صفحات الرأيمحمد سامي الكيال

وطنيون ومعولمون: ما وراء التقدمية والرجعية/ محمد سامي الكيال

 

 

المطلع على الخريطة السياسية والأيديولوجية في الدول الغربية، سيجد الكثير من الظواهر المثيرة للحيرة. فمن جهة هنالك تيار «محافظ» بنكهة ثقافة البانك (punk)، ينقد «المؤسسة» والتيار السائد، ويشبّه نفسه أحياناً بفرقة «مسدسات الجنس» (Sex Pistols) الشهيرة، التي ظهرت في الأوساط العمالية الإنكليزية في السبعينات، وقدمت نفسها كثورة على المزاج البريطاني المحافظ سياسياً واجتماعياً. ومن جهة أخرى، يسار «تقدمي» يدعو إلى الحفاظ على أنماط الحياة التقليدية حول العالم (ما دامت غير «بيضاء») وإلى التواضع والخشوع أمام «أمنا الأرض»، والحد من حرية التعبير، واحترام الأديان والثقافات، ويجد دعمه لدى معظم المؤسسات السائدة في الميديا والمجتمع المدني.

لم يعد من الجديد القول إن اليمين واليسار، كاتجاهين أيديولوجيين واصطفافين اجتماعيين وسياسيين، فقدا قدرتهما التفسيرية مند زمن، فهذا الطرح تم التنظير له منذ التسعينات على يد مفكرين ومؤرخين ونقاد ثقافيين معروفين، وبات تكراره من أساسيات الفكر السياسي المعاصر. إلا أن الواقع الأيديولوجي الجديد في عصر ما بعد اليمين واليسار لا يزال غير واضح أو محدد، بخاصة مع تواتر الحديث عن اتجاهات سياسية جديدة مثل «اليسار الجديد» أو «اليمين البديل». كما أن استخدام صفتي «تقدمي» progressive و «محافظ» conservative ما زال أساسياً في التصنيف السياسي في الغرب، بخاصة الولايات المتحدة.

إحدى أهم النظريات لتوضيح هذه المستجدات القول إن الانقسام السياسي الحالي هو من جهة بين دعاة «الحمائية»، أي من يطالبون بالمحافظة على ما تبقى من الدولة الوطنية بمعناها الكلاسيكي، وصيانة الحدود الوطنية بين الدول، وفرض نوع من الحواجز الجمركية التي تحمي الإنتاج المحلي وانتقال الاستثمارات وفرص العمل إلى الخارج، ويعارضون سياسات «التعددية الثقافية» و «الانفتاح» التي تتبناها الحكومات. ومن الجهة المقابلة دعاة «العولمة» الذين يعتقدون أن الدولة الوطنية بمفهومها القديم باتت من الماضي، كما يعتبرون أن الهويات الوطنية ما هي إلا صيغ تعالٍ ثقافي وعنصري قامع للتعددية الاجتماعية وهويات الأقليات. ويتفاوت موقفهم من العولمة الاقتصادية بين التأييد الكامل لها (أحزاب يمين الوسط) أو الدعوة إلى التخفيف من آثارها الاقتصادية والاجتماعية الضارة (الاشتراكيون الديموقراطيون وأحزاب الخضر) أو المطالبة بـ «عولمة جديدة» (اليسار الجديد).

يضم معسكر الحمائيين طيفاً واسعاً من التيارات والأيديولوجيات، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، فنجده يشمل أحزاب اليمين الشعبوي (الجبهة الوطنية في فرنسا، والبديل لأجل ألمانيا مثلاً)، وبعض جماعات النازيين الجدد ودعاة التفوق الأبيض والمسيحيين المحافظين، وأنصار «الليبرتارية» الذين، على رغم دعوتهم للاستغناء عن دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي، يرفضون الشكل الحالي للعولمة ويؤكدون أهمية الحدود والمؤسسات الأمنية التي تحميها. وأيضاً عدداً من الأحزاب الشيوعية التقليدية في أوروبا صاحبة المزاج المناهض للاتحاد الأوروبي، بل حتى تياراً واسعاً في بعض جماعات «اليسار الجديد» مثل «سيريزا» اليونانية، التي قاومت ما اعتبرته شروطاً مجحفة للاتحاد الأوروبي وهددت بتركه، قبل أن تخضع له مجدداً، ليس من دون الكثير من المرارة.

أما معسكر المعولمين فيشمل معظم المؤسسة السياسية السائدة ضمن أحزاب يمين الوسط ويساره، فضلاً عن غالبية «اليسار الجديد»، ومؤسسات المجتمع المدني التي تشربت فكر اليسار الليبرالي الغربي من الناحية الثقافية، وأصبح دعم التعددية وحقوق الأقليات والنسوية والمثليين جنسياً البند الأساسي في أجندتها، ما يسميه بعض المحافظين بـ «الماركسية الثقافية»، ويربطونه بانتقال منظّري مدرسة فرانكفورت الماركسية الألمانية إلى الولايات المتحدة، وسيطرة أفكارهم على المؤسسات الأكاديمية والإعلامية والثقافية.

لا يمكن فهم هذا الانقسام من دون الأخذ في الاعتبار الظروف الدولية الجديدة، خصوصاً بعد نهاية المغامرة الإمبراطورية للمحافظين الجدد في الولايات المتحدة عقب فشلهم الكبير في العراق وأفغانستان، وسيطرة «عقيدة أوباما» على السياسة الدولية، القائمة على تأمين التقدم السلمي لسياسات العولمة والانسحاب من نقاط التوتر والنزاع في العالم. ومن جهة أخرى ظهور نمط جديد من الديموقراطيات غير الليبرالية في العالم، التي تقوم على مبدأ «التفويض» بدلاً من «تداول السلطة»، كما هو الحال في روسيا وتركيا وهنغاريا، وهي الأنظمة التي يمكن اعتبارها أقرب إلى فكر «الثورة المحافظة» ونقد الديموقراطية الليبرالية الذي ظهر في ألمانيا في عصر جمهورية فايمار، حيث تقوم السياسة على التمييز بين «الصديق» و «العدو»، كما في أطروحة المفكر القانوني كارل شميت الشهيرة، وتُحشد «الجماهير» على أسس «هوية الجماعة»، في أنظمة رئاسية قوية ومستقرة، تعتبر الحريات الليبرالية إضغافاً للجماعة وإفراغاً لمضمونها. وعلى رغم أن أنظمة التفويض مندمجة في شكل جيد في العولمة ولا يمكن اعتبارها نقيضاً لها، فكثر من «الحمائيين» يقدّرون البوتينية ويعتبرونها نصيراً لهم، فيما «المعولمون» أوباميون حتى النهاية، وحالياً ميركليون بعد أن سلّم أوباما قيادة «العالم الحر» للمستشارة الألمانية عقب انتخاب دونالد ترامب.

المفارقة هنا أن البعض يعتبرون حكم مركل بدوره حكم «تفويض» وليس «تداولاُ». فالمستشارة التي ما زالت مستمرة في منصبها منذ 2005 وتسعى لفترة حكم رابعة، في ظل إقصائها أي بديل واقعي لها، وتفرّدها المثير للجدل في اتخاذ القرار، تثير الكثير من الأسئلة عن ماهية الديموقراطية الليبرالية في ألمانيا.

ولكن ما علاقة كل هذا بـ «التقدمية» و «المحافظة»؟ ولماذا ما زال هذان التعبيران شديدي التداول في السياق الأيديولوجي، على رغم كل الحديث عن نهاية فلسفات التاريخ وتفكيك السرديات الكبرى؟

أحد تناقضات حاضرنا، أن تعبير progressive مرتبط اليوم بالسياسات ما بعد الحداثية، التي قامت في جزء منها على نقد أيديولوجيا «التقدم»، وعلى رغم ارتباطه بدعم الحريات الفردية الليبرالية، فهو كثيراً ما بات يستخدم للتغطية على ممارسات المجتمعات المحافظة، إذا كانت أقليات في الغرب. اليوم أصبحنا نرى تقدميين يتحفظون على حظر تزويج القاصرات، ويناهضون بقوة نقد الدين، وينتقدون مبدأ حرية التعبير، ويستهينون بحقوق العمال والعاطلين من العمل ويتعاملون معهم بفوقية. بل أصبح بعض رموز الإسلام السياسي، والجماعات المقربة من «الإخوان المسلمين» في الغرب، جانباً مهماً من المعسكر «التقدمي». من ناحية أخرى يظهر الحمائيون، الذي يعرّف الكثيرون منهم أنفسهم بوصفهم conservative أقرب للمفهوم الكلاسيكي للتقدمية، وكثيراً ما يستعيرون اللغة اليسارية التقليدية، فيتحدثون عن النضال العمالي وأهمية حرية التعبير، وينتقدون الرأسمالية والعولمة ودورها في إفقار البشر، والممارسات المحافظة القادمة معها، بخاصة إذا ما تعلق الأمر بالأقليات.

قد يحتاج الأمر إلى فلسفة تاريخ جديدة لفهم هذا التناقض وتمييز الطرف الرجعي من التقدمي في هذه المعادلة. ما يمكننا أن نكون متأكدين منه أن عالم القرن العشرين بمفاهيمه واصطفافاته السياسية ولّى إلى الأبد، وأنه لا يوجد طرف من هذين الطرفين يحتكر بذاته التقدمية والرجعية، اليمين واليسار، الخير والشر أو أي مفهوم مطلق آخر.

* كاتب سوري

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى