صفحات العالم

مبادرة الجامعة 2: حلٌّ من فوق إلى تحت


نقولا ناصيف

بعدما رجّحت الأيام المنصرمة انكفاءها تحت وطأة تفاقم الأزمة السورية، اندفعت الجامعة العربية في الوجهة الأكثر استفزازاً للنظام. طرحت تسوية سياسية لا تقتصر على رفض دمشق لها، بل تضاعف حماسة الطرفين للعنف. بعد أزمة نظام مع معارضيه، أزمة رئيس مع الجامعة

حمل قرار وزراء الخارجية العرب، الأحد، مبادرة الجامعة العربية من نطاقها الأمني إلى آخر سياسي. اقترح تسوية متدرّجة للأزمة السورية تبدأ من فوق لا من تحت. وخلافاً لما توخّته خطة العمل الأولى للجامعة منذ بدء تحرّكها نحو دمشق، عبر موفديها ثم مهمة المراقبين العرب ـــ وقد أضحت هذه الآن هامشية ـــ وهو تهدئة الأرض بوقف دورة العنف والأعمال العسكرية والقتل وإطلاق المعتقلين وسحب الجيش إلى ثكنه والخوض من ثمّ في حوار وطني ينطلق به الحلّ من تحت إلى فوق، طرحت الأحد آلية مختلفة تبدأ بتنحّي الرئيس بشّار الأسد وتنتهي بتقويض ركائز حكمه.

بدت التسوية الجديدة في الظاهر أقرب إلى الحلّ اليمني. إلا أنها أقرب كذلك إلى كثير من مشاريع تسويات سياسية مشابهة اقترحتها الجامعة، أو الدول الأوسع تأثيراً فيها في أوقات متفاوتة، كالسعودية والكويت وسوريا ومصر، على لبنان قبل عقود لإنهاء الحرب الأهلية وإعادة بناء الدولة والنظام.

بيد أن وضع الحلّ اليمني موضع التطبيق في سوريا، لا يبدو بمثل سهولة إنجاز ذلك الحلّ الذي شهد في اليومين المنصرمين أحد أبرز فصوله، وهو مغادرة الرئيس علي عبد الله صالح بلاده إلى الولايات المتحدة، متخلّياً عن السلطة قبل انتهاء ولايته السنة المقبلة.

بضعة مبرّرات قد تقف في طريق خطة العمل العربية الثانية:

1 ـــ بعدما نجح الحلّ اليمني، إلى الآن على الأقل، في إخراج صالح من معادلة النزاع السياسي الداخلي في بلاده ووضعها على طريق حوار وطني بين أفرقائها، تسلّح الطرفان الأكثر تأثيراً في الجامعة العربية في الوقت الحاضر، وهما السعودية وقطر، بنجاح المبادرة الخليجية ـــ وكلتاهما في صلبها ـــ وأظهراها نموذجاً يُحتذى به وقابلاً للتعميم. إلا أن سوريا رفضت سلفاً الآلية الجديدة بسبب مقاربتها الأزمة على نحو مناقض تماماً: تزامن الحلّين الأمني والسياسي تحت سقف النظام الذي يعني أولاً وأخيراً الرئيس، لا في معزل عنه أو من دونه، الأمر الذي تجاوزته مبادرة الجامعة عندما وجدت في تنحّي الأسد وتفويضه صلاحياته إلى نائبه توطئة للانتقال بالبلاد من نظام إلى آخر، بين فريقين اعترفت بوجودهما، هما النظام ومعارضوه، شريكين في حكومة الوحدة الوطنية، ليس الرئيس السوري أحدهما.

يروي الذين اطّلعوا عن قرب على الإعداد لخطاب الأسد في جامعة دمشق، في 10 كانون الثاني، أن مناقشات مستفيضة استغرقت بضعة أيام أجراها مع معاونيه قبل إلقاء الخطاب حول العبارة المناسبة التي تستبدل «حكومة الوحدة الوطنية» و«حكومة الاتحاد الوطني» و«حكومة المصالحة الوطنية» بأخرى، هي «حكومة موسّعة». لا يعترف النظام بالمصطلح الذي أعادت تأكيده مبادرة الجامعة، ولا يقارب ما يجري على أنه نزاع أهلي، ولا يريد الاعتراف بانقسام وطني، وأن المعارضة ندّ النظام.

والواقع أن مخاطبة الأسد الحشود المؤيدة له في قلب دمشق، في 11 كانون الثاني، في حضور زوجته وولديه، مع كل ما تعنيه هذه الدلالة في السلوك العشائري العلوي، وتأكيد رفضه الاعتزال، مثّلا ردّاً مبكراً على تمسّكه بالسلطة، وتجاهله أي ضمان أو حصانة كاللتين وفّرتهما السعودية للرئيس اليمني، وقد شكّلت دعامة رئيسية لحكمه في مواجهة معارضيه تارة، وفي جبه الحوثيين وتنظيم «القاعدة» طوراً.

2 ـــ عندما تضع مبادرة الجامعة الأسد خارج التسوية السياسية، تنظر إليه على أنه العقبة الرئيسية في طريق العودة بسوريا إلى الاستقرار، واسترجاع علاقاتها بالمجتمعين العربي والدولي. يتخذ هذا الموقف بعداً شخصياً أيضاً في ضوء أكثر من تجربة خبرها بعض الزعماء العرب في علاقتهم بالرئيس السوري الذي غالباً ما وجّه إليهم انتقادات حادة، آخرها في خطاب 10 كانون الثاني، وأجمَلَ الجامعة برمتها. كان قد قال كلاماً أكثر حدّة في 15 آب 2006 في خضم حرب تموز ناعتاً زعماء عرباً بأقسى النعوت.

وقد تعكس علاقة دمشق بالمملكة منذ 2005، مع كل ما رافقها حتى مصالحة 2008 ثم التعاون ثم انهيارها مطلع 2010، وكذلك علاقتها بقطر في الفترة نفسها وصولاً إلى اتفاق الدوحة منتصف 2008 ثم تقويضه مطلع 2010، النموذج الأفضل للخلل الذي ضرب العلاقات العربية ـــ العربية في السنوات الأخيرة تحت وطأة التحالف مع إيران، وأخلّ بتوازن القوى في العراق ولبنان وفلسطين، وامتدت تداعياته إلى البحرين واليمن.

3 ـــ رغم أن قرار الجامعة طعن ضمناً في شرعية الأسد عندما طلب انتقال صلاحياته إلى نائبه، لم يُضفِ على المعارضة السورية، وخصوصاً المجلس الوطني، شرعية مقابلة لا يزال يحتاج إليها المجلس منذ تأليفه في 23 آب، ضائعاً بين تأييد المبادرة العربية وبين رفضها، وبين إصراره على التدخّل الخارجي وإصرار معارضة الداخل على رفضه. إلى اليوم، لم يحظَ المجلس سوى باعتراف النظام الليبي الجديد، ولا يُنظر إليه على أنه بديل جدّي وموثوق به من نظام الأسد، ولا كذلك إلى أي طرف آخر في المعارضة السورية في الداخل والخارج. كل ذلك بالتزامن مع إصرار الغرب، والعرب منذ الأحد، على اعتزال الأسد فوراً. تطرح الجامعة تسوية رفضها المجلس الوطني تجمع نظام الأسد ـــ بلا الأسد ـــ بأفرقاء المعارضة في ظلّ نائب الرئيس في مرحلة انتقالية. وهي بذلك لا تقارب ما يجري في سوريا على أنه أزمة أمنية كالرئيس السوري، أو أزمة سياسية وأزمة نظام الحزب الواحد كأفرقاء المعارضة جميعاً، بل أزمة رئيس.

4 ـــ يبدو من البساطة الاعتقاد بأن الانتقال السلمي للسلطة من رئيس إلى آخر في تونس ومصر واليمن، يصلح تعميمه على سوريا التي لم يسبق أن خبرت انتقالاً سلمياً للسلطة منذ عام 1949، سنوات قبل وصول البعث إلى السلطة وفي ظلّه. لم يسبق لها منذ تلك السنة أن اختبرت وصول قوة أو حزب إلى الحكم في معزل عن الجيش. لم يحكم سوريا مذ ذاك رئيس، فيما هناك رئيس آخر سابق يعيش حياة هادئة في منزله أو ضيعته.

ومع أن تنحّي رؤساء تونس ومصر واليمن طوعاً لم يفضِ تماماً إلى انتقال السلطة من حقبة إلى أخرى، ولم يُرسِ نظاماً جديداً على أنقاض آخر عاش أكثر من ثلاثة عقود، فإن مطابقة هذا القياس على سوريا لا يؤدي حكماً إلى نتائج مشابهة، أو إلى حصيلة إيجابية.

لم يحكم أيّ من الرؤساء الثلاثة بحزب حاكم إلا في مرحلة متقدّمة من حصر كل السلطات والصلاحيات بين يديه، كي يضفي على نظامه في ما بعده مسحة ديموقراطية وتمثيلية عبر حزب حاكم، سيطر على الغالبيتين النيابية والحكومية سنوات طويلة.

ليست التجربة كذلك في سوريا. سبق حزب البعث الرئيس، وقبض الرئيس على السلطة في ظلّ حزبه الذي مثّل، ولا يزال، الطبقة الأكثر نفوذاً في البلاد، على وفرة ما قيل بعد انتخاب الأسد الابن إنه قلّل من تدخّل حزبه في الحكم. لا تقتصر هذه الطبقة على الرئيس ومعاونيه فحسب، كمصر وتونس واليمن وليبيا، بل تمتد موغلة في قواعد في الاقتصاد والمال والأمن والجيش والإدارة والتجارة والعلاقات الخارجية المتشعّبة، واسعة التأثير والاستقطاب لدى العلويين والسنّة، وتستميل المسيحيين، وتمثّل تقاطعاً عريضاً ومخضرماً لمصالح سياسية واقتصادية ومالية وأمنية وعقائدية، جعلتها العقود المتتالية صاحبة أوسع شبكة نفوذ وتأثير في البلاد، وأقوى مصدر دعم وتأييد للرئيس ولاستقرار نظامه وتجنيبه الخضّات. لم تكن الجبهة الوطنية التقدّمية، ولا الحكومة، ولا مجلس الشعب، مرة في هذه الطبقة. ذلك ما يعنيه امتلاك الأسد حتى الآن، في ظلّ نظامه، الشعبية الأوسع التي تمكّنه في كل آن من إظهار أوسع عراضة شعبية تتمسّك به وبنظامه في قلب العاصمة وفي مدن أخرى.

الأخبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى