صفحات الناس

السويداء: عن حفلة ترشيح لم تتم/ جمال جربوع

وكأن شيئاً لم يحدث، وكأن سيل الدم لم يغمر أرض سوريا، وكأنه يحتفل بإنجاز النصرٍ على المؤامرة الكونية. نعم: من أجل هذا صار يستحق لقب: الأمين…

 تغصّ ساحة المحافظة في مدينة السويداء السورية، بلافتات دعائيّة، تحمل شعارات مثل: “بشار الأمين إرادة الملايين”، و”بشار الأسد صانع مجد وانتصارات الأمة العربية”،  أو حتى “بشار الأمين القائد العظيم”. بل أن لافتةً أمام مديرية التربية تقول: “جماهير المعلمين في محافظة السويداء تطالب الأمين بشار الأسد بالترشح لولاية رئاسيةٍ قادمة”.

 بين السراي الحكومي ومديرية التربية، نُصب سرادق أنيق. أقيم على كامل الطريق بينهما. ذلك الطريق كان يوماً وصلة حيوية تسير عليها السيارات والمشاة. لكنه ومنذ سنتين، أغلق بحواجز إسمنتية، ومنذ آواخر آذار/مارس الفائت، نُصب مكانه سرادق عامر، لم يبخل عليه بأباريق القهوة المرة، والمقاعد، ووسائل الراحة، فأتباع بشار البررة بحاجة للتريض في فترات الاستراحة بين الرقص والدبكة. في منتصف السرادق إكليل وردٍ مبهرج ومكلف، كتب عليه: ألف مبروك لسيادة الأمين ـ إدارة المخابرات الجوية ـ أبو رهف.

 في السرادق أيضاً أجهزة صوت حديثة، ذات إمكانيات عالية، تبدأ الزعيق منذ مطلع الصباح حتى منتصف الليل، شادية بالأغاني الوطنية الحديثة. تلك الأغاني ليست مما تحفظه وتألفه ذاكرة السوريين، مثل: سوريا يا حبيبتي، ويا بلادي يا بلادي خذي شادي بكر اولادي، ويا معاملنا دوري دوري. إنما كلها أغاني حديثة الإنتاج، لا تحوي أي جمالية موسيقية، أو فكرة وطنية، أو أي شيء ما عدا لازمة “كوبليه” وحيدة تتكرر: بشاااار..بشااار…

 أقيمت هذه المنظومة الإحتفالية، قرب نُصبٍ شهير لقائد الثورة السورية الكبرى ضد الإحتلال الفرنسي سلطان باشا الأطرش. لكنه وحده كان غائباً، وكأنه لم يكن. فأبناء النظام الحالي، يتمنون لو كان بإمكانهم إزالة تمثال سلطان من الساحة، كي تتسع لدبكتهم وأفراحهم أكثر. أو ليكسروا أنفه العالي، ويرغموه على مباركة الهتاف والرقص وحلقات الدبكة.

 هدف هذه الفعالية كان الوصول إلى ذروة الإلتحام بين إرادة القيادة وإرادة الشعب، بعد عشرة أيامٍ من اطلاقها. لكن نتائج الإحتفال لم تكن مشجعة إطلاقاً، فالسرادق شبه خالٍ معظم الوقت. أحياناً، يجول فيه الشبيحة من جيش الدفاع الوطني، بلباسهم المموّه وأسلحتهم المتهدلة على أكتافهم، وآذانهم تصغي إلى موسيقى الطرب الرفيع. كما يحدث أن يُجلب إليه طلاب المدرس الذين لم يتجاوزوا الرابعة عشرة، فيرقصون قليلاً، ثم يتواعد الصبيان والبنات، ويروحون إلى لقاءاتٍ متاحة بعيدا عن المكان.

 أما الوفود الحكومية من سائر الدوائر، التي تجرّ من مكاتبها إلى الساحة، فلم يتجاوز تعداد أي منها أصابع اليد الواحدة، تسيّر من أعمالها إلى السرادق، مخفورة بحراسة الشبيحة وهو يغنون. الموظفون، بدورهم يغنون غناءً خافتاً يشي بخجلهم مما هم فيه. كما أجبر الكثيرون منهم على البصم بدمهم، على العرائض التي تطالب الأسد بالترشح من جديد.

  لم تلحظ أية مشاركة شعبية إطلاقاً خارج إطار الشبيحة وطلاب المدارس والموظفين.

 منذ أسابيع حلت ذكرى تأسيس حزب البعث العربي الإشتراكي، وما يطلق عليه في سوريا: ميلاد البعث. حينها أحضر الشبيحة امرأة مختلة عقلياً، تدور وتشحذ في الأسواق منذ سنين. وعدوها بسلة غذائية، وألبسوها كما تلبس المتدينات من الطائفة الدرزية، وحمّلوها صورة للأسد لترفعها وترقص بها في الساحة. المرأة المسكينة كانت مادة إعلامية لشاشات التلفزيون الرسمية. إثر ذلك قَدُمَ بعض المشايخ إلى خيمة التأييد في الساحة، وأنذروا المسؤولين عنها بإزالتها و إيقاف هذه المهزلة الرخيصة.

 وحين لم يحدث ذلك، جرت مناوشة، حطمت فيها أجهزة الصوت الثمينة، وهشمت صور القائد الرمز.

 لكن الأخبار تسربت ليلتها، عن اجتماع للجنة الأمنية وعلى رأسها محافظ السويداء. اللجنة قررت إزالة الخيمة في صباح اليوم التالي. وهو ما حدث بالفعل.

لكن تسريباً آخر، أكد أن المحافظ تلقى اتصالاً من القصر الجمهوري بعد ساعات من إزالة الخيمة وهدّدوه: “صرماية سيادة الرئيس لها فضل على شارب أكبر شيخ بالسويدا. بترجعو الخيمة و اللي مو عاجبو يضرب راسو بالحيط”. أعيد نصب الخيمة مرة أخرى، ورفعت الصور وعادت أغاني التشبيح في ساحة المحافظة.

 الأمن العسكري، بزعامة وفيق ناصر، سرعان ما اعتقل أحد المشاركين من رجال الدين في تقويض السرادق. الأمر بدأ يتصاعد، فلناصر، يد شديدة السواد، في مقتل العشرات من أبناء السويداء تحت التعذيب.

 المعتقل اليوم ليس من المعارضة المدنية المسكينة، التي لا ظهر لها ولا دعم. فرفاقه من رجال الدين، اجتمعوا في بيته، أنشدوا أغاني الثورة السورية الكبرى، ورفعوا أعلامها، وهتفوا لاسقاط النظام. الحماسة اشتدت، اجتماعات مماثلة في قرى مجاورة، أغلقت الطرق.

 الأمن العسكري رضخ بسرعة، وأفرج عن الشيخ المعتقل. لكن الناس في الشارع لم يعد يعنيها ذلك، فهي تريد اليوم إقالة رئيس فرع الأمن العسكري وفيق ناصر ومحاكمته. شيء مثل هذا حدث في درعا قبل ثلاث سنوات.

 الهتافات بدأت تعلو في السويداء، من عمق جديد هذه المرة، لم يعد يقبل “أمانة” نظام الأسد في حماية الأقليات، وإثارة الحروب الأهلية.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى