، فان ثمة من يتحدث عن افكار لحلول يتم تداولها بعيدا من الاضواء. وهناك نقطتان بارزتان في هذا الاطار. تتحدث إحداهما عن دور لسويسرا على هذا الصعيد واتصالات تتولاها مع الدول المعنية علما ان لا تفاصيل عن مواقع او مواقف الدول الكبرى، كما كل من ايران والمملكة السعودية فيما الحرب السورية غدت اكثر تعقيدا بكثير مما كانت عليه في الاعوام الثلاثة الماضية. والنقطة الاخرى تتصل بافكار للحل لم تعد تنطلق من تنحي النظام بل على قاعدة امكان بقائه بحيث يتم العمل على الشروط والضمانات التي تجعل من بقائه احتمالا تقبل به المعارضة المعتدلة، وما يتطلبه ذلك في المقابل على ان ينطلق الحل من وقف للنار وتأمين ان يكون النظام والمعارضة في موقع واحد في مواجهة التنظيمات الارهابية.
ثمة ما يثار على صعيد امكان ابقاء الاسد والاحتمالات المفتوحة امام ايران والتي يتردد في ضوئها ان العاصمة الايرانية التي تسرب اخبارا عن استعدادها للتخلي عن نوري المالكي في العراق لولاية ثالثة فيما المالكي رفض ولا يزال يرفض الضغوط الايرانية المباشرة او غير المباشرة عبر ضغوط المراجع الشيعية المؤثرة قد تحصل على امكان ابقاء الاسد في موقعه لقاء التخلي عن المالكي واستبداله بمماثل له من كتلته. الامر الذي يمكنها من بيع تنازلها عن التمسك بالمالكي في العراق للدول الاقليمية كما للولايات المتحدة المطالبة بعدم اعطائه الفرصة لتولي رئاسة الوزراء للمرة الثالثة باعتباره مسؤولا عن مواجهة العراق احتمال التقسيم لقاء الاقرار ببقاء الاسد في منصبه بعض الوقت وحتى اشعار آخر.
خلال الاسبوع المنصرم استبعد المستشاران البارزان في البيت الابيض جاك سوليفان وبن رودز احتمال العمل مع الاسد من اجل مواجهة التحديات الارهابية. ورفضا اقتراحات كانت سرت من بعض الباحثين ان واشنطن قد تعيد النظر في امكان التعاون مع النظام السوري، وذلك خلال اجتماع مغلق مع المعارضة السورية والمنشق السوري الذي كشف آلاف صور التعذيب الذي مارسه النظام ضد شعبه.
النهار

 
معارك السلسلة “السورية”: نكسة حزب الله!/ منير الربيع
“راحت السكرة وإجت الفكرة”، لم يعد من مجال للترف، في إطار المصارحة مع الذات والمصالحة مع الواقع. نظرة واقعية تفرض نفسها على حزب الله حول قتاله في سوريا وإرفاقها بمسوّغات دينية تارة وأخرى دفاعية مقاومتية استباقية.
صفعة عرسال الموجعة والقويّة دحضت نظرية الحزب برمّتها، وهدمت جبال الأحجيات التي بناها منذ سنتين لتحفيز جمهوره ومقاتليه على الإستمرار في الدفاع عن النظام السوري، وفي العض على جروحهم لتحمّل الخسائر الفادحة التي تكبّدها الحزب هناك وما زال.
ثماني سنوات وحزب الله يتعاطى بعنجهية وفوقية مع كلّ الأزمات السياسية والأمنية والعسكرية، يعتبر نفسه فوقها، وقوّته تمنعها من أن تعصف به، بعد القلمون وعرسال أصبحت المعادلة مغايرة، تغيّرت المعطيات، ليتسلّل إلى جمهور الحزب بعض من الخوف، تداعى الوهم ليأتي الهمّ، التعاطي بعاطفية عنفوانية لم يعد ينفع، بدأ الجمر يحرق موضعه، لم يعد الحريق مقتصراً في مناطق بعيدة.
بالتأكيد لم ينس جمهور الحزب، ومن شحذت هممهم للقتال دفاعاً عن المراقد المقدسة، أو دفاعاً عن القرى اللبنانية، عبارة “ذهبنا لمقاتلتهم هناك، كي لا يأتوا يقتلوننا هنا”. شكّلت هذه العبارة فتوى شرعية للقتال في سورية، لكنها ما لبثت أن سقطت، بدأت تتهاوى مع تجدد المعارك في القلمون مؤخراً وسقوط أعداد كبيرة من الحزب في ضربات للجماعات المعارضة، لينتهي سقوطها في ما جرى في عرسال، حيث دخل حوالى السبعة آلاف مقاتل الى البلدة البقاعية والسيطرة عليها وإحتلالها بالإضافة الى اعتقال عدد من العسكريين وخوض معارك شرسة مع الجيش اللبناني ما شكّل خطراً داهماً على لبنان ككل.
على هامش معارك عرسال بين الجيش والمسلّحين والتقدّم السريع الذي أحرزوه في ساعات قليلة قبل استقدام الجيش لتعزيزات، باتجاه غرب عرسال، وتحديداً عند التلال المشرفة على اللبوة والنبي عثمان وقرى أخرى تعتبر حواضن أساسية لحزب الله، كانت صفعة كبيرة للحزب وجمهوره، الإشتباكات العنيفة التي دارت طوال أربعة أيام على تلّة راس السرج تشاهد من اللبوة بأم العين، حينها كان الخوف يدبّ في نفوس الأهالي، هلع من إمكانية وصول المسلّحين المتطرفين لقتال الحزب داخل قراه. عبّر الأهالي عن مخاوفهم على الملأ، حملوا السّلاح استعدادا للدفاع عن قراهم ومنازلهم، ففي يقينهم أن التكفيريين قادمون لقتلهم.
في تقديراته العسكرية لأعداد المسلّحين، كان الحزب يدرس عن كثب جميع المعطيات. تشير مصادره العسكرية لـ”المدن” إلى أن “دخول المسلّحين إلى عرسال وفتح جبهتهم داخلها، هو للتخفيف عن الضغط الذي تتعرّض له هذه المجموعات داخل القلمون”. هذا الكلام لا يوافق عليه جمهور الحزب الذي يعلو غضبه بين الحين والآخر معبراّ عن شعور بالخوف من تحوّل مناطقه إلى ساحة للصراع مع التكفيريين.
تقول مصادر الحزب العسكرية لـ”المدن” إن أعداد المسلّحين كبيرة جداً، إذ ينتشر حوالى أحد عشر ألف مسلّح من جرود بعلبك إلى جرود الهرمل في التلال السورية المتاخمة للحدود اللبنانية، وهو يعتبر أن ما جرى في عرسال هو مقدمة لأحداث أخرى يجب التنبّه لها ومواجهتها لمنع تمدّدها.
هي معركة كبيرة، تذوب فيها كيانات وتضمحلّ الحدود بين الدول، تمتدّ من العراق إلى سورية فلبنان، أعداد هائلة من المجموعات المقاتلة من جنسيات مختلفة، تجتاز دولا وتحتل مناطق وتسيطر على مقدّرات بسرعة قياسية، وفيما الجيوش الجرّارة تتناثر أمامها، ماذا عسى بحزب الله أن يفعل أمام مجموعات سيطرت على مساحات تكبر مساحة لبنان بعشرات الأضعاف؟
صفعة عرسال ببدايتها الشرسة ونهايتها التسووية شكّلت نكسة للمقاومة ومفهومها حول أسباب الدخول والتدخّل، اللذين يأتيان من خلفية أن حزب الله لا يعتبر لبنان سوى تفصيل صغير في المحور الإقليمي المنتمي إليه، وعليه فقد دخل لبنان في الأتون المشتعل والحزب في عين العاصفة.
المدن

 
داعش على ضفاف المتوسّط/ نجاة شرف الدين
كان لافتاً التطور السريع الذي حصل في منطقة البقاع اللبنانية، وتحديداً في بلدة عرسال وجرودها، حيث سيطرت المجموعات المسلحة، ومارست أبشع أنواع الجرائم بحق الجيش اللبناني والقوى الأمنية، كما المواطنين العرساليين، وحتى النازحين السوريين الذين أرادوا ترك البلدة خوفاً من القصف والاشتباكات. وكانت لافتة، أيضاً، سهولة حركة عناصر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، (داعش)، في عملياته من خطف عناصر من القوى الأمنية واستخدامهم رهائن، إضافة إلى السيطرة فعلياً على البلدة، والتحكّم بأهلها وإطلاق النار بين الأحياء السكنية، لتعريض الأهالي للخطر.
صحيح أن لبنان شهد جولات قتالية وتوتراتٍ أمنية عديدة من طرابلس إلى عكار، وصولاً إلى عبرا، ومروراً بعين الحلوة، في السنوات الأخيرة، وصحيح أن الجيش اللبناني دفع ثمناً باهظاً في عملية نهر البارد التي قضى فيها على الإرهابيين، إلا أن ما يجري، اليوم، في عرسال يختلف، في الظروف والشكل والجغرافيا وحتى الديموغرافيا. فتطور الأوضاع الميدانية يرتبط مباشرةً بما حصل، ويحصل، في سورية والعراق، وبالتالي، هناك محاولة جدية لجرّ لبنان مباشرةً إلى هذه المعركة التي لا يستطيع أن يتحمّلها، كما إلى إيجاد بيئة إرهابية غريبة عن النمط اللبناني وتركيبته السياسية والاجتماعية، حتى لو برزت في فترات متباعدة ظواهر متطرفة في غير منطقة لبنانية، إلا أنها لم تستطع إيجاد بيئةً حاضنةً في مجتمعاتها الدينية، قبل أن تبحث في غيرها من المجتمعات.
منذ إعلان أبو بكر البغدادي ما سماها الدولة الإسلامية في مدن عراقية وسورية، وفرضه نمطاً اجتماعياً جديداً على العراق، كما على سورية، ومارس عمليات القتل وطرد المسيحيين من الموصل والبلدات المحيطة، علت الأصوات المحذرة من خطورة المرحلة التي تمر بها المنطقة، وما يمكن أن يشكله ذلك من واقع جديد تُلغى معه الحدود بين الدول، ويُعاد تركيب دول جديدة بأشكال وأنماط مختلفة. وذهبت التحاليل باتجاه التقسيم إلى الدويلات الطائفية، وإعادة رسم المنطقة، بعدما ألغيت اتفاقية سايكس بيكو، بحكم الواقع الميداني.
ما حصل على ضفاف نهر دجلة، في العراق، والفرات، في سورية، كانت أصوات عديدة، وفي مقدمتها النائب وليد جنبلاط، قد حذرت من وصوله إلى لبنان، نتيجة الارتباط الجغرافي والسياسي، كما نتيجة الصراع الداخلي اللبناني بين القوى السياسية التي انقسمت بين مؤيد ومعارض للنظام السوري، وانعكس ذلك توتراً سياسياً وأمنياً، ما جعل الموقف اللبناني ضعيفاً في مواجهة أي عواصف قادمة، داعشيةً كانت أم نصراوية، خصوصاً في ظل تعطيل انتخاب رئيسٍ للجمهورية، من دون وجود أي أفق قريب لذلك، كما في ظل انهماك المجلس النيابي بصياغة نصٍّ قانوني يسمح له بالتمديد، بسبب عدم وجود ظروف ملائمة لإجراء الانتخابات النيابية، واقتصار عمل الحكومة، التي تتمتع بصلاحيات رئاسة الجمهورية، على المسائل الأمنية الملحّة، والتوافق على كل ملفٍ يتم البحث فيه داخل أروقة السراي الحكومي.
الخطر الذي شكله وصول “داعش” إلى عرسال وتهديده الوجود اللبناني، جعل القيادات السياسية تتحرك لإيقاف التمدد، ومعالجة التطورات الميدانية، بقرار الدعم السياسي الذي اتخذته الحكومة للجيش اللبناني، لمواجهة الإرهابيين، خصوصاً بعد ما حصل على الأرض من أعمال إجرامية مارسها “داعش”، عبر أسر وقتل جنود لبنانيين، وترهيب المواطنين في عرسال، كما النازحين السوريين، وهو ما حرّك، أيضاً، عملية التواصل السياسي، كما حصل بين النائب وليد جنبلاط والجنرال ميشال عون، بعدما كان جنبلاط قد زار الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، من أجل إيجاد قواسم مشتركة يمكن البناء عليها، حمايةً للبنان من سيناريو عراقي أو سوري، يسمح للدواعش بالوصول إلى ضفاف المتوسّط، بعدما كانت قطعت على ضفاف دجلة والفرات.
العربي الجديد

 

بين احتضان الجيش في عرسال واستنزافه/ وليد شقير
هل ينجح الإجماع اللبناني النادر الذي نشأ حول الجيش في مواجهته مع المجموعات التكفيرية والإرهابية السورية في بلدة عرسال، في إنقاذه من حرب استنزاف متوسطة، أو طويلة الأمد مع هذه المجموعات التي أرادت فتح الحدود بين لبنان وسورية أسوة بفتحها الحدود بين العراق وسورية في مطلع حزيران (يونيو) الماضي؟ وهل يُعين الدعم الدولي والإقليمي للقوات المسلحة الشرعية، ولا سيما الدعم السعودي الاسثنائي بهبة البليون دولار أميركي على تفادي استنزافها، مثلما يحصل في العراق بعد احتلال «داعش» الموصل ومناطق أخرى؟
انشغل الوسط السياسي اللبناني بهذا السؤال المقلق، نظراً إلى أن احتلال هذه المجموعات المفاجئ لعرسال السبت الماضي، وارتكابها شتى أنواع ممارسات الشراذم الشاذة، ضد العسكريين والمدنيين اللبنانيين، وتوريطها عشرات آلاف النازحين السوريين بعداء مع مضيفيهم العرساليين، وضع الحدود اللبنانية – السورية المفتوحة، أمام احتمالات خطيرة.
في لحظة أُجبر الجيش اللبناني على تحمل وزر جديد من أوزار فتح الحدود بين لبنان وسورية الذي مارسته شراذم فوضوية مساندة للثورة السورية عند بداية عسكرتها، و»حزب الله» الذي انغمس في مساندة النظام على نطاق واسع بآلته العسكرية الاحترافية، برعاية إيرانية، منذ بداية الحرب في بلاد الشام.
سبق للبنان، وقبله العراق وسورية، أن وقع ضحية فتح الحدود بين طهران وبغداد ودمشق والبقاع اللبناني بسبب ردود الفعل على قرار إيران جعل هذه الدول ساحة واحدة في مشروع تمدد نفوذها الإقليمي. فقد استبيحت حدوده ذهاباً وإياباً دفاعاً عن نظام الممانعة، فسقط للحزب حتى الآن خيرة من شبابه وفتيانه في حرب لم يكن يتوقع أن يغرق في مستنقعها. وتعرض المدنيون الأبرياء في مناطق تحت سيطرته منذ ربيع عام 2013 للسيارات المفخخة والتفجيرات الانتحارية. ثم أقنع الحزب نفسه وجمهوره أنه تمكن من إقفال الحدود على ردود الفعل ضد استباحتها من قبله، بعد طرده مسلحي المعارضة من منطقة القلمون في نيسان (أبريل) الماضي. إلا أن هؤلاء ما لبثوا أن عادوا إليها، ليفتحوا الحدود على طريقتهم، من الباب العرسالي، في وقت كانت محاولاتهم السابقة تقتصر على اختراقها بالأعمال الإرهابية.
مقابل استحالة إقفال الحدود على إيران و»حزب الله» في البقاع الشمالي، على رغم إعلان بعبدا بتحييد لبنان وسياسة النأي بالنفس، فإن إقفالها على «داعش» في العراق وسورية تعذر نتيجة انهيار الدولة المركزية والجيش في الدولتين، وتحولهما إلى أدوات فئوية ومذهبية. الأمر مختلف في لبنان، حيث الإجماع على الجيش على رغم هشاشة الدولة فيه، يبقيه المؤسسة الوحيدة الباقية، القابلة لتوحيدهم في ظل شبه الشلل الذي يتحكم بسائر مؤسساته الدستورية الأخرى التنفيذية والتشريعية والرئاسية.
في سورية وقع الشعب السوري بكل أطيافه ضحية فتح الحدود، من جانبي الصراع الهمجي: النظام والمتطرفين الإسلاميين الذين سهّل النظام لهم كسب بعض الأرض لإثبات مقولته إن معارضيه إرهابيون… بل إن المعتدلين من المعارضة كانوا هم أيضاً الضحية. وفي العراق وقع المسيحيون ومعهم سائر الأقليات، ضحية هذه السياسة التي ارتقت إلى مستوى الإبادة فيما غرقت الدولة وأجهزتها بالمذهبية والإقصاء، ما عطّل وظيفتها بحمايتهم. وامتنع الخارج عن دعمها في مواجهة «داعش» بحجة استفادة النفوذ الإيراني من هذا الدعم.
في لبنان، وعلى رغم اعتقاد كثيرين بأن الحدود تُركت سائبة نتيجة حاجة «حزب الله» العسكرية للتدخل في سورية، فشلّت قدرة الجيش على ضبطها، وعلى رغم أن الجيش النظامي السوري دفع بمسلحي القلمون إلى الداخل اللبناني لينقل مشكلة التخلّص منهم إليه، فإن التركيز الدولي والإقليمي، ولا سيما السعودي، على إبقاء الجيش نقطة الالتقاء بين اللبنانيين على عنوان الدولة، يتيح عدم وقوع الساحة اللبنانية بما وقعت به الساحات الأخرى.
على رغم الأسئلة الكثيرة عن كيفية اقتحام مسلحي «النصرة» و»داعش» عرسال، تحت عيون الحزب الذي يفاخر بسيطرته والجيش على الحدود، وحول الأهداف السياسية المحلية والإقليمية لما حصل، خصوصاً أن هؤلاء لم يدخلوا البلدة خلسة أو تسللاً، بل بالمئات إن لم يكن بالآلاف، فإن فريقاً من الطيف السياسي اللبناني ولا سيما رئيس تيار «المستقبل» سعد الحريري تجاوز هذه الأسئلة واتهامات الحزب إليه بأن تياره حاضن للظواهر السنّية المتطرفة، وأمّن بصفته الزعيم السنّي الأقوى التغطية الكاملة للمواجهة التي تخوضها المؤسسة العسكرية مع هؤلاء. بل إن الحريري، مع اقتناعه الكامل بأن إبقاء الحزب الحدود مشرّعة، اجتذب المتطرفين إلى لبنان، فإنه والمملكة العربية السعودية تصرفا كرأس حربة في مواجهة المجموعات التكفيرية. وتجاوزت السعودية حاجة الحزب إلى حجب الأنظار عن مشاركته في الحرب إلى جانب النظام السوري، وقدمت المساندة للدولة لا لجهة فئوية. (فئوية الحكومة في العراق وسورية حالت دون دعمهما).
ألم يحن الوقت كي يراجع «حزب الله» ومن ورائه إيران سياسة القفز فوق الحدود، أم أنه سيوظف دعم الآخرين للجيش على أنه يخفف عنه حال الاستنزاف بحيث يشاركه فيها أو يتحمل عنه وزرها أيضاً فيتآكل بذلك دوره الجامع مع الوقت؟
الحياة
واجبات على المسيحيين أيضاً/ حسام عيتاني
صحيح كل ما كُتب في معرض الدفاع عن المسيحيين ودورهم في المشرق العربي. وسليم تماماً الاعتراف بفضلهم على الثقافة واللغة العربيتين والإقرار لهم بدور جوهري في منح معنى إنساني شامل لتمسكهم بالبقاء في هذه المنطقة من العالم على رغم كل ما عانوه ومروا به على امتداد القرون، تارة باسم الدين وطوراً باسم الاستبداد السلطاني.
وجاهل من لا يرى في اضمحلال الدور والحضور المسيحيين في المنطقة ضربة قاسية الى قلب المجتمعات والثقافة العربية والإسلامية، ذلك أن اختفاء المسيحيين من المشرق سيحيله صحراء عرقية ودينية وحضارية لا أمل فيها بنمو وتطور أي ظاهرة حضارية تتأسس حكماً على التفاعل والتبادل والحوار. ملامح الصحراء هذه بدأت تتكرس في نواح شاسعة اجتاحتها جحافل الإرهابيين المستترين بستار الدين، الذين لا يخجلون من وضع عبارة «الحمد لله» تحت صور الرؤوس التي يجزونها.
ويصب في إطار الحرص العربي على دور مهم لمسيحيي المشرق، الحفاظ على موقع رئاسة الجمهورية في لبنان في عهدة شخصية مسيحية تحظى بتمثيل وازن في صفوف طائفتها وتمارس سلطات واسعة في إطار الدستور والقوانين اللبنانية، بالإضافة طبعاً إلى المناصب الحساسة الأخرى من قيادة الجيش وحاكمية المصرف المركزي وسوى ذلك. هذه المناصب، في واقع الأمر، شهادة ليس فقط على دور المسيحيين المركزي في لبنان، بل أيضاً على قدرة المسلمين على التعايش والتفاعل مع التعدد المذهبي والديني والثقافي. وهذا كلام كان بمثابة البداهات طوال العقود التي أعقبت استقلال لبنان. وفي هذين التعايش والتفاعل دليل على مرونة و «عقلانية» إسلامية –إذا جاز التعبير- تقدم مصالح الأمة والجماعة على ما عداها. وهذا كلام يتمنى المرء أن يصح على كل الأقليات العرقية والدينية في المنطقة العربية.
بيد أن تثمين دور المسيحيين في المشرق والإقرار بضرورته للمسلمين قبل المسيحيين، ينبغي ألا يغطي على جملة من الحقائق تتطلب علاجاً من المسيحيين قبل غيرهم.
فالضغط الهائل الذي يتعرض المسيحيون له هذه الأيام لا يكفي أن يقابَل بدعوات الاستغاثة والنجدة على ما يفعل بعض الهيئات الدينية، بل إن التجارب الحديثة تظهر وجود خلل بين المسيحيين يساهم في زيادة الخطر على أدوارهم ويهدد بانتزاع مواقعهم منهم.
وإذا أخذنا معضلة انتخاب رئيس جمهورية جديد للبنان، نرى أن المسألة المطروحة منذ ما قبل نهاية ولاية الرئيس السابق ميشال سليمان بعامين على الأقل، لم تشهد أي تقدم إلى أن انتهت مدته الدستورية وترك قصر بعبدا خالياً. المسؤولية عن الفراغ هذا يتحملها بالتساوي أطراف الانقسام السياسي اللبناني على ما هو بيّن، بيد أن المسيحيين بقواهم المختلفة، أبدوا قدراً مذهلاً من تجاهل الأخطار التي تواجههم قبل غيرهم ولم يجدوا مانعاً من التوزع على المعسكرات المذهبية، السنّية والشيعية، المتنافسة.
ويصعب التصور أن المسلمين اللبنانيين كانوا ليستطيعوا التلاعب بالمسيحيين لو أن هؤلاء حزموا أمرهم واتفقوا على مرشح واحد له من القاعدة التمثيلية ما يكفي لإدارة البلاد وحكمها. ربما يُحمل هذا الكلام على محمل المثالية أو السذاجة لتجاهله حقيقة الخنق المتعمد الذي قام به النظام السوري للقوى المسيحية على امتداد ثلاثين عاماً من وصايته على لبنان. لكن في المقابل، يُفترض بالمسيحيين أن يعثروا على علاج لانقساماتهم إذا أرادوا الحفاظ على دور لهم في لبنان يتعدى استعطاء واستعطاف المشاعر النبيلة عند الآخرين.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى