صفحات المستقبل

حلب على وقع حرب المطارات… وخصومة مع ريفها الثائر

 

حلب – بيسان الشيخ

هنا حلب. أو بالأحرى المناطق المحررة منها حيث سقط النظام ولم تنتصر الثورة بعد. خطوط التماس رسمت بوضوح بين المناطق الخاضعة للجيش النظامي وتلك التي سيطرت عليها كتائب الجيش الحر بعد معارك بدأت منتصف تموز (يوليو) الماضي ولم تنته تماماً. يفصل بين المنطقتين شريط «محايد» يحرسه قناصة من الجانبين، تحذرك منهم أحياناً لوحات زرعت في الطريق تقول «انتبه قناص».

عابرو تلك الأحياء المطلة من جهة على القلعة باتوا يعرفون كيف يطوعون حركتهم فيها. ذاك أن خطوط التماس رسمت أيضاً خريطة المعارك وحددت مواقيتها. فمنذ انسحاب الجيش النظامي من بعض أحياء المدينة وكامل بلدات الريف غابت الاقتحامات أو حرب الشوارع والمواجهات المباشرة، لمصلحة حال مرابطة وحرب مطارات تدور رحاها في مناطق عسكرية خارجية. لكن ذلك لا يعني أن الأمور مستتبة في الأحياء السكنية، بل منذ فترة والقصف بالطائرات يرتبط ارتباطاً مباشراً باندلاع اشتباكات في أحد تلك المطارات لتشتيت الانتباه وكنوع من العقاب الجماعي لحواضن الثورة. وبهذا، قصفت مثلاً بلدة تل رفعت (ريف شمالي) بعد هدوء دام بضعة أيام على اثر اقتحام جرى في مطار منغ المجاور، وأمطرت أحياء من حلب خلال مناورة في مطار النيرب (شرق) الذي إن سقط يقطع الإمداد كلياً عن المدينة. أما قاعدة السفيرة (غرب) التي تطوقها «جبهة النصرة» بشكل أساسي فمعركة باردة نسبياً لأنها تحوي معامل الدفاع وأسلحة كيماوية وينتظر سقوطها بعد سقوط بقية المطارات. وتلك اشتباكات متفرقة ومحدودة نسبياً ما عادت تظهر كخبر أول على القنوات الفضائية، لكنها تسجل بدقة على هواتف فرق «إعلام الثورة» بهدف إرسالها إلى الممولين في دول خليجية و«المذخرين» ممن يشترون السلاح ويوزعونه على الكتائب. فالممولون يجب أن يقتنعوا بأن دعمهم المادي يذهب في العمل العسكري وليس من سبيل لذلك سوى «توثيق» المعارك. ويتم ذلك عبر إدراج «لوغو» الكتيبة المقاتلة على الشريط المصور، وإعلان قائد المجموعة اسمه وعدد رجاله وميدان عمله وانتمائه إلى المجلس العسكري لحلب. ومع تشرذم الكتائب وتوالد بعضها من بعض وتضخم لواء التوحيد الذي بات يضم أكثر من 300 كتيبة، تشكلت «جبهة تحرير سورية الإسلامية» كمرجعية معنوية ومادية لتلك التشكيلات العسكرية. وبينما كانت تجري مفاوضات مع لواء التوحيد لضمه إليها بصفته الأكبر عدداً والأوسع نفوذاً، كان العمل في الغرف الخلفية يجري على قدم وساق لجمع شارات المجموعات المتفرقة ضمن «لوغو» موحد، وإحصاء جداول المقاتلين وتحديث تسجيلات «يوتيوب» لا سيما تلك التي تصور لحظات الانتصار. فتلك وسيلة مثالية لإثبات حجم القوة على الأرض، وتسويق الذات وطرق أبواب التسليح.

في تلك الأثناء، ومع انعدام قدرة الناس العاديين على التكهن بموعد للقصف أو تحديد «منطق» له، يسيّر المدنيون شؤونهم بما يشبه التعود الآلي ويألفون حال الترقب لدرجة الخدر والنسيان. هكذا ترى الأسواق تعج بالباعة الجوالين والمتسوقين في فترات الصباح، و»سوق النسوان» في سد اللوز يعرض ثياباً داخلية وفساتين أعراس ومستحضرات تجميل لتعود الشوارع وتقفر كلياً بعد الظهر وقبل هبوط الظلام.

مكبات النفايات التي تطوق المدينة وتتكدس عند نواصي الشوارع فيها، تنفث أبخرة كريهة وذباباً وأمراضاً تختلط في أنفك بسخام الأبنية المتفحمة ورائحة لحم مشوي متبل بالبهارات الحلبية يباع على العربات النقالة. المشهد في المدينة أكثر تناقضاً وقسوة منه في الريف. ذاك أن القرى التي هجرتها غالبية المدنيين إلى تركيا المجاورة، وبقي فيها المسلحون بشكل أساسي، استعادت شيئاً من وتيرة الحياة الطبيعية والخدمات العامة كما امتص التكافل الاجتماعي القروي بعضاً مما خلفته فوضى المعارك. هذا وعادت بعض البلديات تعمل بموظفيها من أبناء القرية نفسها.

أما المدينة فهجرها الموظفون، ودخلها العسكر وتركت تواجه مصيرها منفردة. المدنيون لم يهجروها بالكامل وهم يعيشون وسط فراغ أمني وخدماتي مطلق، في بلد لم يعرف مصدراً آخر لتلك الأساسيات إلا عبر قطاع عام متجذر. وإذا كان الجيران اللبنانيون وبعدهم العراقيون خبروا الحروب واستعاضوا عن الدولة (حتى في أيام السلم) بجهات بديلة تؤمن لهم الكهرباء والماء والسلع الاستهلاكية وغيرها، فإن السوريين حديثو العهد بتلك الحاجات، وها هم اليوم يحاولون اكتساب مهارات التأقلم، مسلمين بالأمر الواقع. وعليه نشأت سوق سوداء للمحروقات تباع فيها قارورات المازوت والبنزين على الأرصفة، ويتراوح سعر الليتر بين 150 و200 ليرة سورية. ويحاول صغار التجار وغالبيتهم من الأطفال استقطاب المتسوقين بكتابة لافتات تميز بين «مازوت عراقي» وآخر «نظامي» أي سوري، للدلالة إنه «مكفول» ولن يلحق ضرراً بالمدفأة أو المركبة. بمحاذاتهم، يصطف بائعو الحطب ينادون عليه بـ «الكيلو» كأنه خيار أو بصل. ويحصل هؤلاء على بضاعتهم من تجار جملة يحضرون المحروقات كما يقولون من حمص واللاذقية ويبيعونهم الليتر بأقل من 5 أو 10 ليرات من سعر التجزئة. وفي الريف، سعى وجهاء بعض البلدات بالتنسيق مع «الضابطات الشرعية» فيها إلى فرض غرامة مالية وعقوبة تقضي بزرع شجرتين مقابل كل شجرة تقطع للتدفئة، كما حاولت الكتائب المسيطرة على كل قرية توفير قوارير الغاز والمحروقات والخبز للسكان وفق قدرتها هي في الوصول إليها. وإذ باءت تلك المحاولات أو بعضها بالفشل بسبب ندرة الحصص وشيء من الزبائنية في توزيعها، وعدم رغبة أحد في زرع شجرة في هذه الظروف، إلا أن قطع الأشجار انضبط بشكل كبير كما عاد توزيع الخبز وانتظم كيفما اتفق.

أما المدينة فلا تعرف لها وجهاء محليين ولا مخافر ثورية ولا هي تعترف بالقادة العسكريين الوافدين إليها. حتى مقر أكبر الألوية المقاتلة في حلب، أي لواء التوحيد، حيث كان «المعهد الصحي» يبدو كأنه خارج مزاج المكان وأهله. وفي شتاء قارس كهذا، من لم يقطع شجرة، اقتلع شباكاً من منزل مهجور، أو مقعداً من حديقة عامة، أو سقالة من معمل إسمنت. البرد، لا يعترف بملك عام أو خاص.

العتب المتبادل بين الريف والمدينة، والخصومة الضمنية التي يكنها كل طرف للآخر لا يمكن للزائر إلا أن يشعر بوطأتهما. فالقائد العسكري الذي يعبر سريعاً على حواجز القرى ملقياً التحية على فتيانها بعنفوان وثقة بالنفس، يضطر إلى التعريف بنفسه في مراكز المدينة. وهو إذ يقوم بذلك مراراً أمام غرباء (مثلي) يشعر بحرج مضاعف وغربة عن هذا المكان. هكذا مثلاً يسوي «أبو بكري» قائد الفوج الخامس في لواء التحرير هندامه قبل نزوله إلى المدينة. فيبدل الرجل الملقب بـ «الأصلي» لأنه كما يقول عن نفسه «لا يحب الغش ولا البضائع المغشوشة» كنزته الصوفية بقميص ملون، ويسحب من جيب السيارة قارورة عطر يتخضب بها ويتشاركها مع الشباب بشيء من فرح المراهقين. و«الأصلي» الذي لم يتجاوز الثانية والأربعين من عمره يقفز بلحظة بين دوره كمقاتل ومسؤول عسكري ينهر ويأمر ويزمجر وأب جديد لـ «شام» التي تبلغ 6 أشهر ويغمرها عطفاً وحناناً كلما نظر إلى صورتها في هاتفه النقال.

وقد تكون الأغاني التي تصدح في سيارات المقاتلين وتختلط بالأناشيد الدينية أحياناً أحد أوجه تظهير الخصومة مع المدينة، وهي خصومة تتعدى السياسة. فتلك أغنية تنادي «يا حلب ثوري ثوري، هزي القصر الجمهوري» وأخرى تذهب خطوة أبعد في إلقاء اللوم على الحلبيين لتأخرهم في الانضمام إلى الثورة والتخلي عن ناسها في شدتهم. وتقول: «عم نتقتل عم نتدبح حاسس يا حلبي؟ حمصي وشامي وديري وحموي هبوا يا حلبي». وإذ ساهم كبار تجار المدينة وصناعييها في دعم الثورة بالمال والمؤن والمساعدات منذ البداية، إلا أنهم نأوا بأنفسهم وبأحيائهم عن الانخراط المباشر فيها سواء عبر تنظيم التظاهرات والتشجيع عليها أم رفد الجبهة بالرجال. ومن أراد من الشباب الانضمام إلى القتال، توجه إلى القرى حيث انطلقت الثورة قبل عام كامل من المدينة. فهم كأهل المدن عموماً، معارضون في السياسة، متريثون في القتال. لكنهم إلى ذلك دفعوا ثمناً باهظاً في الثمانينات من القرن الماضي حين ارتكب نظام حافظ الأسد مجازر في المدينة لترويع أهلها في سياق حملته الدموية الشرسة على جماعة «الإخوان المسلمين». ولا يزال جيل كامل يذكر كيف تم تجميع الأهالي في بستان القصر والمشيرقة وغيرهما وأطلقت النار عليهم وسحلت جثثهم في الساحات العامة. ذلك جرح لم يندمل بعد في المخيلة الجماعية لأهل حلب، ساهم في تحريكه الخوف من احتمال فشل الجيش الحر في صد الجيش النظامي كلياً وعودة الأخير إلى تنفيذ أعمال انتقامية.

واليوم، بعدما تعسكرت المدينة، واستولى الريفيون على مفاصلها، تيقن الحلبيون أكثر من أي وقت مضى إنهم لطالما أرادوا إسقاط النظام لكنهم في الوقت نفسه لا يأتمنون المسلحين الوافدين على مستقبلهم وأرزاقهم. فعلى رغم محاولات جدية من قبل بعض ألوية الجيش الحر لضبط الأمور تفادياً لخسارة الحاضنة الشعبية للثورة، إلا أن مصادرة الأملاك والشقق والمعامل والسيارات باتت أمراً اعتيادياً، حتى تحولت المدينة الصناعية في حي الشيخ نجار مدينة أشباح بعدما هجرها عمالها وأقفلت مصانعها. هذا وراحت في المقابل أعمال بعض القادة الميدانيين تزدهر في مجالات التجارة والاستيراد والتصدير. فنشأت في البلدات الحدودية سوق للسيارات الأوروبية الحديثة تدخل من بلغاريا عبر تركيا ويجزم أكثر من مصدر إنها مسروقة ومهربة ما يفسر تدني أسعارها. كذلك وضعت اليد على المواسم الزراعية، فبيع موسم القطن مثلاً بأسعار بخسة بحجة شراء السلاح والذخيرة. وانتعشت سوق السلاح العابر للحدود من العراق وليبيا بشكل أساسي، ولكن أيضاً العابر للمحافظات السورية وولاءات كتائب الجيش الحر فيها. هكذا تتقاطع الروايات عن صفقات أبرمت حول معدات عسكرية ثقيلة ومتوسطة، تحوي صواريخ مضادة للطيران «غنمها» الجيش الحر في أتارب، وتم بيعها… للجيش الحر في أدلب!

وإلى ذلك يبرر سكان الريف الحلبي هجومهم على المدينة بأنه كان ضرورة ملحة. فالاقتحامات المتكررة لجيش النظام على القرى والبلدات كانت تتم من قواعد عسكرية ومطارات قريبة، ولم يكن أمامهم لصد الهجوم إلا تقطيع الأوصال واقتحام المدينة بأنفسهم. وتتكرر على مسامعك مقولة «يغضبهم (الحلبيون) الوقوف في صفوف الإغاثة ولم يغضبهم أن نقتل وتنتهك أعراضنا». والواقع أن الثورة بصيغتها هذه، فرضت فرضاً على المدينة ولم يتم ذلك انطلاقاً من أحيائها الداخلية التي كانت شهدت تظاهرات أواسط العام الماضي، وإنما من الضواحي التي يسكنها أصلاً نازحون من الأرياف. ومثل ذلك مساكن هنانو التي تفخر بأنها أولى المناطق المحررة في حلب، تلتها أحياء الإنذارات وسوق هلو وطريق الباب والحيدرية وغيرها.

هكذا تكسب «جبهة النصرة» القلوب وأبناء قادة الجيش الحرّ ينضمّون إليها

وسط حالة التشرذم العسكري والفوضى المدنية التي يحاول لواء التوحيد استدراكها وإن متأخراً، تبدو «جبهة النصرة» منقذاً محترفاً يعمل بهدوء وإتقان. فبعكس مقاتلي الجيش الحر المسيطرين على المشهد العام بسلاحهم و«قبضاتهم» (هواتف اللاسلكي) والسلوكيات المرافقة لها، ينكب عناصر جبهة النصرة على مهماتهم بصمت وسرية مستفيدين من خبراتهم في العراق واليمن. ولا تقتصر تلك الخبرات على المعارف القتالية فحسب، وإنما تتعداها إلى العمل الخدماتي الذي يجعلهم يكسبون العقول والقلوب وينسجون علاقات وطيدة مع المجتمع المحلي. ففي حين يشتكي القائد العسكري للواء التوحيد «أبو توفيق» من قلة السلاح والمال، ويتذمر العقيد الركن «أبو بلال» من غياب انضباط المدنيين من الشباب وعدم التزامهم بالأوامر العسكرية خصوصاً إن أطول فترة تدريب لا تتجاوز 20 يوماً، يخضع عناصر النصرة لاختبارات كثيرة قبل قبولهم في صفوفها. ويتدرجون فيها ضمن هيكلية واضحة تقوم على «أمير» لكل منطقة يكون مسؤولاً عنها ويعمل بالتنسيق مع أمراء المناطق الأخرى ومقاتلين وعاملين مدنيين. الهيكلية الداخلية واضحة ومحكمة وليس من مكان فيها للارتجال أو التعسف. فالقرار موحد ومهمة تنفيذه توكل إلى مجموعات يحاسب قادتها على أدائها. هذا ويعيش المقاتلون في معسكرات خاصة خارج القرى، ويعملون في مراكز توزيع إغاثة تنتشر بين الأحياء السكنية لكنها تتفادى الاندماج الكلي فيها. فهذه مهمة جهادية متكاملة تبدأ بتوزيع رغيف خبز وتنتهي بالشهادة. هكذا سيطرت النصرة على مرافق حيوية مثل الأفران ومصفاة نفط ومعبر مع الحدود التركية وتعمل عبر شبكة أمان اجتماعي. ففي خراج إحدى بلدات الريف، وسط السهل، أقام عناصر النصرة مصفاة صغيرة يستخرجون منها المازوت. صحيح إنه غير نقي بما يكفي لتشغيل محرك السيارة لكنه على الأقل قادر على تشغيل المدافئ في البيوت، في غياب تام للكهرباء. وإلى ذلك راحوا يؤمنون قوارير الغاز بنصف سعرها ومؤناً ومواد استهلاكية تحمل كلها «لوغو» «جبهة النصرة». وإذ وضعت النصرة يدها على غالبية الأفران في المدينة، منعت اصطفاف المواطنين أمامها بما يعيق العمل وجعل المكان هدفاً سهلاً لقصف الطائرات. تحولت الأفران إلى العمل السري كمنشآت تحظى بحماية خاصة. وعلى مدخل أحد الأفران في حي طريق الباب في حلب، وقف «قبضاي» يمنع المتطفلين. ذاك إنه تم تعيين مسؤول عن كل فرن يراقب العمل ويشرف على تسلم الطحين وتسليم الكميات اللازمة لمندوبين في الأحياء. وهؤلاء المندوبون هم من أبناء الحي تعينهم الجبهة ويملكون جداول بأسماء العائلات وعدد أفرادها في القطاع الخاضع لهم. ولا يحق للشخص الواحد بأكثر من 3 أرغفة توزع بشكل دوري وفق توافر المواد. ويباع كيلو الخبز بـ 24 ليرة بينما كان بلغ خلال الأزمة 250 ليرة ولا يزال يباع في المناطق الخاضعة للنظام بـ 150 ليرة سورية. وصحيح أن أصحاب الأفران فقدوا سيطرتهم على مهن توارثوها أباً عن جد، لكنهم في المقابل ضمنوا تشغيل مصالحهم بعدما كانوا مضطرين لشراء المحروقات والطحين بأنفسهم، وبيع الخبز وسط المخاطر.

ومن الدروس المستقاة من العراق، تلك التي تجعل النصرة في بلاد الشام تتفادى التكفير العلني، وتتحاشى تنصيب أمراء أو قادة ميدانيين من المقاتلين الأجانب، ولا تلجأ إلى العمليات الانتحارية إلا في حال الضرورة القصوى. فهي ووفق مصادر محلية، لا تعد أكثر من 3 آلاف مقاتل في كامل سورية يشكل الأجانب بينهم أقل من 10 في المئة وتتلقى التمويل والسلاح بشكل مباشر ومن دون مشاركة مع أحد. واكتسبت الجبهة «سمعة طيبة» في المعارك لأن شبانها يقاتلون حتى الرمق الأخير وإن ضحوا بأنفسهم، فهم لا يهابون الموت لأنه طريق أقرب إلى الشهادة. وتعتمد الجبهة على الالتزام المطلق من عناصرها الذين تختارهم بعناية وتدربهم تدريباً صارماً وتعمل منفردة وإن بتقارب «فكري» مع بعض الكتائب مثل أحرار الشام، و«تنسيق» عملي في الخطوط العامة مع لواء التوحيد. تنسيق يبقى أقرب إلى التبليغ منه إلى الاستشارة الفعلية. لكن قادة التوحيد لا يبدو عليهم الامتعاض أو التنافس العسكري مع النصرة بل يرددون إن إنجازاتها تصب في مصلحتهم وتقربهم من تحقيق هدفهم، أي إسقاط النظام، مؤجلين خلافهم العقائدي معها إلى حين. وإذ يؤكد «أبو رامي»، قائد لواء النصر المحسوب على «العلمانيين» إن وجهة المقاتلين غالباً هي وسطية ومعتدلة، لا يجد ضيراً في انضمام لوائه إلى «جبهة تحرير سورية الإسلامية»، معتبراً إن الكلام في السياسة يأتي لاحقاً. أما «أبو توفيق» الذي حارب الأميركيين في العراق ضمن الأفواج الأولى التي خرجت للقتال، فيغازل «النصرة» حيناً ويجافيها حيناً آخر.

وما لم ينتبه إليه هؤلاء القادة إن جبهة النصرة وضعتهم بطريقة غير مباشرة في سباق معها على التدين وسبل تظهيره. فبالإضافة إلى كون ذلك باباً أساسياً لمصادر التمويل، فهو أيضاً تأشيرة سريعة إلى البيئات الحاضنة للثورة. هكذا، انطبعت الكتائب تدريجياً بطابع ديني، وأضفت على عملها مظهراً شرعياً عبر مشايخ تبنوها ومنحوها مباركتهم. فكثف لواء التوحيد عمله الإغاثي وإن بإمكانات محدودة، واعتمد «قائداً ميدانياً» هو رئيس «هيئة الأمر بالمعروف ونصرة المظلوم» الحاج أبو سليمان. ومن مهمات الحاج الذي يلف رأسه بعمامة سوداء ويحمل ماجستير إدارة أعمال من جامعة في ولاية تكساس الأميركية، توجيه المقاتلين دينياً في المعركة، وتعليمهم كيفية التعامل مع المناطق التي يستولون عليها لجهة حفظ أمن المدنيين والحفاظ على أملاكهم وفق الأصول الشرعية. وذلك عبر جلسات تلقينية وكتيبات توزع على المقاتلين تدعو إلى الجهاد وتعدد فوائده. كما ويشرف «الحاجي أبو سليمان» على توزيع المنازل المصادرة على «الأسر المنكوبة»، وتلك بلغت 860 شقة موزعة بين أحياء هنانو والحيدرية والباب!

وفيا تبدو «جبهة النصرة» كإحدى مدارس النخبة التي تفخر الأسر بانتماء أبنائها إليها، لا يجد قادة لواء التوحيد حرجاً في أن يقودوا كتائب بكاملها، فيما أبناؤهم الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و19 عاماً ينتسبون إلى النصرة. هكذا يفتخر «أبو بكري» الذي يلتهم السجائر أكثر من تدخينها، بأن ابنه بكري «يتعلم هناك القتال الحقيقي، والأخلاق الحميدة كما أقلع كلياً عن التدخين… وهذه مهمة نعجز عنها كآباء وقادة عسكريين». أما عن احتمال أن ينقلب الأمر عليهم ويعود أبناؤهم لتكفيرهم لاحقاً فليس وارداً عندهم. «نحن مسلمون أيضاً ومن يكفرني أخلع رقبته ولو كان ابني» يقول «الأصلي» ضاحكاً.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى