صفحات الرأي

“تراثنا الروحي.. من بدايات التاريخ إلى الأديان المعاصرة”

 


التنوع الديني حاجة إنسانية لإدراك المقدّس

وفيق غريزي

مع نمو التواصل والترابط بين المجتمعات في أرجاء العالم، تتزايد أهمية التساؤل حول كيفية تعاملنا مع الثقافات والأديان المتنوعة وتفهمنا لها. وكجزء من مجهود متزايد لتمكين كل الكائنات البشرية من العيش معاً في سلام ضمن مجتمع عالمي، أي بتقبل تنوعنا الثقافي مع احترام انسانيتنا المشتركة، يعرض هذا الكتاب مسيرات دينية متنوعة أدت ببني الانسان الى بلوغ الصلة بالمقدس. وبامكان المرء ان يرى عبر الحدود الثقافية، من خلال المنظور الذي تبناه هذا الكتاب، توقاً عاماً الى الارتقاء والسمو. وقد وجد هذا التوق أكمل وأتم تعبير عنه في مختلف الأزمنة والأمكنة ضمن مواريث العالم الدينية والروحانية. وما “التنوع الديني، بهذا المفهوم، في حقيقة الأمر سوى شكل من اشكال الوحدة وتشاطر الأماني المشتركة أو السعي الديني”.

ومن الخصائص المهمة المألوفة في كل أسلوب من أساليب الحياة، الدينية، تلك التي تعبر عن اهتمام عميق، بما يمكن وصفه بأنه التساؤلات الأساسية المطلقة، مثل ما هي غاية الحياة؟ وهل هناك اله حقيقي أو حقيقة نهائية؟ ولماذا بعض الأفعال سليم خلقياً والآخر خطأ؟ تنبع هذه التساؤلات وتتبادر الى الأذهان من مصادر عديدة بما فيها حاجة الانسانية الى معالجة بعض المشاكل الأساسية التي تتعلق بالقيم والمعنى والحقيقة والغرض. وبتأمل مثل هذه التساؤلات يتم فهم البقاء الحيوي البيولوجي والازدهار المادي ضمن إطار أوسع يعنى في المقام الأول بأهمية حياتنا والكيفية التي نعيش ونحيا بها ككائنات بشرية. فقد ظلت الكائنات البشرية، بطبيعتها في كل الأزمنة والأماكن، مدفوعة الى طرح الأسئلة الاساسية المطلقة. وتجيب الشعوب المختلفة وفق ثقافاتها المختلفة عن تلك الأسئلة بوسائل متنوعة، او تتجاهلها كلياً.

الحوار بين الأديان وتآلفها

يقف تاريخ البشرية شاهداً على الظلام والتشويش اللذين بذرهما أولئك الذين استولوا على رموز الدين وسيطروا على خطابه لأعراض شخصية أنانية، فأولئك الذين أكدوا أنهم هم وحدهم المالكون الوحيدون للحقيقة، هم الذين تقع عليهم المسؤولية الجسيمة للارتباك والفوضى اللذين يشكلان آفة فساد العالم. وهكذا فان الاستعانة بالدين لاستحضاره في الصراعات الحديثة تتفق والسياق التاريخي. “فعلى الرغم من أن الدين أسيء استعماله عبر التاريخ وأستغل كقوة حشد معبئة في الصراعات السياسية العرقية، فان اسهام الدين في سبيل اقامة السلام واحلاله ظل مغموطاً حقه ومقللا من شأنه زمناً طويلاً”. وقد استخلص الكاردينال فرانسيس ارتيزي رئيس المجلس البابوي للحوار بين الأديان قائلاً: “لم أقابل طيلة سبعة عشر عاماً من اشتغالي بالترويج لحوار الأديان شخصا من أتباع اي دين لا يعتبر دينه مؤيداً للسلام”. وبما ان كل دين من الأديان ينطوي على نظرة عالمية تروج للسلام، فكلها يملك طاقة القيام بدور ايجابي في سبيل قضية السلام.

ويشير المؤلفان الى انه عندما تتطلب الأخطار التي تواجه العالم، كالارهاب الدولي، واسلحة الدمار الشامل، وزيادة عدد السكان والفقر والأمراض وانحطاط البيئة وفساد المعايير الخلقية، عملاً منسقاً، يتحتم على أديان العالم ان تعمل متضافرة لضمان مستقبل سلمي دائم للانسانية جمعاء. فالنظرة الروحانية المؤسسة على الفضيلة الى العالم والمتأصلة في كل الأديان، الى جانب اهتمام الأديان المشتركة بالتعاطف والخدمة والسلام، توفر أساساً مكيناً يمكن للأديان ان تقيم تعاونها عليه بدلاً من التنافس على سبيل العمل من أجل السلام. فكما لاحظ عالم اللاهوت هانزكونغ، السلام بين الأديان شرطا مسبقا للسلام بين الدول. “أي حوار بين الأديان ليس مناظرة ولا تبادلاً للتفاهات الجوفاء، وإنما هو لقاء لحوار أصيل ينبغي له ان يكون مدفوعاً بالرغبة في العلم والمعرفة. ولذا فان نجاح اي حوار يجب ان لا يحكم عليه من خلال ما اذا توصل الى اي نوع من الاتفاق النهائي. فعملية الحوار إذا جرت بالشكل المناسب هي غاية بحد ذاتها يمكن أن تؤدي الى التفاهم المتبادل بل وحتى الى التغيير”. ويرى المفكر جون أ. بيوهرتز، ان سر الحوار هو العبور ثم العودة. فنحن نعبر في محاولة تقيمية لفهم تجربة ركنة شخص أو دين آخر. وعندما نعود الى ذاتنا، وهو ما يتحتم علينا ان نفعله بأسلوب أو بآخر، لا نعود تماماً كما كنا من قبل، فان التجربة قد غيرتنا، وبطريقة ما تحولنا وتوسعنا. ولعل هذا النمط نموذج للتنمية الروحانية في عالمنا التعددي.

ان الميل نحو الحوار الديني في المجتمعات التعددية يوفر مثالاً ايجابياً للكيفية التي تتمكن بها المجتمعات أو الطوائف المختلفة من العمل في سبيل أهداف جماعية كالعدل والسلام والوحدة.

الميراث الديني لمصر القديمة

ان ثقافة مصر القديمة وحضارتها من أعظم ما للعالم من تراث، فمن بداياتها المتواضعة في وادي النيل نشأت وترعرعت تلك الحضارة وظلت مزدهرة على مدى نحو 3200 سنة، ولا تتوقف الآثار العظيمة التي ما تزال ماثلة في مصر كالأهرام. وابي الهول، والتي يعترف العالم كله بعظمتها، عن بعث الاعجاب واثارة الفضول والحيرة عند الناس. ويؤكد المؤلفان ان المصريين كانوا شعباً استثنائياً شديد الاهتمام بالحياة بعد الموت موهوباً بالقدرة على الابداع في الابتكار والخيال. وأمد موقع مصر في وادي النيل سكانها بدرجة عالية من الأمان والسلامة، وعملت تلك البيئة بمثابة حاجز حمى اهل مصر وداراهم من التأثيرات الخارجية غير المرغوبة قروناً طويلة. ويشير المؤلفان ان ظهور الدين في مصر تزامن مع قيام المملكة المصرية الموحدة في نحو عام 3000 ق.م. وشكلت الأوساط السياسية والاجتماعية والدينية في مصر القديمة نظرة موحدة الى العالم، كان من شأنها المحافظة على دوام تطور حضارة عظيمة. والواقع ان المفهوم العصري لوجود العالم أو عوالم او مجالات أخرى منفصلة للحياة لم يكن بعيداً عن مفهوم الانسان المصري القديم، فلم تكن في ذلك الزمن في مصر كلمة لشيء اسمه الدين، لأن الدين كان يتخلل كل جوانب الحياة ومجالاتها. وقد اتحدت دول المدن المصرية لتكون دولة واحدة تخضع لحكم الفراعنة أو الملوك المتعاقبين. ولم يطرأ “أي تحول أو تغيير جوهري على النظام الاجتماعي الديني لمصر إلا في أوائل تاريخ ما بعد الميلاد عندما اعتنقت مصر الدين المسيحي”.

ومن الظواهر البارزة الملحوظة في الديانة المصرية التجسيدات التصويرية المتنوعة المنسوبة الى آلهة الدين. والواقع يقول المؤلفان: “إن الكتابات والنقوش المصرية الهيروغليفية القديمة تصويرية في طبيعتها”. ولذا يقول بعض المفكرين إن صيغة المفهوم المصري كانت جزءاً لا يتجزأ من الحقيقة التي بثتها وغذّتها الخرافات وصورة حية من الرموز. وهكذا استوعب المصريون العالم وتصوروه بطريقة مختلفة كلياً عن الأسلوب التحليلي للتفكير العام عند المجتمعات العصرية”. وقد شملت التجسيدات المصورة للآلهة أشكالاً حيوانية مثل إبن آوى (أنوبيس إله التحنيط) والعجل (آبيس إله ممفيس) والنسر (مُوت آلهة الكرنك) والصقر (حوروس الإله الذي تجسد كفرعون). وقد تتخذ صور الآلهة أشكالاً آدمية أو مهجنة كأبي الهول. واعتقد المصريون أن الإله أوزيريس والإله إيزيس علّما البشرية أساليب الزراعة، وأصبحت إيزيس إلهة السحر.

المواريث الدينية للإغريق

اتسمت الحضارة اليونانية القديمة بقواعد خلقية موحدة ومبادئ دينية مثالية كانت مقبولة، على الأقل وإلى حد ما، في المنطقة كلها. ويتبيّن التقاء معظم العالم اليوناني وثقافته المشتركة من خلال الأعمال الملحمية التي ظهرت في القرن الثامن قبل الميلاد للشاعرين هوميروس وهيسيود. “وقد نشأت وانتشرت أساطير الملاحم ونشأة الكون المنسوبة الى هوميروس وهيسيود عبر أسلوب تقليدي شفوي انتهجه الشعراء والرواة المحترفون. إلا أنه على الرغم من أن الأعمال المنسوبة الى هذين الشاعرين كانت بمثابة الدرّة التي توجت التراث الشعري اليوناني الذي دام على مرّ الزمن فإن إنجازاتهما لم تكن بمثابة وحي معصوم عن الشطط”.

عمد هيسيود في أعماله الى إصلاح وتعزيز أفكار اليونانيين من خلال تعاليمه الخلقية التي دعت الى احترام الفضائل والمزايا الربانية للعدل والإنصاف والعمل الجاد والزمالة والصداقة والأمانة. إلا أنه من الجدير بالذكر أن الشاعرين وضعا أعمالهما الكتابية ضمن إطار نظام مجتمع أبوي، ولذا جاءت أعمالهما مناصرة سافرة لتفوّق الرجل وسيطرته. وعرض هيسيود أيضاً نصائحه حول أساليب جودة المحاصيل وجنيها. كما عرض في كتابه الثيوغونيا (بحث في أصل الآلهة) أصل وتحدّر الآلهة الخالدة التي تتحكم في شؤون الإنسانية وتتدبرها. “وكان أول من جاء من الآلهة الى الوجود، هو الإله كابوس وهو عبارة عن هاوية سحيقة بدائية هيولية خاوية. ثم ظهرت في أوقات تالية الإلهة غايا (الأرض) وتارتاروس (العالم السفلي) وأيروس (الرغبة الجنسية). وتمكن أيروس وغايا وتارتاروس بما أوتوا من قوة من تقاسم كابوس. وقد أنجبت تلك الآلهة الابتدائية الأولى جيلاً من التيتان (الجبابرة) الخالدين، وأنجب التيتان بدورهم الآلهة الذين عُرفوا بآلهة الأولمب، واستطاع الإله الأولمبي القوي زيوس، بعد سلسلة من الحروب الطاحنة والطغيان والثورات، من إطاحة أبيه التيتاني الطاغية الذي عُرف باسم كرونوس والسيطرة على مملكة الآلهة”.

وُصف زيوس بأنه ذو علم وقوة فائقين، إلا أن أحكامه كانت أحياناً عرضة للمفهوم المصري المبهم والقدرية. فيقول المؤرخ هيرودوتس في هذا السياق: “حتى الإله ذاته لا مفر له من القدر المحتوم”. ولم يكن زيوس وحيداً لا عائلة له. فقد كان له أخوان هما: بوسايدون (إله البحار) وهاديس (إله العالم السفلي) وثلاث أخوات هنّ هستيا (ربة البيت والأسرة) وديمتير (ربة الحصاد) وهيرا (ربة الزواج) وقد ساندوه وأيّدوه في صراعه مع التيتان الجبابرة. إعتقد اليونانيون بأنه هناك وحي مباح بين العالمين الأرضي والسماوي، وأنه متاح للإنسانية من خلال وساطة الشعراء الملهمين والأنبياء والمنجمين العرّافين. ويقول الفيلسوف الروماني شيشرون: “التنبؤ بالغيب إعتقاد قديم يعود الى عصور الحماسة والبطولات. إلا أنه تأكد من بعد بإجماع الشعب الروماني وكل شعب غيره أن عند البشر ملكة لا شك فيها هي القدرة على التنبؤ ومعرفة الغيب”. وأولى اليونانيون أهمية دينية خاصة بالنوم والأحلام. “فكانوا يفسرون بعض الأحلام وكأنها وحي إلهي”.

ولقد صنّف العلماء آلهة اليونان أحياناً في فئتين: هما الآلهة الأولمبيون الذين يسكنون السماوات في الأعالي، وآلهة الأرض، العالم السفلي. وقد تمحورت الديانات السرية أو العقائد الانتقائية حول الآلهة التي تجسّد القوى الأرضية. وغالباً ما اقترن هؤلاء الآلهة بأمور التجدد والخصوبة.

الديانة الهندوسية

يطرح المؤلفان سؤالاً أساسياً حول الديانة الهندوسية، وهو أنها كيف استطاعت استيعاب وامتصاص جماعات من اليهود والمسيحيين والزرادشتيين وغيرهم تاركة لكل جماعة منها مجال الانتعاش الى جانب انتعاش تقاليدها ومناهجها الروحية الخاصة؟ وللحقيقة، إن التاريخ شاهد على قدرة الديانة الهندوسية على تشرّب الأفكار الدخيلة التي عبرت حدود الهند، جالبة بعضها الجيوش الغازية، وامتصاصها بشكل ديناميكي فاعل إيجابي. “ويجدر القول إن الثقافة والحياة الروحانية استجابتا استجابة خلاّقة لاحتلال اليونانيين القدماء والمسلمين والأتراك والمغول ثم الإنكليز”.

يختلف ويتنوّع التعريف الهندوسي لطبيعة الله الكائن الأعلى الأسمى. وفتح هذا التنوع في التعريف المجال أمام أشكال العبادة وأساليبها واختلاف النظرة الى الإله، وكلها موضع احترام متساو عند الهندوس، إذ تصور نصوص الفيدا مجموعة من الآلهة وتحدد لكل إله أو إلهة وظيفة خاصة في العالمين الأرضي والسماوي. هذا مع أن الهندوس، كما يعتقد المؤلفان، يؤمنون بأن أصل كل شيء في الوجود، بما في ذلك الآلهة، مردّه الى مصدر واحد هو كائن أزلي وحيد. هذا الأساس، أو السلطة العليا، يسمى براهمان (المطلق، الكائن الأسمى). والواقع أن الكثير من الهندوس يعتبرون براهمان مرادفاً للحقيقة المطلقة، أي أنه الحقيقة ذاتها. ولقد آمن الهندوس بالتقمّص والتناسخ والكارما، وهذا الأخير هو القانون الخلقي للفعل ورد الفعل.

يكشف المؤلفان عن أن في الديانة الهندوسية أربع طرق روحانية معترف بها على نحو شامل تعتمد كل منها على أساس الميول والاتجاهات الشخصية المختلفة والمنهجيات المختلفة للممارسات الروحانية. وهذه الطرق الأربع هي:

1) طريق العمل الإيثاري غير الأناني كخدمة الإله أو كارمايوغا.

2) طريق بلوغ المعرفة الماورائية الغيبية من خلال التأمل الفلسفي، أي التمييز بين ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي أو جنانا يوغا.

3) طريق العبادة والانقطاع من خلال المحبة الربانية أو بهاكتي يوغا.

4) طريق كلي شمولي يجمع بين جوانب اليوغات (الفلسفات الدينية) الثلاث كارما وبهاكتي وجنانا ويعرف أيضاً باسم راجايوغا.

وتلبي هذه الطرق العامة ميول الناس المختلفين وتوفر لهم بالتالي وسائل معرفة الإله ونوال موكشا.

التراث الديني البوذي

يتقبل بعض الهندوس بوذا معتقدين انه التجسد الالهي التاسع لفيشنو في دورة وجوده غير ان بوذا نفسه لم يدّع ظاهرياً أنه تجسد إلهي. إلاّ أنه يبدو أن أتباع بوذا الأوائل ربما اعتبروه ضمنياً أنه تجسد أو ظهور إلهي. والمثال على ذلك “أن بعض البوذيين القدماء كانوا يشيرون إليه أحياناً باسم الرب أو السيد. وهناك رأي سائد، لكنه قائم على خطأ، يقول بأن بوذا كان ملحداً منكراً للألوهية. وقد ترددت في الهند إبان حياة بوذا آراء كثيرة عن وجود الله وطبيعته بما فيها تلك التي وردت في الأوبنشاوت”. ويقال إن بوذا لاذ بالصمت عندما سأله أتباعه عن الله وعن أمور غيبية ولم يجب عن السؤال. وآخر الطريق في البوذية هي الوصول إلى النيرفانا. والنيرفانا تفوق الأساليب الثنوية للتفكير وتتخطى أنماط الفكر العادية، أنها نهاية المعاناة، وبما أن التجربة النيرفانية مستحيلة الإدراك في نهاية المطاف، لذا يقول المؤلفان: “تحاول التعاليم البوذية تفادي شرحها بالمعنى الإدراكي المفهوم، ويُنظر إلى المفاهيم الإبهامية التجريدية على أنها عقبات أو كوسائل بدلاً من كونها غايات. فبدلاً من موضعة المفاهيم في العالم الخارجي، يميل البوذيون الى التركيز على داخل العالم الوهمي مستهدفين التجارب التحويلية لما وراء الفردية والثنوية الازدواجية”.

التراث التعليمي الصيني

ثمة مفاهيم ومبادئ التراث الروحي الصيني، ظهر على يدي كل من لاوتسو وكونفوشيوس.

وتشير المعلومات إلى أن هناك مبدأ واحدا بالذات يمثل محوراً مركزياً في مجمل الديانة والفلسفة الصينيتين، وهو إزدواجية ين – يانغ. ويعود هذا المبدأ في أصله إلى الديانة الصينية القديمة قبل أن تأتي الطاوية وتتبناه. ويرمز تعبيرا ين ويانغ إلى الظلام والنور على التوالي.

ورمزهما الكتابي باللغة الصينية هو العالم المعتم، والرايات الملوّحة في الشمس.. ويمثل ين ويانغ بصفة أعم إزدواجية، أو ثنائية، بين صفات أو مزايا متعارضة متبادلة، كإزدواجية الذكر والأنثى، والنور والظلام والموجب والسالب”. والطاو هو المبدأ المنشأ السامي الذي يتجاوز كل إزدواجية ثنائية، وهو في الوقت نفسه المبدأ الأصل الماثل الذي ينظم التفاعل بين ين ويانغ. وهذا يؤدي إلى مبدأ قديم آخر تبنته الديانة الطاوية وهو “تي” القوة.

ويتألف رمز هذا التعبير من ثلاثة أجزاء: المضي إلى الأمام، المستقيم، والقلب. ويمثل القوة النظرية المتولدة طبيعياً التي يكتسبها المرء من الطريق. وهذه القوة ليست للسيطرة أو قهر الضد وهزيمته، بل هي قوة التوافق والإنسجام مع الطريق التي تتجاوز بتوافقها التعارض وتتخطاه كلياً.

أما الكونفوشيوسية فشواغلها وشؤونها الأساسية هي بث الخير والصلاح، أو الإنسانية في الفردية، وإيجاد التوازن والنظام والإنسجام في المجتمع ككل. وهذه الأهداف إما أن تتحقق معاً أو لا تتحقق أبداً. ومن المهم جداً بلوغ هذه الأهداف تنمية الخلق الصالح. والخلق الحسن حالة دائمة من التوازن بين الأضداد المغالية في التطرف. ويؤكد المؤلفان أن هذه الميزة تُكسب الفرد المرونة كي يتكيف مع ما لا يُتوقع من الأمور والأحوال وبالشكل المناسب. يوصف كونفوشيوس بأنه معلم الصين الأول، عدا أنه يحظى بالإجلال كواحد من أعظم معلمي الإنسانية. ولكنه رغم ما بلغ من رفعة، كان كونفوشيوس إنساناً بالغ التواضع. وقد دلل على ذلك بوصفه نفسه كالتالي: “هناك أربعة أمور في حياة الإنسان المعنوية لم أقدر على تنفيذ أي منها في حياتي، لم أخدم أبي كما أتوقع أن يخدمني إبني، ذلك لم أستطعه. أن أخدم حاكمي كما أتوقع أن يخدمني وكيلي الذي هو دوني، ذلك لم أستطعه. أن أتصرف تجاه أخي الأكبر كما أتوقع أن يتصرف أخي الأصغر تجاهي، ذلك لم أستطعه. أن أكون أول من يتصرف بخلق تجاه أصدقائي كما أتوقع أن يسلك أصدقائي تجاهي، ذلك لم أستطعه”.

وكونفوشيوس لم يدع أنه حكيم رباني. ما قاله عن نفسه هو أنه كان شغوفاً بالحكمة ومعلماً.

التراث الديني الزرادشتي

علّم زرادشت الفارسي تابعيه، الإيمان بالكائن العالي الأسمى (أهورامازدا) المتحد مع الحقيقة والنظام. واسم أهورامازدا تشتق من دين بلاد فارس القديم. إن تعبير أهورامازدا يدل على رب عالمي السماء والأرض، و”تقول النصوص الزرداتشية إن العالمين، العالم الغيبي غير المنظور والعالم المادي الظاهر خلقاً عندما انبثقا من فكر أهورامازدا”. العالم الطبيعي بالنسبة إلى الزرادشتيين عالم في خلق أهورامازدا، ولذا فهم يرونه في جوهره عالماً طيباً خيراً وإن كان زائلاً. وهم كما يشير المؤلفان يقدسون فيه، على الأخص، عناصره الأربعة من طين وهواء وماء ونار. والعالم المادي هو المكان الذي تتاح فيه للناس الصالحين الفرصة كي يؤدوا أعمالهم الخيّرة الصالحة ويسهّلوا انتعاش الحياة بكل أشكالها. والعالم المادي هو أيضاً الموضع الانتقالي الذي يستطيع فيه الأفراد ومن خلال ممارستهم الاعتدال ونوايا الخير والصلاح جني كنوز لا تقدر بثمن من أبناء وأسر وفاكهة الطبيعة، وعطائها وأفراح الروح التامة.

“الاختيار بين الخير والشر مشكلة إنسانية جوهرية عند الزرداشتيين جلّها عند أهورمازدا عن طريق سبنتا ماتييو. ولا تحل هذه المشكلة المعضلة إلاّ من خلال خيار الفرد نفسه أن يتبع الله وأن يؤدي، كمخلوق رباني خاص، العمل الرباني بتحقيق الصلاح والصواب”.

تراث أميركا الوسطى الديني

ظهر وازدهر عدد من الحضارات عبر الفترة التاريخية التي سبقت العصر الكولومبي في أميركا الوسطى.

وكانت حضارة الأولمك من أوجه عدة رائدة الحضارات التي تلت في أميركا الوسطى من أمثال حضارات: المايا والتوتيهواكان والتولتك والأزتك. وكانت في “صميم تلك الحضارات وجوهرها مجموعة كبيرة من النظرات الدينية إلى العالم ومن الممارسات والطقوس الروحانية. وقد ابتكرت شعوب أميركا الوسطى وطوّرت، بمعزل عن شعوب أفريقيا وآسيا وأوروبا وباستقلال تام عن منجزاتها، كتابة هيروغليفية متقدمة وتقويماً سنوياً معقداً وشيدت نصباً وصروحاً هندسية رائعة. وأغنت هذه المظاهر الثلاثة من مظاهر الثقافة، ثقافة تلك الشعوب البعد الروحاني لحياتهم وعمّقته. فقد يسّر تطور الكتابة الهيروغليفية لكهنة وحكماء أميركا الوسطى الحفاظ على حكمة أسلافهم وصونها في مخطوطات ملوّنة ونقوش في المعابد وغيرها من الأدوات الفنية والأثرية. ومن حيث المعتقدات الدينية في أميركا الوسطى، فالطير والأفعى كانا رمزاً يمثل إقليمين لهما أهمية متميزة بالنسبة للتفكير الديني والكوني وهما السماء والأرض. ويشير المؤلفان إلى أن الآلهة كلهم بالنسبة إلى المعتقد الديني الشعبي هم أبناء أوميتيوتل. غير أن النصوص المكتوبة بلغة الناهواتل (من لغات الأزتك) والمخطوطات تكشف أيضاً عن أن التيتيو الآلهة الذين يظهرون في تفكير العلماء خنتويين جزئياً أو كلياً أحياناً (لهم أعضاء الذكورة والأنوثة) يعتبرون منصفين كغيرهم من ظهورات الإله الثنوي الأسمى. “أليست الحقيقة النهائية هي أمنا وأبانا، التي تهب الحياة في كل مكان وفي كل زمان، وهي في الواقع شكل جميل من أشكال مقاربة السر الغامض، وذلك السر الكامن وراء الريح والليل”.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى