صفحات المستقبل

في حروب التحرير الشعبية


في حروب التحرير الشعبية يُتبع أسلوب حرب العصابات وهو أسلوب يمنح القوى الثورية المسلحة إمكانية الاستمرار لفترات طويلة وبخسائر محدودة نسبيا , ونظرا للفارق الكبير في موازين القوى بين القوى الثورية المسلحة و القوى النظامية كبيرة العدد و عالية التسليح فإن القوى الثورية المسلحة تعمل على استنزاف و إنهاك القوى النظامية من خلال هذا الأسلوب , و أسلوب حرب العصابات يعتمد على مجموعة نقاط تعتبر نقاط قوة ذاتية وشبه كافية في غياب أو شح الدعم الخارجي

    تستفيد القوى الثورية المسلحة من البيئة الجغرافية المتوفرة وتتوزع فيها وتبتعد عن التمركز في التجمعات السكانية وخاصة الكبيرة منها ” المدن ” حيث أن التمركز في المدن يصيب تكتيك حرب العصابات في مقتل ويحولها إلى حرب مدن وهو نمط من المواجهة لا ينسجم مع منهجية حرب العصابات , فحرب المدن غالبا ما تحصل بين قوى شبه متوازنة عسكريا ” كما هو معروف في تاريخ الحروب ” , و حين يحصل بين القوى الثورية المسلحة والقوى النظامية فإنه يحصل ” كما تفيد تجارب حروب التحرير الشعبية” في مرحلة متقدمة من الصراع غالبا ما تكون فيها القوى الثورية المسلحة على مشارف النصر.

 أما الدخول في حرب مدن في مرحلة مبكرة فهذا يعني سحب كل نقاط القوة من القوى الثورية المسلحة ومحاصرتها و إفشالها , عداك عن تعريض المدنيين العزل لخطر الإبادة خاصة في حال كانت القوات النظامية _وهو حال قوات نظام العصابات _ منفلتة في ممارسة قمة العنف والهمجية والتوحش بلا أي حد أدنى من رادع أخلاقي أو قانوني

الجبال , الأحراش , الغابات , الجرود , المزارع … تشكل بيئة جغرافية مناسبة لحرب العصابات_ وهي متوفرة في معظم المناطق الثائرة _ حيث تحمي الثوار وتقدم لهم شكل من أشكال الإمداد المجاني ولو جزئيا ” ماء , غذاء , وقود تدفئة …” كما أنها تنهك القوات النظامية بشرياً وعتاداً وتمويناً ونفسياً و زمنياً

    الحاضنة الاجتماعية هي منبع لا ينضب من منابع قوة الثوار , حيث يقوم السكان المحليين وهم في العموم تجمعات ريفية ” قرى , بلدات , مزارع … ” بإمداد الثوار بالتموين ” غذاء , مواد طبية , أجهزة , ألبسة … ” , إمداد الثوار بالمعلومات , إمداد الثوار بعناصر بشرية جديدة ” ثوار جدد ” , إضافة للخدمات المدنية و الإحاطة الاجتماعية التي تشكل دعم نفسي مهم لاستمرار الثوار

    وفق أسلوب حرب العصابات المتبع في حروب التحرير الشعبية يعمل الثوار على الحفاظ على نقاط القوة لديهم وتعميقها وتوسيعها ومد سيطرتهم على مناطق جديدة بالتوازي مع استنزاف القوات النظامية وإنهاكها و استهدافها بالعمليات النوعية , ويحصل هذا بإجراءات كثيرة منها :

–         الحفاظ على مناطق الانتشار والتمركز ” المناطق الجغرافية المذكورة المناسبة جغرافيا وعسكريا لهذا النمط من أنماط الحروب” والتمسك بها بكل الوسائل باعتبارها نقطة القوة الأساسية للثوار من حيث كونها تعادل الخطوط الدفاعية في الحروب التقليدية , كما أنها ساحة المعركة الوحيدة المتاحة للثوار والتي تمنحهم تفوقا نوعيا , وحماية تلك المناطق من الأعمال التخريبية التي يتوقع أن تقوم بها القوات النظامية ” حرائق , تلغيم , تفجير , تلويث … الخ “

–         تأمين وحماية الطرق المحلية الأساسية والمؤقتة وتوفير الطرق البديلة خاصة طرق الإمداد و الإخلاء و الطرق الحيوية الواصلة إلى التجمعات السكانية أو إلى خارج حدود الدولة

–         إبعاد معسكرات التدريب والمستودعات الرئيسية عن خطوط التماس و إقامتها في مناطق مناسبة في العمق الجغرافي من المناطق المسيطر عليها , مع اعتبار مواقعها سرا عسكريا خطيرا محصورا بالقيادة وبالعناصر التي تخدم فيها

–         تعامل الثوار وتعاطيهم مع واقع هذه الحرب على أنه نمط حياة قد يمتد طويلا و تأهيل الثوار الجدد على الانسجام و التعايش مع هذا النمط و الرمي بعيدا بالأفكار والأوهام التي تقول بمعركة سريعة حاسمة, تجنبا لما تولده هذه الأوهام من خيبات توهن نفسية الثائر و حاضنته الاجتماعية

–         إضافة للثوار الذين لا يشاركون بشكل مباشر في الأعمال القتالية كعناصر الإمداد والإخلاء والخدمة و العناصر الطبية و الإدارية يتم تطعيم المجموعات الثورية بعناصر تعنى بالنشاطات اللاحربية تعمل على الدعم النفسي والمعنوي كالنشاطات الاجتماعية والتثقيفية والفنية والترفيهية

–         تنفيذ الثوار لعمليات نوعية خاطفة ضد القوات النظامية , كقطع طرق الإمداد و ضرب القوافل العسكرية والاستيلاء عليها أو تدميرها في البر والبحر “فإضافة سفينة محملة بالأسلحة إلى سجل السفن الغارقة أهم بكثير من إعلان تحرير حي وتخويله إلى سجل الأحياء المدمرة” , و ضرب المستودعات و الاستيلاء عليها , استهداف المواقع العسكرية الإستراتيجية والسيطرة عليها وحمايتها , استهداف القيادات وتصفيتها أي كان تخصصها وأينما وجدت , ردع المتعاونين مع نظام العصابات واستهداف وملاحقة الجواسيس والعملاء والمخبرين

–         توخي الحذر و السرية في كافة الإجراءات خاصة وسائل الاتصال والتواصل , واستخدام وسائل الاتصال الآمنة والابتعاد عن نشر المعلومات والصور و مقاطع الفيديو واللقاءات , مع ضرورة ابتكار شفرات خاصة واعتمادها كلغة للتواصل , وتكليف مجموعة من العناصر الثورية بمتابعة سرية وأمن المعلومات وتطوير هذه المجموعات لتشكل نويات لجهاز حماية أمن الثورة

–         حماية السكان المحليين وحماية محاصيلهم و ممتلكاتهم من أعمال النهب والتخريب سواء صدرت من القوات النظامية أو من عصابات جنائية , واعتبار حماية السكان و طمأنتهم و كسب ثقتهم ودعمهم أولوية من أولويات العمل الثوري التحرري

–         التمسك بالقيم الإنسانية الأخلاقية النبيلة ونشرها ومراعاتها في كافة الإجراءات و الأعمال والنشاطات الثورية و إسكات وعزل ومعاقبة الأصوات الناشزة , مما يوسع القاعدة الاجتماعية الحاضنة ويكرس تمسكها بالقوى الثورية و يزيد في أعداد المنشقين والملتحقين بالثوار

–         العمل على تشكيل إدارات محلية _من السكان المحليين من ذوي الكفاءة والمعرفة والأخلاق الحميدة_ في المناطق المسيطر عليها لتسيير أمور السكان و متابعة أعمالهم وحاجاتهم ومشاكلهم

–         العمل على تشكيل لجان شعبية من السكان المحليين لحماية المنشآت والأملاك العامة وبالأخص مباني ومحتويات دوائر القضاء والسجلات المدنية و السجلات العقارية و المتاحف والموجودات الأثرية ومصادر المياه والطاقة

ليس من الضروري أن يكون للمجموعات الثورية قيادة عسكرية مركزية موحدة خاصة في الحالات التي تكون فيها تلك المجموعات موزعة ومنتشرة على مساحات جغرافية واسعة ومنفصلة عن بعضها لأسباب طبيعية أو نتيجة قيام القوات النظامية بمحاولات عزل المجموعات الثورية ومحاصرتها _ كما يحصل _ 1خوفا من أن تشكل بتواصلها جبهة واسعة يغدو معها نشر القوات النظامية بمدى مفتوح خطرا كبيرا يهددها بالإنهاك و باحتمال التفكك نتيجة الانشقاقات ,2 و أملاً في تحويلها إلى بؤر ثورية محدودة ومعزولة يسهل التعامل معها

لكن من الضروري أن يكون للمجموعات الثورية إستراتيجية موحدة تعتمدها وتلتزم فيها كل المجموعات , بينما يترك للقيادات الميدانية في كل مجموعة اعتماد التكتيكات التي تراها مناسبة تبعا لظروفها الموضوعية و الذاتية وبما ينسجم مع الإستراتيجية العامة الموضوعة

ومن الضروري أيضا أن يكون لمجموعات الثورية قيادة سياسية موحدة , تعمل على دعمها  لوجستيا و سياسيا و إعلاميا و ماديا و تتواصل معها عبر مكاتب وعناصر الارتباط , حيث تعمل القيادة السياسة عبر تلك المكاتب على إبقاء النشاط المسلح منظما ومضبوطا بما يخدم الأهداف العليا للثورة , وبما يكفل بقاء كافة المجموعات المسلحة سائرة على منحى التلاقي باتجاه تشكيل نواة الجيش الوطني .

عماد دلا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى