مراجعات كتب

“الجنس في العالم العربي”: تحدي الإبهام الهائل/ محمد حجيري

 

 

يقول الباحث والأكاديمي سمير خلف في اختتامه أو تذييله لكتاب “الجنس في العالم العربي”(*) أنه “على الرغم من الحجم الضخم بلا رحمة للأبحاث والكتابات التي تناولت النوازع الجنسية، بمعالجة اكاديمة رائعة، تستمر قضايا تتعلق بالنوازع الجنسية (…) في إثارة الريبة والاضطراب والقلق الاخلاقي، ويبقى الإبهام الهائل يكتنف محاولات كشف غموض هذه المصادر الإنسانية الأشد بدائية”.

لقد فاقمت العولمة وعصر ما بعد الحداثة من الاحساس بالشك والاضطراب الأخلاقي. وازدادت وتيرة الاضطراب مع رواج العوالم الرقمية المتوفرة بنقر الماوس، ورغم كل ما يحصل من تحولات جنسية في ما يخص الشباب والجسد والموضة “تُنكر النوازع الجنسية الانثوية الجامحة بوصفها فتنة”، وتعتبر مصدراً لـ”الغواية والعماء في المجتمع”، يتجلى هذا الأمر في “جرائم الشرف” وختان النساء و”رتق” غشاء البكارة، على اعتبار ان العذرية هي “الرأس المال” الأعز للمرأة في المجتمع الشرقي، وبحسب سمير خلف انه على الرغم من المضامين المؤلمة لتلك النوازع “لم يجر أي جدال عام صريح ينطوي على معرفة هذه القضايا”، و”بعض الصور المعاصرة للطبيعة الثنائية للمرأة وللنوازع الجنسية العربية تستمر في تخليد المفاهيم الخاطئة نفسها التي نشرها الرومانسيون والأوروبيون والاستعماريون”، وقصدهم “أن النساء المسلمات إما شرهات وشبقات جنسياً او خانعات مقهورات ومكبوتات”…

وهذه المفاهيم لم تبق بلا تحدٍّ. سعت حفنة من المثقفين المعاصرين، الى تعيين العناصر المحددة للنوازع الجنسية في الإسلام وتوضيح اثرها في البنية الاجتماعية للزواج، والجندر، والرغبة الجنسية، والحب الرومانسي، وقدم عدد من المثقفين العرب تحليلات ثاقبة للتفاعل بين النوازع الجنسية والاستعمار والامبريالية. إلأ ان هذا الاستكشافات “تبقى مشحونة سياسية ومنظمة ثقافيا”، وكتاب “الجنس في العالم العربي” هو ثمرة مؤتمر شارك فيه مجموعة من الباحثين انطلاقا من فكرة “إنّ المواقف من الحياة الجنسية تعكس حالة المجتمعات العربية، المرتبطة بدورها بالسياسة…”، “كما إنّ التذمّر من التطرّف الديني، أو انعدام الديموقراطية، لا ينفع إلا إذا فهمنا طبيعة المجتمع، لأن التغيير السياسي يتطلّب إصلاحاً اجتماعياً أيضاً…:.

ذكورة

يتفحّص المساهمون في هذا الكتاب الذكورة والمخيّلة، الاستعمار والصحّة الجنسية، الفانتازيا والعنف… بحيث تغدو مظاهر الإبداع الأدبي، إلى جانب التاريخ وعلوم الاجتماع والنفس، مصابيح يدوية، تسلّط الضوء على واقع لطالما حجبته المحرّمات، “من دون نزع السحر عن الجنس كمصدر للإلهام والمكبوت. لكن الأمر يتعدّى الفضول البحثي، والتلصّص الرصين…”.

يلقي الباحث جون غانيون، أضواء على النماذج المتغيرة، على هيئة بحث في الجنس، يكافح ليكتشف الطبيعة المتغيرة للنازع الجنسي، وللجندر وللحياة التناسلية. يبيّن غانيون التغيير الذي طرأ على نظرة الأوروبيين إلى الجنس وأنه كانت لهم أربع استراتيجيات مختلفة في ما يتعلق بالمستعمَر: أولاها، القضاء على كل النظم والثقافات المحلية واستبدالها بنظم سياسية بل حتى دينية أوروبية ثانيها، حصر السكان الأصليين في مناطق محدودة لإعطاء انطباع عن أرض قفرة كي يحتلها الأوروبي، الخيار الثالث كان خلق مؤسسات اصطناعية مع بذل مجهود لتبشير السكان المحليين ورابعاً، خلق ثقافات ثالثة كما في مناطق الشرق الأوسط والصين والهند.

من المقالات المتعلقة بلبنان تتناول اثنتان النوازع الجنسية في القرنين التاسع عشر وأول العشرين. فينس هانسن في “النوازع الجنسية، الصحة والاستعمار في بيروت ما بعد حرب 1860″، يظهر التباين بين الطبقة المتعلمة، من جهة، والنظام الذكوري والمحسوبية ومفاهيم الشرف من جهة أخرى، فضلاً عن تفاقم التوتر بين مدينة بيروت والجبل. ويذكر مفصلاً تقرير طبيب فرنسي أكد ضرورة عزل البغايا في منطقة خاضعة لتفتيش الشرطة والفحص الطبي خوف أن تتعرض الجالية الفرنسية الكبيرة في بيروت لأمراض جنسية. هنا تتضح العلاقة بين النوازع، الصحة والاستعمار والعنصرية التي خلفها.

وبينما كان هانسن يبدي اهتمامه بالانفصال بين التوقعات الجنسية للطبقة الوسطى الجديدة ومرونة الثقافة التقليدية، انتقل أكرم خاطر (“كالذهب الخالص: النوازع الجنسية والشرف بين المهاجرين اللبنانيين”)، بتحليله الى معاناة المهاجرين اللبنانيين وأسباب قلقهم في صراعاتهم للتكيف مع متطليات “المهجر”، ويستشهد بما كتبه رجال لبنانيون في المهجر عن أن عمل المرأة يفسد أخلاقها وأن خروجها إلى الفضاء العام للعمل يقضي على قيم اللبنانيين او السوريين الأخلاقية والثقافية. فأحد الصحافيين كتب في مجلة “الهدى” يشجب عمل المرأة ويعتبره “مرضاً تصيب جراثيمه الأجساد”، وخلال فترة الثلاثين عاما التاريخية، محط اهتمام خاطر(1890 – 1920) كانت الصحافة العربية في المهجر لا ترحم في التعبير عن القلق بشأن التهديدات التي يتعرض لها “شرف المرأة”، واصبحت عبارة “فتاة عاملة في مصنع” لقباً معادلاً للنساء الساقطات جنسياً. ويقدم مقالة غسان الحاج “الهجرة، الذكورة المهمشة” تحليلا علميا ودقيقا لكلام قروي لبناني مهاجر لتبين أنه أصيب بـ”خلل في الانتصاب” أو “الاخصاء الرمزي” بعد هجرته من لبنان وهذا ارتبط بفقدانه سلطة الذكر الاجتماعية التي كانت له في قريته، ويبرهن الحاج على “أنّ خسارة الجسد لقوته الجنسية بحد ذاتها هي رمز خسارته سلطته الاجتماعية”.

جنس الخادمات

وفي مقالة “النوازع الجنسية والخادمة” يركز راي جريديني على أن معظم الناس لا ينظرون إلى الخادمة على أنها إنسان بل “شيء” يمكن استغلاله، فيتناول شيوع العلاقات الجنسية بين الخادمات وذكور العائلة، ويظهر مواقف الناس المتناقضة من هذه الظاهرة: فقد تعتبر تهديداً لشرف العائلة، بخاصة إذا كانت العلاقة مع رب المنزل، أو وسيلة لإشباع غرائز الصبيان الجنسية. وتتناول كريستا سالاماندرا “عاصمة العفة (دمشق)”، في فصل مستمد من بحث ميداني اثنوغرافي اجري بين 1992 و1994 بين طبقات النخبة في دمشق، يبحث في الاستهلاك وحب الظهور والتمييز الاجتماعي بين النساء… والنساء الدمشقيات يحرصن على الاستفادة الفعالة من كل الخدع لجعل اجسادهن مثيرة جنسيا كجزء من لعبة التنافس لغواية وجذب الذكر وتحديقه. انهن أيضا يرسلن رسالة مربكة: هي أنه “يمكن للرجال أن ينظروا فقط، لا أن يلمسوا”. وتستفيد الباحثة من تحليل بيير بورديو للتمييز، والتذوق، ووعي الصورة، لتستكشف كيف تتلاعب نساء الطبقة الوسطى السورية بمظهر النقاء والعفة الجنسية كشكلين من أشكال الرأسمال الاجتماعي…

نحافة

وتكتب إينجل م فوستر بحثاً بعنوان “في عين أي مشاهد” سيرة إلهام مع جسدها، انطلاقاً من سؤال “بأي طريقة تتكيف لفتيات في تونس مع الضغوط الاجتماعية للحفاظ على نحافتهن؟ على ان أعراض التوتر وانعدام المعايير الأخلاقية تلك لا تبرز فقط بين النساء في مجتمعات دمشق وتونس المغرقة في التقاليد والمحافظة، انها تسود ايضا في اواسط طلاب اكثر تحررا وتساهلا نسبيا في الجامعة الاميركية – بيروت… ان روزان خلف تشكل في دراستها برسم الورطة الغريبة التي واجهتها اثنتان من طالباتها لأنهما غير قاردتين على المشاركة في مناقشة الدرس الجريئة… وبكلمات روزان خلف”إن الطالبة المحافظة، التي يبدو عليها الخوف الخارجي، مع زميلتها المتحررة والجريئة، التي تتباهى بالحلقات المغروزة في لسانها وفي اجزاء اخرى من جسمها التي لا يغطيه الكثير من الملابس كأوسمة الشرف والجرأة تمثلان الانماط المتطرفة التي، الي تظهر، دون ادنى شك، في اماكن اخرى في العلم العربي”.

ويقدم سفيان مرابط تحليلا حميما وذاتيا للمقومات المائعة والمتقبلة للمثلية الجنسية المهاجرة – بشائر مجتمع أو عالم سري في بيروت ما بعد الحرب. يركز مرابط على تيارات مختلفة في بيروت تقترب لتوجد ما يسميه عالم المثليين. وتوفرت لجاريد ماكورميك مواد ملموسة عن هذه الظاهرة وباتت علنية سواء من خلال الجمعيات أو المناقشات، لكنه يكشف ان معظم اللبنانيين لا يزالون يعارضون اعتبار اسلوب حياة المثليين مقبولا.

ولكي يرصد أسعد خيرالله المخيلة الجنسية في الشعر العربي ركز على شاعرين هما: أمجد ناصر صاحب “سرّ من رآك”، وعبده وازن مؤلف “حديقة الحواس”. أما ماهر جرار في بحثه “الجنوسة والرواية العربية”، فيتبنى منظوراً شارحاً اقتطفه من جيفري ويكس وانتوني غيدنر، وهو ان النازع الجنسي لا يعطى او يعد مسبقا، ولكي يستكشف كيف تستخم الرواية الجنسية بعد الحرب النوازع الجنسية وتقديمها بلغة اكثر صراحة وحيوية للافصاح عن افعالها مع المشهد الاجتماعي الثقافي الذي يضمها، يستخدم جرار ابطال ثلاث روايات لبنانية تبين شيئا من الاحجام عن تصوير لقاءات جنسية حيوية، تقترب احيانا من الاخيلة المثيرة والاباحية القاسية.

ولعل أفضل تكثيف للكتاب جاء في مقولة لجيفري ويكس، ترد في مفتتح الكتاب: “يبدو أن الصراع من أجل مستقبل المجتمع، بالنسبة الى الكثيرين، يجب أن يجري على أرض النوازع الجنسية المعاصرة. والكتاب باختصار جزء من هذا الصراع…”.

(*) “الجنس في العالم العربي”، صدر في بيروت عن “دار الساقي”، إعداد: سمير خلف وجون غانيون، ترجمة: أسامة منزلجي.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى