صفحات مميزةعمر قدور

سوريا فوق القصف!


عمر قدور

ليس تصعيداً عابراً من قبل قوات النظام أن تعتمد، بشكل مكثف، أسلوب قصف المناطق الثائرة بالمروحيات أو براجمات الصواريخ، فما يمكن ملاحظته في الأسبوعين الأخيرين، هو تعميم القصف ليصبح نهجاً دائماً لا يخضع حتى لاعتبارات الضرورة العسكرية القصوى، هذا إن أقررنا أصلاً بوجود قواعد اشتباك بين القوات العسكرية والمدنيين العزّل. على مدار الساعة تقريباً، تواصل المروحيات والمدرعات وراجمات الصواريخ قصفها وقليلة جداً هي الأماكن التي لا تُسمع فيها أصوات الانفجارات أو أصوات المروحيات في ذهابها وإيابها، قليلة جداً بالقياس إلى المدن والمناطق المنكوبة، والتي لا تجد في أحسن الأحوال من يعلنها مناطق منكوبة، ويقر بحقوقها بوصفها هكذا.

بالتعبير العسكري، من الواضح أن قوات النظام غيّرت قواعد اشتباكها مع السكان المدنيين، لا لتغير طرأ على تحرك هؤلاء، ولكن لأن أسلوب القصف يخفف من أعباء العسكر، ويسد العوز المتواصل في إمكاناتهم البشرية. وإذا كانت هذه القواعد بين العسكر والمدنيين غير موجودة في القانون الدولي، لأنها حالة شاذة أن تشن سلطةٌ حربَ دمار شامل على مَن انه يُفترض إنه شعبها، فإن قوات النظام بعد تجاوزها لكافة مواثيق حقوق الإنسان تثبت “شجاعتها” في خرق كافة المواثيق الدولية، التي تُعنى بحماية المدنيين في أثناء الحروب، بخاصة بعد إعلان النظام نفسه عن أنه في حالة حرب، طبعاً من دون أن يفصح عن أنه في حالة حرب ضد السوريين.

لا يعلن النظام، الذي لا يكشف مطلقاً عن حجم خسائره الحقيقي، عن أعداد المنشقين عن قواته، ولا عن أعداد المتسربين منها لأنهم لا يريدون المشاركة في الحرب، لكن من المعلوم أن هذه الأعداد تكاثرت بحيث استنزفت جزءاً كبيراً من قواته على الصعيدين المعنوي والقتالي. في المقابل اتسعت رقعة المناطق الثائرة إلى حد تصعب معها السيطرة الميدانية المستديمة، وقد بات جلياً أن السيطرة المستمرة تقتضي وجوداً عسكرياً مكثفاً وفي كافة الأماكن دفعة واحدة. وهذا ما لا يستطيعه النظام فيستعيض عنه بالقصف المكثف دفعة واحدة. وعلى ما استطاع من أماكن. فضلاً عن ذلك، يبدو القصف أقرب إلى ما يبتغيه النظام أصلاً، فالطاقة التدميرية الضخمة، والعشوائية أيضاً، تتلاءم مع عقلية الانتقام الذي بات هدفاً محورياً، بعد عجزه عن قمع الثورة، وإفلاس تدابيره بملاحقة أبنائها بمختلف أنواع التشبيح والتنكيل الأمني المعتاد.

في الواقع يصعب تصور أن النظام يسعى إلى كسب معركته باللجوء إلى قصف المدن السورية، والأقرب إلى المنطق أنه يسعى إلى إبادة خصومه متيقناً من عدم قدرته على الانتصار. لقد افتقر وزير الخارجية يوماً إلى اللياقة الدبلوماسية عندما قال إن أوروبا لم يعد لها وجود على الخارطة بالنسبة إلى النظام. ومن المرجح أن العقلية ذاتها لم تعد ترغب في وجود مدن سورية على الخارطة فاستدعى ذلك بدء تسويتها بالأرض، وإرغام الناجين من سكانها على البحث عن ملاذ في الداخل أو الخارج. لقد أُعجب النظام بنجاحه “الساحق فعلاً” في حيي بابا عمرو والإنشاءات في حمص، فقرر تعميم التجربة على المناطق التي لم تستوعب الدرس، ولا بأس بشيء من القصف الاستباقي لمناطق يُشكّ في أنها لن تستوعب الدرس.

ثمة طرفة يتداولها السوريون مفادها أن النظام لن يدع سوريا إلا بعد أن يعيد عدد سكانها إلى ما كان عليه يومَ استولى على الحكم، وإذا كانت هذه الطرفة صعبة التحقق واقعياً، فقد لا تكون بعيدة عن تصميم النظام إن رأى ذلك يمنحه بصيصاً من الأمل بالبقاء. يدرك النظام أن وجوده ووجود البلد معاً بات من الماضي، لذا يسعى حثيثاً إلى التضحية بالبلد؛ كنا لنقول إن في هذا نوعاً من العدمية السياسية، لولا علوّ هذا التوصيف الثقافي على العقل المنحط الذي يدير عمليات الإبادة الجماعية. إن تدمير سوريا، على النحو الذي يحدث الآن، وإن ارتقى إلى مستوى الفعل الممنهج إلا أنه لا يرقى أبداً إلى السياسة بأيّ من معانيها بما في ذلك أشد تجلياتها سوءاً، لعل الحقد المطلق يقدّم لنا تفسيراً غير شافٍ بدوره ما لم يقترن بالانفصال التام عن كل ما هو إنساني.

“هذا النظام لا يتورع عن ارتكاب الفظاعات”؛ لطالما كانت هذه الفكرة راسخة في عقول السوريين، والحقّ أن مخيلاتهم كانت قاصرة عن توقع الفظاعات التي ارتكبها منذ بدء الثورة حتى الآن. لا يزال السوريون بغالبيتهم يعربون عن الصدمة والاستغراب إزاء الجرائم والمجازر التي تُرتكب بحقهم، لا يزال قسم منهم بين مصدّق وغير مصدق، لقد بزّت المجازر والمذابح أشد التوقعات سوءاً، وأثبتت أنه ليس بوسع أحد من السوريين الافتراء أو التجني على النظام. في هذا المضمار أيضاً دللت الثورة على الأخلاقية العالية للسوريين، إذ ليس بوسع مداركهم التكهن بالحدود القصوى للوحشية، وليس بوسعهم تخيّل التحلل التام مما هو إنساني. في بابا عمرو، مثلاً، ظنت إحدى العائلات أنها نجت بعد قصف مدفعي وصاروخي متواصل لمدة شهر باستثناء فقدان طفلها لأطراف أصابعه. فيما بعد أثبتت الفحوصات الطبية أن الطفل لم يفقد أطراف أصابعه بفعل شظية، لقد أكل الطفل أصابعه من الخوف حينما كان مختبئاً تحت المغسلة هرباً من القصف؛ لعل حالة هذا الطفل تشفي غليل القتلة من الناجين الأحياء!

أن يسقط صاروخ أو قذيفة كل خمس دقائق، هذا يعني اهتزاز محتويات البيوت التي لم تُدمر بعد، ويعني أن ساكنيها لن يستفيقوا من صدمة الصاروخ الأول قبل سقوط التالي، ولأن القصف يشتد ليلاً فسيصعب إقناع الأطفال بالنوم، أو بعدم الاستفاقة وهم مذعورين. لكن مَن عاشوا هذا السيناريو الرهيب يعرفون هول ما سيحدث عندما يتوقف القصف، حينئذ وبعد أن تكون الأبنية قد سُوّيت بالأرض يدخل الرعب الراجل ليتفقد الناجين من القصف، يدخل أولئك المدججون بالرشاشات والسكاكين لمعاقبة الذين عاندت أرواحهم الموت. مَن واجهوا تنكيل ما بعد القصف لم تتح لهم الفرصة أبداً ليشرحوا لنا معنى “الأفظع”، فقط تركوا جثثهم المشوهة أو المقطَّعة لتدل عليه.

التفاؤل والموضوعية يقتضيان القول إن النظام، باعتماده القصف على نطاق معمم، يدخل طور الإفلاس النهائي ويقترب حثيثاً من السقوط، لكن هذا لا يقدّم عزاء جيداً لأسر الضحايا ما دام قادراً على إيقاع المزيد من القتلى يومياً.

يتوق السوريون إلى نهاية استحقوها على الأقل منذ سالت دماء المتظاهرين في بداية الثورة. هم بالتأكيد لن يتراجعوا عن نيل حريتهم مهما كلفهم ذلك، ومع الأسف إن عبارة “مهما كلفهم ذلك” تخرج يومياً من إطار المجاز، ويتحداها النظام بقدرته المدهشة على ارتكاب ما لا يخطر في أكثر المخيلات سادية. ستأتي النهاية بعد أن يختبر أطفال سوريا أصوات القصف اليومي، وقد يحتاج الناجون منهم سنوات لاستيعاب وجود طائرات تنقل الركاب بدلاً من إلقاء القنابل، أما الطفل الذي أكل أصابعه فلا يُنصح أصحاب القلوب الضعيفة بقراءة قصته، يكفيهم رأفة بهم أن يأخذوا علماً بما يحدث على طريقة الخبر العاجل. ولأن تعداد المدن والبلدات السورية قد يطول، بوسعنا إجمال الحالة الآن بأن سوريا كلها.. فوق القصف.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى