صفحات الثقافةعزيز تبسي

في العجز عن الوصف/ عزيز تبسي *

افتتحت المجموعة الموسيقية المصرية الشابة، التي كافحت بدورها لتعريف الوعي الشعبي بأسباب اضطهاده وقهره وإذلاله، ومن ثم تحريضه وتعبئته لدفعه نحو الانتفاضة الثورية، أغنيتها “ضد الحكومة”، ب:يااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااه.

ال :ياااااااااااااااااااااااااااااااااااااه، التي تشبه تأوهاً عميقاً وطويلا، يختزل مصفوفة كلام وتعابير لغوية، تعني في ما تعني: طفح الكيل، وإيذان لطيف مهذب، بافتقاد من ينطقها بالأصالة عن نفسه وبالوكالة عن غيره، قدرته على احتمال شروط الحياة، التي صنعها ويحرسها منذ عقود رجالات نظام الرأسمالية التبعية.

نهضت الموضوعية على ركن متين، لم يستكن بالقدرة المكتفية بذاتها على إقناع الذات الهائجة وإرضائها، بل في القدرة المواظبة على إقناع الآخرين.. وهذا تطلب سرد الوقائع والدلائل والبراهين وتقديم سيول لا تتوقف من الحقائق الخارجة من اختبارات التجربة، وتفسيرها بالمعاينات العقلانية. فبحيازة العدو السياسي – الطبقي، الوسائل التي تمكّنه من تطويق الحقيقة وإنهاكها بسرديات موازية، تحجب الرؤية وتضلل الهدف.

وما زال الناس يقولون عن الوقائع المهولة انها “شيء يفوق الوصف” لكنهم، رغم ذلك يستخرجون من اللغة كلماتها، يقلبونها، يداورونها، ليتحدثوا بإسهاب لبق أو بعبارات مقطعة، مبتورة أطرافها، مثلومة أعناقها، عن ملمس الألم ودروبه التي لم تعد تنتهي. وفي مشقة الرّوي، تخونهم دموعهم وتأوهاتهم، تخونهم الصورة الوثائقية الخارجة لتوها من حوض الحمض الكاشف، تخونهم قائمة المفقودين المتزايدة.. يدقون بأكف صلبة متشققة على صدورهم، ويحرقونها بعد ذلك بلفائف التبغ الثقيل، يضربون نساءهم وأولادهم بافتعال مشكلة نافلة، يضربون مواشيهم.. ويذبحون بعضهم من دون شفقة، يرمون بأنفسهم من أعالي الجسور وليمة للأسماك والتماسيح، ويمتطون بعضهم في قوارب صيد مثقوبة أكفيتها، متوسلين نقلهم إلى عالم أقل وحشية… كأنهم ببعض ذلك يبعثون رسائل حارقة للسلطة الحاكمة التي تسوطهم: ها قد وصلنا إلى مرحلة الاستعانة بالموت على موتكم.

ولطالما تساءلوا: ترى من هؤلاء الذين “استوطوا حيطنا”؟

حتى القطط كانت تباغتهم لتأكل عشاءهم، وتعقبها الفئران مُجْهِزة على إفطارهم، والسلطات المتوالية سليلة الزنى التاريخي، تدوسهم بأحذيتها المدعم نعالها بالمسامير، وتسرقهم وتمرغ وجوههم بالإهانة…

ويكررون السؤال، باحثين عن يقين إجابته، ترى الذين أطلقوا على انقلابهم العسكري اسم ثورة، ولم يستطيعوا الاستمرار ليوم واحد في الحكم دون قوة الأحكام العرفية وقوانين الطوارئ والمحاكم الاستثنائية والمحاكم الميدانية، الذين يبيعون من كوة الأطعمة التي تسرطن دمهم وخلاياهم وأعضاءهم، ومن كوة أخرى المصول الملونة غير الفعالة للاستطباب منها. الذين يتحدثون في محطات التلفزيون عن الأجداد وتاريخهم وإنجازاتهم الخالدة، وينهبون آثارهم تحت جناح الليل، وينقلونها ليعرضوها بالمزاد خارج البلاد. الذين سرقوا ذخائر السد من الحديد والإسمنت وتركوه ينهار، وباعوا ما تبقى من أهالي الغرقى الأغطية الصوفية وأكياس الحليب ومعلبات السردين التي وصلت كمعونات. الذين يرفعون طاقة التيار الكهربائي لدقائق لتحترق بعدها كل المصابيح والأجهزة الكهربائية والالكترونية، ويعرضون في الصباح بديلا للأجهزة المحروقة، بالتقسيط المريح أجهزة بائرة في بلدانها. الذين رخصوا في الظلام لشركات استثمار الأموال وتنكروا لأفعالها بعدما أجهزت على مدخرات المستثمرين ومعظمهم من أصحاب الدخل المحدود. الذين يهيئون تهم جوالة للأطفال من فور ولادتهم، ويتركونهم ينظفون أبدانهم وأرواحهم من أدرانها، طيلة يفاعتهم وشبابهم ورجولتهم وكهولتهم.

الذين يقطعون مياه الشرب، وينقلها أجراؤهم بالصهاريج الملوثة ببول السائمة، ليبيعوها بالزجاجات المختومة فوهاتها إلى العطشى، المصطفين خلف بعضهم كخطوط سكك حديدية لا تنتهي محطاتها. الذين يبيعون الطلبة أسئلة الامتحان وأجوبتها ويتوعدون من لا يشتريها بعلامات الرسوب. الذين يمنحون العلامات لأتباعهم، الكافية لإدخالهم الكليات الجامعية الفاخرة كما كان الخليفة يمنح دنانير أسلابه للشعراء المرتزقة. الذين يهربون أموالهم المسروقة إلى مصارف الدول الصديقة، ويطالبون المهاجرين بالعودة لاستثمار أموالهم في بيئة استثمار آمن. الذين يدفعون الشباب لتناول المخدرات لنسيان أحوالهم، ويضعونهم تحت الابتزاز الدائم للقيام بأعمال شائنة، أو الاعتقال الفوري بتهمة جنائية. الذين يقتلون الناس، ويقتلون من يخرج في جنازاتهم. الذين يشتمون الناس بأمهاتهم ويسبقونهم للاحتفال بعيد الأم. الذين يخطفون السابلة من الشوارع ويخفونهم لسنوات في الأقبية، الذين يرددون دون خجل أن قوانينهم البيضاء لا تحمي المغفلين السود، متجاهلين أن نسبة الأمية تتجاوز الستين في المائة وأنظمتهم التعليمية تضيف إليهم ثلاثون في المائة. الذين يبيعون الأرض للأعداء كما يبيع التجار قماشهم… ومن الضرورة التنويه عن الارتباط بين تعاظم الشعور الوطني وتقلص الأرض تحت أقدام أبنائها، لتظهر ملامح العجز على العامة والعديد من طلائعهم، وهم يحاولون فهم أي من تلك الحروب التحريرية التي خاضها العسكريون، والتي تسببت نتائجها في تقلص الجغرافيا الوطنية.

لم يكن في النية الاستعانة باللغة والكلام لسرد الوقائع، فهناك دوماً من تصمّه المأساة عن النطق، لكنه يُعبّر بصمته الثقيل، وبتلك اللمعانات المائية في عينيه الجافلتين. وحين يجري تقوية الكلام بالصورة، يتذكر ما عجز عن البوح به، أي الرائحة المنبعثة من الحرائق والجثث المتفسخة وأكوام النفايات ونفوق الحيوانات الأهلية خلف محاريثها الخشبية، وعلى الطرقات العامة، والأصوات التي لما تزل مخنوقة بلفائف الأغطية والخجل.

الذين تبينوا من زمن أنهم لم يعودوا قروداً، وسروا وهللوا لهذا الاكتشاف الذي تحول إلى نقمة مجنونة على أنفسهم وأولادهم ونسائهم وبيوتهم وحيواناتهم ومزروعاتهم.. وتوجب دفع أتاوة تحولهم المتأخر إلى البشرية، قد تكون حياتهم.

لطالما طالبوا الله بالتدخل لنجدتهم من هذا العذاب الدهري، طالبوا الرسل وصحابتهم، طالبوا الملائكة والقديسين، طالبوا الخيول بالعودة من أعماق البطولات المجيدة، طالبوا الطبول والصنوج والمزامير، طالبوا الدول المتصدقة..

لم تكن موضوعة الاضطهاد والظلم والاستغفال النذل شريحة مسلوخة من نسيج لحم آدمي، يستعان على تحليلها بالمجاهر وعدساتها، للتيقن من الأورام الخبيثة، أو على نجاتها من هجمات الأمراض المتربصة بها. الظلم معاش يومي، ظاهرة أعماقه، بارزة أسبابه، ممنوع الحديث عنه أو الإشارة إليه أو المطالبة برفعه… مما دفع الناس للموت قبل أوانهم متأثرين بالحرائق التي تأتي على أعمارهم.

* كاتب من سوريا

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى