راتب شعبوصفحات سورية

في ظلّ الدولة/ راتب شعبو

في سلوك الفئات السورية الموالية التي تقطن المناطق “غير المحررة” توجد مفارقة صريحة. فمن جهة يسكت هذا القطاع من المجتمع عن القصف اللاتمييزي على مناطق تشهد مواجهات، وعن مجازر طائفية رهيبة ذات غرض ردعي، تقوم بها تشكيلات تابعة بشكل رسمي أو بشكل غير رسمي للنظام، ومن جهة ثانية يقبل هؤلاء الناس أعداداً كبيرة من النازحين السنّة من المناطق الساخنة والمدمرة، وعدم التعرض لهم بالأذى، لا بل والتعامل معهم، في حالات غير قليلة، بمستوى عال من الإنسانية.

في هذه المناطق لا تزال الدولة تتوسط بين الناس وبين الشأن العام، أي لا يزال الموالون يتخلّون للدولة عن الحق العام ويقبلون سلطتها. ولا تزال الدولة، بثقلها التاريخي الراسخ في الثقافة الشرقية كمؤسسة عليا تتمتع بقيمة أبوية و”ما ورائية”، تسيطر على العلاقة بين الناس وشؤونهم العامة. الأهم أن الجمهور العام لا يحتفظ في وعيه بتمييز واضح بين الدولة والسلطة. وليس مرد ذلك إلى علة في وعي العامة بل إلى ما تكرس من علاقة بين السلطة والدولة في هذه المنطقة من العالم. الحقيقة أن غياب هذا التمييز ترك آثاره على المعسكر المعارض للنظام أيضاً في ظهور اعتداءات على مؤسسات دولتية غير قتالية، في دلالة مؤداها إن إضعاف الدولة طريق إلى إضعاف السلطة.

في المخيلة العامة هناك ما يبرر للدولة كل ما تقدم عليه. فالدولة في الوعي العام عندنا لا تحتكر الحق في استخدام القوة فقط، بل تحتكر المعرفة، تالياً تحتكر الحق في التصرف. تجد في الثقافة الشعبية المكرسة منذ قرون، قيمة عالية “لابن الحكومة”، وتجد فيها أيضاً حكما شعبية متداولة تنصح بعدم التصادم مع الدولة فلا أحد قادر على الدولة ولا الدولة تسكت عن حق لها مهما طال الزمن. مثلاً، حين تعتقل الدولة شخصاً وتحتفظ به، يصعب أن يقتنع أحد بأن هذا الشخص بريء، فللدولة دائماً حكمة في ما تفعل. لماذا لم تعتقل شخصاً آخر؟ هكذا تصبح الحال حين يتخلى الناس لقرون طويلة عن حقهم في المعرفة، تالياً يتحولون إلى كتلة بشرية تشتغل فيها آلة “حكيمة” اسمها دولة، هي في وعيهم أشبه ما تكون بإله دنيوي موقت. هذا ما يفسر جزئياً تفكك الدولة السوفياتية حين تحولت من دولة “ما ورائية” إلى دولة أكثر دنيوية وأقل معصومية، بفعل بيريسترويكا غورباتشيوف التي فكت احتكار المعرفة وتبنت سياسة الشفافية (الغلاسنوست).

كان الطريق الذي انتهجته الثورة السورية بقلب النظام (المتماهي بالدولة) عسكرياً من الداخل، طريقاً شاقاً لأنه مضاد للثقافة الشعبية المترسخة حيال الدولة. ولأنه يتطلب مواجهة أجهزة الدولة “المقدسة” ولا سيما منها الجيش. لكن الجمهور الذي لم يقطع مع النظام، والذي شعر بغربة عن الحراك أو بعداء له، لم ينفك عن نظرته المستلبة للدولة. في هذا تفسير للمفارقة المذكورة أعلاه.

الإيمان بالدولة وإيكال الأمر لها، كما اعتاد الناس دائماً، هو ما يفسر لنا مثلاً ما شهدناه أخيراً من استسلام قرويي ريف شمال اللاذقية للهرب حين هوجمت قراهم من جانب مسلحين معارضين. فعلى سبيل المثال، في المناطق الكردية حيث انسحبت الدولة وتركت الناس هناك لشؤونهم، واجه الأكراد هجوم “جبهة النصرة” والكتائب الإسلامية الأخرى وردّوها عن مناطقهم، لأنهم تولّوا أمرهم بيدهم ولم يكن ثمة دولة يتركون على عاتقها أمر حمايتهم، كما حدث مع قرى ريف اللاذقية الشمالي حيث الأهالي على اقتناع بأن “دولتهم” موجودة وهي تعرف وتتصرف، ويفترضون أنها تقوم بواجبها تجاههم. الواقع أن ما حدث في ريف اللاذقية الشمالي هو تكرار لما حدث قبل نحو السنة في منطقة الحفة أيضاً. فالأهالي الذين أوكلوا أمرهم إلى الدولة ظلّوا ينظرون إلى أنفسهم كقاصرين ترعاهم الدولة وتوجههم، وظلت الدولة وسيطاً بين هؤلاء وبين ما يجري من أحداث عامة.

حين تضرب الدولة مناطق سكنية بالصواريخ البالستية فإن ثمة خانة جاهزة وسهلة في مخيلتهم تستوعب هذا الأمر على أن الدولة تمارس حقها في مواجهة عنف يستهدف مؤسساتها أو يستهدف مواطنيها. هذه الخانة تستدعي تلقائياً وجود خانة مجاورة تستوعب من يستهدف مؤسسات الدولة ومواطنيها على أنهم “مخرّبون” أو “إرهابيون”. وفق هذا الوعي الذي لم تمسه فكرة الثورة، يصبح قتل المدنيين مجرد آثار جانبية “لا بد منها” لمعالجة التخريب والإرهاب. ووفق هذا الوعي يصبح احتضان النازحين من هول المواجهات تأكيداً لـ”إنسانية” حامليه وشهادة على “وطنيتهم”، واصطفافاً إلى جانب الدولة في ممارستها وظيفتها “الطبيعية”. على هذا الضوء تنفكّ عقدة المفارقة التي ذكرناها لتغدو انسجاماً وتكاملاً.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى