تذكير لا بد منه الآن: دولة حافظ الأسد/ سمير الزبن
صاغ الرئيس حافظ الأسد في العام 1973 دستوراً يعطي منصب الرئاسة صلاحيات «قيصرية« مطلقة في إدارة الحكم بسوريا. وتم تفصيل الرئاسة على قياسه الشخصي، أعطاه الدستور سلطة خارج أي مراقبة أو محاسبة، فهو يحاسب ويراقب الجميع من دون أن يحق لأحد ليس محاسبته وحسب، بل حتى لا يحق لأحد انتقاده أيضاً، لأن هذا الانتقاد يكلف صاحبه سنوات طويلة في السجن من دون محاكمة.كل هذا رفع الرئيس إلى مرتبة المقدس ونسبت سوريا اليه، بدل أن ينتسب الى سوريا، فأصبحت «سوريا الأسد« وهو ما جعله متعاليا على البلد والشعب. وكون البلد أقل من كفاءته في ادارة حكم، فقد كان يستخسر نفسه في سوريا، ويحتقر البلد لأنها بلد صغير وضيق عليه. هذا ما تجلى في وصيته بأن يدفن في مسقط رأسه القرداحة بدل أن يدفن في دمشق عاصمة البلد التي حكمها ثلاثين عاما. وجعل النظام كل السوريين يحجون الى قبره هناك في قريته النائية لإعلان الولاء لجثة «الرئيس الخالد«، بوصفه «قائدا للأبد«، حتى بعد أن غيبه الموت. وليس من المبالغة القول أن البلد وبعد أكثر من أربعة عشر عاما من وفاته، ما زالت محكومة بجثة حافظ الأسد، وبالنظام السياسي الذي بناه، وجعل سوريا مقيدة الى روابط غير مرئية تتحكم بالبلد وتحتجزه وتقطع عليه أي تقدم.
لم يكتفِ الأسد الأب بالصياغات القانونية لسلطة استبدادية عبر دستور العام 1973، فقد تم القبض على البلد بيد من حديد عبر الامساك بالسلطات الأخرى، والتحكم بها بشكل تفصيلي. فحافظ الأسد المتآمر الرفيع، لا يترك شيئا للصدفة. فمع الابقاء على الهياكل الشكلية لمؤسسات الدولة (مجلس شعب، مجلس وزراء، أركان الجيش، ادارة محلية.. الخ) تم تفريغها من أي سلطة فعلية، وأحيلت كل السلطات (صغيرها وكبيرها) الى مكان وحيد وهو القصر الجمهوري. سلطة غير مشرعنة، لكنها محسوسة في كل انحاء الحياة العامة والشخصية في سوريا الأب. فمن المعروف أن الوزارات السورية كانت تدار من مكاتب ملحقة بالقصر الجمهوري، وأن صلاحيات الوزراء هي صلاحيات شكلية ليس إلا، فهم يقومون بتنفيذ التعليمات التي تأتيهم من مكاتب القصر الجمهوري. وكان المثال الأبرز لتفريغ المؤسسات من مضامينها، هو تفريغ مؤسسة الجيش من نظامها القيادي التراتبي، والحاقها بنظام صارم من التحكم المخابراتي الأمني ذي الصبغة الطائفية، المرتبطة برأس النظام ولاءً ووجوداً. بمعنى آخر، لا تقود الأركان السورية الجيش السوري، كما لا يقود الضباط قادة الفرق أو الألوية أو الكتائب والوحدات التي يقفون على رأسها، إنما هي تدار عبر وحدات أمنية استخباراتية تخترق الجيش أفقياً وعمودياً، ما يجعل كل خيوط التحكم في الجيش عبر وسائل التفتيت هذه تلتقي في القصر الجمهوري. حتى على مستوى الجهاز الأمني، لم يكن هناك مرجعية واحدة، الفروع التي تتبع وزارة الداخلية، مثل الامن الداخلي والأمن السياسي، لا سلطة لوزير الداخلية عليها، مع أنه يفترض أن يتبعها، فالسلطة على المخابرات تعود الى مكان آخر. كذلك الفروع التي تتبع إلى شعبة الاستخبارات العسكرية، مثل فرع فلسطين والتحقيق العسكري وفرع المنطقة وفرع المخابرات الجوية.. الخ، خيوطها تذهب الى القصر الجمهوري أيضا وليس الى أركان الجيش. تفريغ الجيش من أي آليات قيادية فعالة، كان الإنجاز الأكبر للأسد الأب، وهذا ما ظهرت نتائجه في انشقاقات العسكريين التي ظهرت في ظل الانتفاضة السورية المشتعلة منذ أكثر من ثلاثة أعوام. فعلى الرغم من انشقاقات الضباط الذين يعدون بالآلاف عن النظام السوري، إلا أن أياً من هؤلاء الضباط لم يستطع الانشقاق مع وحدته بأسلحتها، أنما كانت انشقاقاتهم كلها فردية. وهذا مؤشر على مستوى التفريغ الذي تعرض له الجيش في زمن الأسد الأب ومن بعده الابن، وتحويله الى اطار هيكلي فارغ، وخادم أمين وخاص للعائلة الحاكمة.
ما جرى في الجيش من فك وتركيب جرى في كل المجتمع، من ترفيع شخصيات هامشية إلى مواقع مركزية في الاقتصاد والسياسية والمجتمع، ولا شك بأن الأسد الأب كان موهوباً في اختيار الشخصيات التافهة اللا طموحة في إدارة البلد، والعمل عبيداً عنده شخصيا. لذلك، ليس غريباً أن ترى صورة الأسد الأب متماسكاً ومبتسماً وقت وفاة ابنه باسل، في الوقت الذي يبالغ رئيس الوزراء وقتها محمود الزعبي والوزراء في بكاء هستيري. يذكر النظام رعاياه الذين استولى على حياتهم كما استولى على البلد، أن مصيرهم بيد النظام، ليس ما بين الحرية والاعتقال وحسب، بل هي امكانية الاستمرار بالحصول على وسائل العيش. ففي الاعتقال، كان الدرس الذي علمه الأسد الأب للبلد، أن المعارضة تعني البقاء في السجن حتى الموت. وهذا كان مصير صلاح جديد ونور الدين الأتاسي وغيرهم من شركاء الاسد السابقين في السلطة، الذين قضوا سنوات طويلة جدا في السجن دون محاكمة، توفى الأول في السجن، وأخرج الثاني من السجن بعد أن فتك به السرطان ليتوفى بعد أشهر قليلة في مشفى فرنسي. جرَّف القمع الوحشي الحياة السياسية السورية من أي معارضة، وحولها الى صحراء قاحلة. لقد قطع سيف الأسد الأب رأس السياسة في سوريا. ولأن نظام الأسد لم يعرف الشفقة أبدا مع المعارضين، مهما كانت هذه المعارضة متواضعة، فقد كان استئصالها هو هدف النظام. لم يكتفِ النظام بهذا الاستئصال، فقد كان على المجتمع الذي تم تفريغه اثبات الولاء المرة بعد الأخرى، سواء عبر موضة المسيرات المليونية التي جابت كل المحافظات السورية أواسط الثمانينات من القرن الماضي، أو عبر الاستفتاءات الـ 100 % وعبر الاستفتاء بالدم على الولاء «للرئيس الخالد«، فهو الطبيب الأول والمهندس الأول والمحامي الأول والفلاح الأول.. الخ فهو كل شيء في البلد، ولذلك باتت معالم البلد لها تسميات ساخرة، جسر السيد الرئيس حافظ الأسد، مشفى الأسد الجامعي، معهد الأسد لتحفيظ القرآن.. الخ والفائض يسمى باسم الابن الشهيد، الذي استشهد في حادث سير. وتم تدعيم هذا الاحتلال على مستوى الرموز بالبلد، بتوزيع عدد كبير من تماثيل على محافظات سوريا لاحتلال ما تبقى من فضائها، حتى أن هذ التماثيل كانت في غاية البشاعة، وليس فيها أي لمسة فنية، ومن يريد أن يعرف مستوى بشاعة هذه التماثيل، عليه أن يرى تمثال حافظ الأسد المنصوب في وسط مدينة دمشق في ساحة عرنوس، فهو نموذج للبشاعة الفنية.
كل سوري كتب عشرات التقارير الأمنية عن نفسه لأجهزة الأمن، عندما يسجل الطالب في الجامعة عليه أن يكتب تقريراً استخباراتياً عن نفسه، وعندما يتقدم الى وظيفة يكتب تقريراً عن نفسه، وعندما يتقدم بطلب رخصة لمحل لبيع الفلافل عليه أن يكتب تقريراً عن نفسه.
استباحة حياة السوريين كان العمل الرئيسي للنظام الأسدي، فليس البلد ملكاً للرئيس وحسب، بل والرعية تدين بحياتها لكرم الأسد، فأي زيادة في الرواتب هي منحة من السيد الرئيس، كأنه يقدمها من ماله الخاص ويعطيه الى الشعب المسكين. وبما أن البلد وما عليها ملكه، فالشيء الطبيعي أن يمنّ على الشعب لا بزيادة الراتب فقط، بل ويمنّ عليهم بأنه يقبل بحكمهم أيضاً. وكما الأسد الأب، اليوم يمنّ الأسد الابن على السوريين بأنه يقبل بقتلهم.
المستقبل