راتب شعبوصفحات الثقافة

خصوصيات معلنة/ راتب شعبو

على جسر المشاة فوق طريق سريع كتبت أيدٍ عاشقة أو خائفة أو مقهورة أو غاضبة، عبارات شديدة الخصوصية وشديدة العلنية في الوقت عينه. هل هناك أكثر خصوصية من عبارة تقول: “أمير، أنا رنيم، بحبك”؟ وهل هناك أكثر علنية من كتابة هذه العبارة على طريق عام؟ إنه اجتماع لافت بين نقيضين: السرية والعلنية، أو الخصوصية والعمومية، أو الحميمية والعَرض. ربما لن يعرف أحد من هو أمير سوى أمير المقصود نفسه. بل لعل أمير المقصود نفسه لن يعرف أيضاً أنه المقصود إذا كانت رنيم هذه فتاة مغرمة به عن بعد ولا تعني له أكثر من كونها فتاة بين أخريات. فقد يظن أن أميراً آخر هو المقصود. كما يمكن أن تبقى رنيم ضائعة بين سميّاتها الكثيرات فتبقى العبارة غارقة في العمومية، مثل حكمة أو قول مأثور، على رغم أنها إعلان صريح عن أعمق مشاعر الفتاة وأكثرها حساسية وحذراً.

على الجسر نفسه كتبت فتاة أخرى تعهداً بأنها لن تفكر ثانية في غيث، وزادت قائلة: “أنت لا شيء، وكذلك كل طلاب الهندسة”. لم تُرد أن تترك الرسالة مغفلة، فأضافت اسمها بتأكيد متحدٍّ: “أنا خلود”. كان من الممكن أن ترسل خلود إلى غيث هذه الرسالة عبر وسائل التواصل العديدة. لا شك أن لديها وسائل تواصل مع غيث الذي كانت تفكر فيه من قبل، والذي كان يعني لها الكثير قبل أن تقرر نبذ التفكير فيه، وقبل أن يتحول عندها إلى “لا شيء”، لكنها اختارت أن تعلن قرارها وتحدّيها لكل من يمر على هذا الجسر ويكون لديه من الفضول والوقت ما يكفي لقراءة هذه الخصوصيات المعلنة.

يدٌ يائسة وجدت لهمّها مكاناً في زحمة الكتابات لتكتب مرارتها: “لا تعشق فتاة قبل أن تسألها عن موعد الخيانة”، شاكياً همّه الخاص لجمهور عام. أو ربما أراد ممن خانته أن تقرأ العبارة وتدرك أنها المقصودة فتشعر بعذابٍ يخفف من عذابه.

بين زحام العبارات العاطفية الشديدة الخصوصية، تمتدّ يدٌ من نوع آخر لتكتب: “يريدون أن يرسلوني إلى الموت، كي يبقوا في فيلاتهم وتبقى لهم السيارات المفيّمة”. لوعة مختلفة عن لوعة الحب تحرّك هذه اليد. انشغال آخر ومجال آخر، لكنه يجتمع مع الانشغالات الأخرى في طريقة التعبير وشكله. أتخيّل شاباً مطلوباً للخدمة الإلزامية في ظل هذه الحرب العمياء، وهو عاجز عن التخلف وفاقد لأيّ دافع، بل رافض في قرارة نفسه، الالتحاق بالخدمة. هو يعاني من مشقة وعيه بأن المطلوب منه أن يدافع بدمه عن رفاهية الغير وتجبّرهم، أي إن المطلوب منه أن يدافع بدمه عن بؤسه وبؤس أهله، لكنه عاجز عن أيّ فعل، وعاجز حتى عن التعبير عن هذا الوعي. لذلك يكتب شكواه هنا من دون أن يتجرأ على إعلان اسمه، كما فعل العشاق والعاشقات. لا تحمل هذه الشكوى “السياسية” الخاصة تاريخاً، والصراع في سوريا طال أمده وزاد تطلباً للأرواح، ما يتيح للمرء أن يتخيل أن صاحب هذه العبارة ربما قضى بالفعل في متن هذا الصراع.

بخطٍّ لم تمتلك اليد التي كتبته الثقة الكافية بعد، كُتبت عبارةُ هجاء قاسية للآنسة هالة الغبية والقبيحة، ملحوقة بشتيمة تطال “أول من اخترع المدرسة”. ها هو تلميذ صغير يشارك في مهرجان الإعلان عن الخصوصيات، ويعلن للعموم ضجره المبكر من الدراسة.

يلفت أن العبارات كلها باقية من دون تعليقات، سواء من المعنيين بها أم من غيرهم. عبارات وآراء منتهية ومقطوعة، تقوم بوظيفتها بمجرد أنها كُتبت أو أعلنت. ويبدو أن القارئ يدرك هذا فيكتفي بالقراءة.

لا وجود للعبارات السياسية الموالية على الوجه الداخلي لدرابزون الجسر، على الضدّ تماماً من الوجه الخارجي له أو الوجه الخارجي لسور المدرسة المجاورة، حيث كُتبت بخطٍّ كبير ونظامي عباراتٌ تحيي الجيش السوري والموقف الروسي وتحذّر اليد التي تتجرأ على سوريا. بين الوجه الخارجي والداخلي للدرابزون، يكمن دينامو العذاب السوري.

لا غرابة في أن هناك جاذبية لإعلان ما في النفس من خصوصيات. النفس تميل للبوح إلى شخص قريب أو مختص أو إلى ورقة على دفتر خواطر أو مذكرات، غير ان هذا بوح من نوع مختلف، بوح لجمهور مغفل من أشخاص مغفلين هم أيضاً بالنسبة إلى هذا الجمهور. مع ذلك، لإعلان الخصوصيات هذا جاذبيته في ما يبدو، وله وظيفة نفسية في مجتمع يعاني قمعاً مزمناً في السياسة وفي الاجتماع.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى