صفحات الرأي

عن الإرهاب والهوية/ عصام سعد

 

 

لا شك في أن الهوية المتأصلة في التاريخ والمنغرزة في بنيات الاجتماع البشري، موصولة بحلقات – أرومات دخلت وجدان التنويعات الإنسانية، بالمعنى المادي والرمزي، وهي تمثل عنواناً مؤطراً للكثير من الصدامات، إما في الدفاع عنها، أو الهجوم لتوسيعها على قاعدة المصالح – الأطماع.

الهوية معطى تاريخي، تتكون مع سعي الجماعات الى التعبير عن ذاتها، وتتشكل في سياق «التطور» المؤدي الى تأليفها وبلورتها في حمولة لا تلغي الصفات الأولى البدائية، وفي نطاق الدفاع عن بيئة الفئة التي تمثلها، وضد الهجمات المعترضة، ومن أجل مد نفوذها الى أوسع بقعة باستعمال القوة لتأكيد ثباتها وهيبتها(السلطة الأمنية لها مظاهر شكلية قانوناً، لكنها باطنية في العداء والاجتثاث محولة الشعب الى رعايا وعبيد).

والعصبية النواة، عائلة أو قبيلة ركيزة لنظام الاستبداد، إذ تمثل الدافع – المحرض للهيمنة على العصبيات الأخرى من دون أي وازع. على هذا المنوال، تكونت السلطات على أنواعها وتطوراتها. وبقيت «الهوية» العربية مثار نزاع نابع من التباس في التكوين. ولم تستطع في سياق تبلورها أن تبني دولة مؤسسات دستورية، لأنها لم توحد الأمة بسبب غياب قوى اجتماعية متشكلة كطبقات، والعجز عن تحقيق الدولة – الأمة المتأتية من إنجاز الاقتصاد المنتج – الصناعي وتوحيد السوق والمجتمع (المواطنة)، تبعاً لسيطرة المقدس وصراعاته، وعدم مجاراة الخارج إيجاباً. وبعد استقرار العرب في أنظمة استبدادية دمرت مكونات القوة في مجتمعاتها، سقطت المنطقة في وهدة الهزائم وتبارت في الالتحاق بالخارج، الأمر الذي قد يعرضها للاندثار.

والتشدد، الذي يقرب العنف وينتجه، ويوازي التعصب والشوفينية، ويزرع ثقافة الخوف النابع من بنية مقفلة في دوائر حلقية صغيرة أو متوسطة وحتى كبيرة، أضحى منطلقاً للتواترات والتهويمات التي تلغي الواقع وتتجنب الوقائع. وسيبقى الانتماء ما دون العولمي، اذا ما تم الدفاع عنه والتحجر عنده «كهوية خاصة» جوهرانية ثابتة وماهوية تبدأ مع التاريخ وتنتهي معه وتجب الهويات الأخرى وتلغيها، سبباً للمشاكل المفضية الى مزيد من النزاعات والاقتتال، ما يفتح الطريق بالضرورة أمام تبني الهوية العالمية، كونه الحل الأمثل لإنهاء العنف، على رغم ما تقدمه «الحرب على الإرهاب» (لقد تبنت إيران وملحقاتها، الحرب على الإرهاب والتكفيريين، وحصرها في جماعات سنية، ما يضع العرب وجوارهم في حروب طائفية وأطماع إقليمية)، من منطلقات تخدم الوجهة ذاتها إذا لم تقتصر على الحلول العسكرية وحدها، الأمر الذي يقتضي معالجة جذور الإرهاب وأسبابه، وصولاً الى تقديم الحلول الناجعة بالاعتماد على السياسة والاقتصاد والديبلوماسية، وتحريك النخب لتقدّم جهودها في إبراء أمراض المجتمع.

لا يمكن استئصال العنف من المجتمعات العربية، في ظل بقاء أنظمتها الاستبدادية، ووحدتها غير المنجزة، إلا إذا اتجهت نحو بناء مؤسسات مجتمع مدني ومنظمات غير حكومية، وبلورت نقابات مهنية واتحادات وظيفية على قاعدة النظام الديموقراطي والدولة الدستورية والمساواة وتعميم الحياة السياسية وحيادية السلطة وحفظ حقوق المعارضة، فضلاً عن الاندماج في المجتمع الدولي والانخراط في السوق العالمية بعد توفير شروط التنمية البشرية، كمقدمة للازدهار الاقتصادي لتوسيع فرص العمل عبر سوق عربية مشتركة مفتوحة على النظام الرأسمالي العالمي والسوق الدولية.

الهويات الخاصة في دوائر مقفلة، على رغم تمنطقها الهش بعقيدة مرنة تتسع للتعدد المتضارب أو المتستر، ما يجعلها مطواعة في مجالها الضيق المعبر عن ذاتية لا ترى إلا نفسها فتتحول الى هويات قاتلة. هكذا، يضمر التراث الى مجموعة من الأوامر والنواهي، والى وحدات مغلقة، ويختصر المجتمع في أدوات للاستعمال الحصري، موتاً أو استعباداً او استلحاقاً من دون أي اعتبار للإنسان.

ومن الأمثلة الدامغة على المناخ التراثي المظلل لبنى متخلفة، «الإخوان المسلمون»، (وإسلامهم السياسي ابن المجتمعات الماقبلية الممتد الى بعض النامية والمخترق للحداثية مولداً التطرف والعنف)، واعتبار البعض في الأردن مقتل الزرقاوي في العراق «شهادة جهاد» وهو مسربل بدماء العراقيين والأردنيين، ما يكشف ويميط اللثام عن أن البيئة الاجتماعية الدينية لا تزال تعتمد الموروث المحمول من الماضي والرابض على الحاضر، وتوزعه على جماعات متباينة ومتنابذة ومتقاتلة.

هذه الإضاءة تعكس أهمية معالجة الظروف – الأسباب الشائكة وغير المتبلورة، المعبرة عن الاجتماع العربي وأنظمته المسربلة بالاستبداد، المتشكلة عبر تاريخ مزروع بالحروب، حيث يتفوق الاقتتال الداخلي على الغزو الخارجي من حيث الدماء والضحايا وخلق الصعوبات أمام خروج الشعوب من بوتقة القمع والاضطهاد والفقر.

والتراث، كما كل تراث، إذا لم يذب في بحر الحضارة المتطورة، يمثل عقبة كأداء حين يستعمل للقتل في شكل سافر (لقد قتلنا من بعضنا أضعاف ما قتل منا الخارج منذ الدعوة الإسلامية وحتى اليوم)، وإذا لم نحوله الى مسائل سائلة في نطاق التطور الحضاري.

* كاتب لبناني مقيم في باريس

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى