صفحات العالم

ماذا بعد استقالة الإبراهيمي؟ لا حسم عسكري ولا اختراق سياسي والنتيجة تدمير سوريا/ د. عبد الحميد صيام

 

بكثير من المرارة والأسى ترجل الأخضر الإبراهيمي من مقعد قيادة قاطرة الحل السياسي للأزمة السورية المتوقفة أصلا منذ أكثر من ثلاثة شهور. كان لديه أمل أن يتم إصلاح العطب وتعود العربة تسير في الطريق الذي كان يأمل أن يصل بها إلى نهايته لكن من لديهم القدرة على إصلاح العربة غائبون عن عمد وسبق إصرار ومن هم قريبون منها لا يستطيعون إصلاحها.

بعد 21 شهرا من المحاولات الجادة التي جاءت على خلفية فشل صديقه ومديره السابق كوفي عنان، استطاع الإبراهيمي، رغم كل العقبات، أن يرتب لجولتين من المفاوضات المباشرة بين طرفين متصارعين في الميدان كل يحاول إبادة الآخر. فبعد أن ‘تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم’ تمكن الإبراهيمي من أن يجمع من يسميهم النظام ‘بالإرهابيين’ مع ‘النظام المجرم’ كما تسميه المعارضة. فكيف يمكن لتسوية تخرج عن طرفين بهذه المواصفات من دون تدخل دولي وإقليمي مباشر وغير مباشر. ألم يقل لنا الإبراهيمي إنه يعتمد أسلوب الاحتواء لا الإقصاء وإن وجود إيران في المؤتمر أفضل بكثير من وجودها خارجه وإن أفضل عريف للصف هو الطالب المشاغب ومعاداته تنقلب إلى مزيد من الشغب والفوضى.

الإبراهيمي في خطابه الأخير أمام المجلس عاتب الأعضاء ولسان حاله ‘قلت لكم ذلك ونبهتكم من مغبة الإقصاء’. أتذكرون عندما وجه الأمين العام للأمم المتحدة دعوة لإيران لحضور مؤتمر جنيف 2 ثم تم ليّ ذراعه فورا بقرار من دولة خليجية عن طريق وزير خارجية الولايات المتحدة جون كيري الذي استشاط غضبا وطلب من الأمين العام إلغاء الدعوة وألغيت بعد أقل من 24 ساعة من صدورها. ها هو الإبراهيمي الآن يقول لأعضاء المجلس ‘إيران أبلغتني بأنها قادرة على تأجيل الانتخابات الرئاسية في سوريا’. لكن أخشى أن يكون الوقت متأخرا.

الإبراهيمي يعتذر للشعب السوري ولكن ليس كما تم تفسيره من قبل النظام بل لأن الإبراهيمي لم يستطع أن ينقذ هذا الشعب الأصيل المناضل العروبي من فكي كماشة الموت: شبيحة النظام وطيرانه وبراميله من جهة وسواطير وسيوف وفتاوى المتطرفين الإسلامويين من أمثال داعش وأخواتها من جهة أخرى. نعم كلنا يجب أن نعتذر للشعب السوري المعطاء الذي ظل حاضنة لكل مشردي العرب والأرمن والأكراد والشيشان واليزيديين وغيرهم وعندما حان الوقت لنقف معه في مصابه خذلناه بل وذهب نفر ليس بقليل يبرر المجازر التي لم يشهد لها العالم مثيلا منذ الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994.

لقد خذل مجلس الأمن الشعب السوري فلم يتحد إلا على إرسال مساعدات إنسانية من طحين وماء وسردين بشرط موافقة طرفي الصراع والتنسيق معهما مما يضمن عدم وصولها.

وخذل الشعب السوري العرب عندما ارسلوا 150 مراقبا لا يكفون لحماية بناية ثم تمرجلوا بطرد سوريا من الجامعة العربية واختلفوا على من يمثلها وأخيرا اتفقوا على أن يبقى المقعد خاليا وأمين عام الجامعة العربية يتفرج وبعض الدول النفطية تشرشح الجامعة وتهزئها.

خذل الشعب السوري جيرانه الذين حولوا الحدود إلى ممرات للمسلحين والمتطرفين والمهربين لتزدهر تجارة السلاح بل وتجارة الأعضاء البشرية على الحدود كما تبين الوثائق.

خذلك أيها الشعب السوري الذين اصطفوا طائفيا وقد فتحت لهم بالأمس بيوتك وكرومك ومدارسك وتقاسمت معهم لقمة العيش فإذا بمسلحيهم يعودون ليسجلوا انتصارات عليك. يصفقون لثورات تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين وعندما تعلق الأمر بدكتاتور آخر عادوا ولعقوا كل أدبياتهم وبياناتهم ومواقفهم وغاب عن أدبياتهم مصطلحات الحرية والتعددية والمواطنة المتساوية وحق الشعب في إختيار نظامه وقياداته وكتابة دستوره.

كيف لا يحزن الإبراهيمي وكل من لديه ضمير وهو يشاهد ما جرى لهذا الشعب العروبي المعطاء. إقرأ معي بعض الأرقام: قتل أكثر من 150000، وجرح أكثر من 680000 وفقد أكثر من 18000. هناك أزيد من 9 ملايين بحاجة إلى مساعدات غذائية من بينهم 6.5 مليون مشردين داخليا. كما أدى الصراع إلى لجوء مليونين ونصف المليون إلى دول الجوار. تعطلت الدراسة لملايين الطلاب ودمرت البنى التحتية ولحق بالآثار النادرة خراب لا يصلح. حرقت الصوامع والمساجد والكنائس والقلاع والأعمدة والتماثيل التاريخية التي عبرت كل العصور وقلبت كل الأحقاب وتخطت كل الإمبراطوريات ولم يعتد عليها أحد حتى وصل سوريا القاعديون والداعشيون والنصرويون والفضلويون وغيرهم.

المأساة السورية ومهزلة الانتخابات

يخرج الإبراهيمي من المشهد السوري والمأساة السورية مفتوحة على احتمالات كلها مأساوية. فالحروب الصغيرة والكبيرة ما زالت مشتعلة بين أكثر من طرف. وغاز الكلورين غير المشمول ضمن الأسلحة الكيميائية المحظورة قيد التحقيق بعد أن جمعت عينات تؤكد إستخدامه من قبل قوات النظام أكثر من مرة. المفخخات تنفجر كل يوم وجز الرؤوس والإعدامات الميدانية منتشرة في أكثر من موقع. لقد أضافت مهزلة الانتخابات الرئاسية بعدا كوميديا إلى المأساة. فمن هذا الذي يعتقد أن هناك انتخابات حقيقية في سوريا حتى لو تقدم لمنصب الرئيس سبعون مرشحا. من هم هؤلاء الذين سيذهبون إلى الصناديق صبيحة الثالث من حزيران/يونيو؟ وكم نسبتهم بالنسبة للشعب السوري المشرد المهجرالمجوع المدمر؟ هل هناك واحد في هذا العالم مقتنع أن هذه الانتخابات حرة وشاملة وعادلة ونزيهة وشفافة وتنافسية وسلمية ومراقبة دوليا وستفضي إلى انتخاب رئيس يتمتع بتأييد غالبية الشعب ولو بنسبة واحد وخمسين بالمئة؟ وكي تكتمل الكوميديا فقد تم إستبعاد 18 مرشحا واقتصرت القائمة على ثلاثة : بشار الأسد (دمشق-1965) وماهر الحجار (حلب- 1968) وحسان النوري (دمشق- 1960) وقد اختير المرشحان المنافسان بعناية فائقة كي يعطوا بعدا جديا للانتخابات. فالنوري مثلا هو رئيس المبادرة الوطنية للإدارة والتغيير، والحجار عضو في الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير. وبالتأكيد لن يفوز بشار الأسد هذه المرة بنسبة 99.9′ كالمرات السابقة التي كان يطلق عليها بيعة. ربما ستكون النتيجة بين 85′ و 92′ كي تضفي نوعا من الجدية التي تعني في عرف النظام الشرعية. فثورة الانتخابات على الطريقة العربية بعد الانتفاضات الشعبية حققت الإنجاز الأكبر بالتنازل عن رقم 99 بالمئة. ما شاء الله. وسيحتفل النظام بإطلاق الألعاب النارية أو العيارات النارية لا فرق وباقة من البراميل المتفجرة وضخات من غاز الكلورين. وربما سترد داعش على الانتخابات غير الشرعية بهجوم كاسح على مواقع جبهة النصرة متجاهلين إفتاءات الشيخ الظواهري وربما تصدر فتوى شرعية بقتل كل من لديها من أسرى واحتلال كنيسة أو كنيستين وفرض الجزية على المسيحيين. أين سوريا الحقيقية الأصيلة الحضارية من المشهدين الكوميدي والمأساوي؟

النموذج الجزائري

ما زلت أعتقد أن الحسم العسكري غير وارد وغير مسموح به لأي من الأطراف. حتى لو حقق النظام نجاحا هنا أو نجاحا هناك. أما أطراف المعارضة الدخيلة فستفني بعضها بعضا. بالنسبة للفئات السورية الحقيقية التي تأمل أن تساهم في بناء سوريا المستقبل فلن يسمح لها بالانتصار أو الفناء وستبقى ترواغ بين الكر والفر والتقدم بمبادرات سلمية والنأي بالنفس عن الجماعات المتطرفة والقيام بعمليات عسكرية في خواصر النظام الضعيفة. وهذا المشهد قد يستمر سنوات كما حصل في الجزائر أثناء العشرية السوداء. الفرق أن المطلوب هنا تدمير الدولة أو ما تبقى منها كي لا تقوم لسوريا قائمة وتبقى عالة على المساعدات الخارجية وتنتهي إلى مشهد أقرب إلى المشهد العراقي أو الليبي وربما الصومالي إلا أن إمكانيات التعافي في سوريا أضيق بكثير منها في ليبيا والعراق. وهذا الوضع النموذجي التي تريده إسرائيل صانعة النكبات العربية ومفجرة الصراعات الطائفية ومهندسة الحروب البينية. صحيح أن النكبة الفلسطينية الأولى التي تمر ذكراها السادسة والستون هذه الأيام هي أم النكبات وأم المصائب جميعا لكنها فرخت كل هذه النكبات العظيمة التي لا تقل مأساوية عنها كي تتفتت الأمة إلى دول إقليمية وتتفتت الدولة الإقليمية إلى طوائف وأعراق وفئات متنازعة. لكن الذي يعتقد أن الديكتاتور العربي لم يلعب دورا رئيسا في هذا التفتيت وبالتالي قدم الخدمة للمخطط الصهيوني عن وعي أو غير وعي فهو مخطئ لا محالة ومن لا يريد أن يقر بهذه الحقيقة فلينظر إلى التقدم الذي أحرزته الدول التي تخلصت من حكم الطغيان سواء في أوروبا الشرقية أو أمريكا اللاتينية وحتى أفريقيا. لقد بتنا على قناعة تتأكد مع الأيام أن نهضة هذه الأمة التي تملك كل المقومات الضرورية لها مرتبط بشكل عضوي مع نهاية أنظمة القهر والفساد وتكميم الأفواه وبعثرة الموارد والاعتماد على القبضة الحديدية لتثبيت النظام. إن هذا النوع من الأنظمة التي كادت أو على وشك أن تنتهي من كل أنحاء العالم إلا العالم العربي لا ينتج إلا التخلف والتطرف والإرهاب وهذا بالضبط ما يريده لنا أعداء الأمة التاريخيون.

* أستذ جامعي وكاتب عربي مقيم في نيويورك

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى