صفحات سوريةناصر الرباط

العرب وإيران: الطرفان يغالطان في استخدام التاريخ/ ناصر الرباط

 

 

العلاقات العربية-الفارسية اليوم في واحد من أسوأ أطوارها. فإيران متورطة في صراعات أهلية في أكثر من بلد عربي إما مباشرة أو من طريق أحزابٍ طائفيةٍ جندتها ومولتها في سبيل تحقيق ما رشح أنه سياسة طويلة الأمد للجمهورية الإسلامية، أي إقامة هلال شيعي من العراق إلى “حزباللهستان” وربما إلى اليمن جنوباً.

هي تلقى تأييد غالبية مواطنيها الذين يريدون دولة ذات نفوذ، خاصةً في جوارها العربي “المتخلف” و”الهمجي”، وهي مصطلحات ظهرت في بعض استقصاءات الرأي وفي الأدب الشعبي. أما العرب، وبشكل خاص السنة منهم، المتقاعسون عن العمل الاستراتيجي، فهم يخوضون حرباً كلامية تعتمد إما على تحبيذ مايفعله الجهاديون السلفيون من قتل للشيعة (مع أن السنة هم الضحايا الأكثر عدداً لهؤلاء الإرهابيين) اوعلى نعت الفرس بـ “المجوس” او”الصفويين” او”الروافض”.

الطرفان يغالطان في استخدام التاريخ إما جهلاً أو مكابرة، وهما ينزلقان في اتجاه عداوة قد تسمم المنطقة لأجيال مقبلة. فالعلاقات العربية-الفارسية قديمة ومعقدة. وهي تعود إلى القرن السادس الميلادي عندما تبلورت هوية عربية في جزيرة العرب، انبثقت عنها مملكتان عربيتان، الغساسنة والمناذرة، قامتا بحماية حدود الامبراطوريتين العظميين في العالم آنذاك، بيزنطة وفارس الساسانية، من بعضهما البعض ومن غزوات القبائل العربية. علاقة الامبراطوريتين بالمملكتين العربيتين المسيحيتين كانت علاقة تابع ومتبوع بطبيعة الحال، وكان فيها الكثير من المماحكة. وبما أن العرب لم يكتبوا تاريخهم فقد حفظوا معظمه من خلال شعر وأخبار الملاحم. من هنا جاءتنا ذكرى أول صراع عربي فارسي، موقعة ذي قار، التي هزم فيها تحالف قبلي عربي جيش كسرى أبرويز.

لم تكن الفتوحات العربية الإسلامية في القرن السابع رحيمة بالفرس، جيشاً وامبراطورية وديانة وقومية. فالمعارك التي دارت في بلاد الرافدين – ذات السلاسل، نهر الدم، نهاوند، القادسية – كانت معارك شرسة ودموية. والجيوش العربية الإسلامية لم تهدأ حتى قضت تماماً على الامبراطورية الساسانية وقتلت آخر شاهنشاهاتها.

طبعاً خلّفت هذه الهزائم المتكررة وانحسار الامبراطورية الفارسية على يد العرب الفاتحين طعماً مراً لدى الفرس لم يمحه تماماً اعتناقهم للإسلام خلال قرون قليلة إثر الفتح، بحيث لم يبق من الديانات الفارسية القديمة إلا جيوب صغيرة في شرق البلاد وشمالها الغربي. بل إن فارس، بشقيها العراقي والإيرانى وامتدادتها في وسط آسيا، كانت أسرع إسلاماً من بلاد الشام ومصر التي لم تصبح في غالبيتها مسلمة إلا مع نهاية القرن الثاني عشر، وتحت ضغط الحروب الصليبية.

لم يمح إسلام الفرس إحساسهم بهويتهم القومية وفخرهم بمنجزاتها وحنقهم لانكسارها ونقمتهم على مسببي ذلك الانكسار. فقد نشأت حركة أدبية وثقافية، وطبعاً سياسية ولو أنها كانت متسترة وحذرة في تعبيرها عن نفسها، عرفت في المصادر العربية بالشعوبية، رامت التمسك بالأصول الثقافية الفارسية، وهو ما نجحت فيه بصعود سلالات حاكمة فارسية ابتداء من القرن العاشر في فارس وما وراء النهر وحتى في بغداد عقر الخلافة العباسية، وبإعادة اللغة البهلوية القديمة مكتوبة بحروف عربية إلى الصدارة في بلاد فارس وشرقها في نهاية القرن الحادي عشر.

ولكنه لايصح القول أن الفرس لم يكونوا مسلمين حقيقيين. فهم، مع شعوبيتهم واحتقارهم للعرب، الذي تحول إلى مكون فولكلوري في الثقافة الإيرانية ذي أبعاد كريهة حقاً، كانوا كقومية وكأفراد مسلمين فاعلين أساسيين في الحضارة الإسلامية منذ بداية إسلامهم. بل إننا لا يمكننا حقاً الكلام عن المنجزات الحضارية الإسلامية في العلم والفقه والتصوف والسياسة والعمارة والفن وحتى الأدب والشعر العربي من دون الإقرار بالمساهمات الرئيسة لعدد هائل من العلماء والأدباء والشعراء ذوي الأصول الفارسية بل والانتماء الفارسي الواضح، كسيبويه وابن سينا والرازي والفارابي والطبري والبيروني والبزجاني والجرجاني وابن الرومي ونظام الملك وحتى الإمام الغزالي، عمود المذهب السني في القرون الوسطى، وغيرهم الكثير الكثير. بل ولا يمكننا القول إن فارس لم تندمج فعلاً في الدولة الإسلامية وتصبح عوناً كبيراً لها، وإلا لما أمكننا فهم أسلمة آسيا الوسطى والأناضول والهند وبعض الصين التي تمت كلها من خلال الثقافة الفارسية الإسلامية. بل لا يمكننا جحد فارس دورها المهم في أسلمة الغزاة المغول الذين اجتاحوها في القرن الثالث عشر والذين كانوا ينوون اجتياح العالم العربي لولا المقاومة المملوكية ثم إسلامهم وجنوحهم للسلم.

تحوّل الاختلاف القومي اختلافاً مذهبياً أيضاً مع إجبار الصفويين فارس كلها على اعتناق المذهب الشيعي الاثنى عشري في بداية القرن السادس عشر. ولكن الصفويين بقرارهم ذاك كانوا يقوون سياج دولتهم ضد العثمانيين السنة لا العرب الذين خضعوا في الوقت ذاته للاحتلال العثماني التركي الذي، وبغض النظر عن محاسنه وتوافق تدينه مع تديّن الغالبية العربية، امتص خيرات العرب وطاقاتهم لأربعة قرون متواصلة. ومع بزوغ العصر الحديث، كانت هناك محاولات للتقارب السني – الشيعي بين الدول الوطنية، كما حصل بين مصر وإيران في أربعينات القرن العشرين مما لم يعكره سوى صبيانية الشاه محمد رضا بهلوي وطلاقه من الأميرة فوزية. وحتى في بداية الثورة الخمينية، كانت ردود فعل الشارع العربي إيجابية بالمطلق. فإيران الإسلامية ابتدأت بتبني القضايا العربية المصيرية، وفلسطين على رأسها، قبل أن تنكمش على نفسها في الحرب العراقية-الإيرانية وتبحث عن حلفاء مذهبيين يعضدونها في العالم العربي.

أنا لاأدّعي أن العلاقات العربية-الفارسية كانت علاقات جيدة دوماً. على العكس، فمرّها كان أكثر من حلوها. ولكنها متشابكة وتأويلها حمّال أوجه. وعليه، من الأفضل لنا أن نتفهمها بشكل أدق وأكثر تعمقاً لكي تكون ردود فعلنا، دولاً وشعوباً، أكثر وعياً وحنكةً.

وربما، لو ساد العقلاء من الطرفين يوماً ما، امكننا استثمار الحلقات المضيئة في علاقاتنا مع شعب تربطه وإيانا عرى دين وتاريخ مشتركين من أجل بناء ثقة جديدة تسمح للمنطقة كلها بالتصدي لأعدائها الأكثر خطرا.

استاذ الآغا خان للعمارة الاسلامية M.I.T. معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى